وروى محمد بن عمر عن عبد الله بن عاصم الأشجعي ، عن أبيه ، وأبو نعيم عن عروة وابن شهاب : أن نعيم بن مسعود كان صديقا لبني قريظة ، فلما سارت الأحزاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سار مع قومه وهو على دينهم ، فأقامت الأحزاب ما أقامت ، حتى أجدب الجناب ، وهلك الخف والكراع ، فقذف الله تعالى في قلبه الإسلام وكتم قومه إسلامه ،
فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين المغرب والعشاء ، فوجده يصلي ، فلما رآه جلس ، ثم قال : ، وأخبره أن قريشا تحزبوا عليه ، وأنهم بعثوا إلى قريظة : أنه قد طال ثواؤنا وأجدب ما حولنا ، وقد جئنا لنقاتل محمدا وأصحابه ، فنستريح منه ، فأرسلت إليهم قريظة : نعم ما رأيتم فإذا شئتم ، فابعثوا بالرهن ، ثم لا يحبسكم إلا أنفسكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لنعيم : «فإنهم قد أرسلوا إلي يدعونني إلى الصلح ، وأرد بني النضير إلى ديارهم وأموالهم» ، فقال نعيم : يا رسول الله فمرني بما شئت ، والله لا تأمرني بأمر إلا مضيت له ، قال : وقومي لا يعلمون بإسلامي ولا غيرهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا الناس ما استطعت ، فإن الحرب خدعة» . قال : أفعل ، ولكن يا رسول الله إني أقول فأذن لي فأقول ، قال : «قل ما بدا لك ، فأنت في حل» . «ما جاء بك يا نعيم ؟ » قال : جئت أصدقك ، وأشهد أن ما جئت به حق ، فأسلم
قال : فذهبت حتى جئت بني قريظة فلما رأوني رحبوا بي وأكرموني ، وعرضوا علي الطعام والشراب ، فقلت : إني لم آت لطعام وشراب ، إنما جئتكم نصبا بأمركم وتخوفا عليكم ، لأشير عليكم برأي ، وقال : قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم ، فقالوا : قد عرفنا ولست عندنا بمتهم ، وأنت عندنا على ما نحب من الصدق والبر ، قال : فاكتموا عني . قالوا :
نفعل . قال : إن أمر هذا الرجل بلاء- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- صنع ما رأيتم ببني قينقاع وبني النضير ، وأجلاهم عن بلادهم بعد قبض الأموال ، وإن ابن أبي الحقيق قد سار فينا ، فاجتمعنا معه لننصركم ، وأرى الأمر قد تطاول كما ترون ، وإنكم والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد بمنزلة واحدة ، أما قريش وغطفان فإنهم قوم جاءوا سيارة حتى نزلوا حيث رأيتم ، فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن كانت الحرب فأصابهم ما يكرهون انشمروا إلى بلادهم ، وأنتم لا تقدرون على ذلك ، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، وقد كبر عليهم جانب محمد ، أجلبوا عليه بالأمس إلى الليل ، فقتل رأسهم عمرو بن عبد ود ، وهربوا منه مجروحين ، لا غنى بهم عنكم ، لما يعرفون عندكم ، فلا تقاتلوا مع قريش ولا غطفان حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم ، تستوثقون به منهم ألا يبرحوا حتى يناجزوا محمدا . قالوا : أشرت علينا بالرأي والنصح ، ودعوا له وشكروه ، وقالوا : نحن فاعلون . قال : ولكن اكتموا علي ، قالوا : نفعل .
ثم أتى نعيم أبا سفيان بن حرب في رجال من قريش . فقال : أبا سفيان جئتك بنصيحة ، فاكتم علي . قال : أجل . قال : تعلم أن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوا فيما بينهم وبين محمد ، فأرادوا إصلاحه ومراجعته ، أرسلوا إليه وأنا عندهم ، إنا سنأخذ من قريش وغطفان من أشرافهم سبعين رجلا ، نسلمهم إليك تضرب أعناقهم ، وترد جناحنا الذي كسرت إلى ديارهم- يعنون بني النضير - ونكون معك على قريش حتى نردهم عنك . فإن بعثوا إليكم يسألونكم رهنا فلا تدفعوا إليهم شيئا ، واحذروهم على أشرافكم ، ولكن اكتموا علي ، ولا تذكروا من هذا حرفا ، قالوا : لا نذكره .
ثم أتى إلى غطفان . فقال : يا معشر غطفان ، قد عرفتم أني رجل منكم فاكتموا علي ، واعلموا أن بني قريظة بعثوا إلى محمد- وقال لهم مثل ما قال لأبي سفيان- فاحذروا أن تدفعوا إليهم أحدا من رجالكم . فصدقوه .
وأرسلت يهود عزال- وهو بعين مهملة فزاي مشددة- ابن سموأل إلى قريش : إن ثواءكم قد طال ، ولم تصنعوا شيئا ، فليس الذي تصنعون برأي ، إنكم لو وعدتمونا يوما تزحفون فيه إلى محمد ، فتأتون من وجه ، وتأتي غطفان من وجه ، ونخرج نحن من وجه آخر ، لم يفلت محمد من بعضنا ، ولكن لا نخرج معكم حتى ترسلوا إلينا برهان من أشرافكم ، ليكونوا عندنا ، فإننا نخاف إن مستكم الحرب أو أصابكم ما تكرهون أن تشمروا إلى بلادكم ، وتتركونا في عقر دارنا ، وقد نابذنا محمدا بالعداوة . فلما جاء الرسول لم يرجع إليه أبو سفيان بشيء ، وقال- بعد أن ذهب- : هذا ما قال نعيم .
وخرج نعيم إلى بني قريظة ، فقال : يا معشر بني قريظة بينا أنا عند أبي سفيان إذ جاء رسولكم إليهم يطلب منه الرهان ، فلم يرد عليه شيئا ، فلما ولى قال : لو طلبوا مني عناقا ما رهنتها ، أنا أرهنهم سراة أصحابي يدفعونهم إلى محمد يقتلهم ، فارتأوا رأيكم ، ولا تقاتلوا مع أبي سفيان وأصحابه حتى تأخذوا الرهن ، فإنكم إن لم تقاتلوا محمدا ، وانصرف أبو سفيان ، تكونوا على مواعدتكم الأولى . قالوا : نرجو ذلك يا نعيم . وقال كعب بن أسد : أنا والله لا أقاتله ، لقد كنت لهذا كارها ، ولكن حييا رجل مشؤوم . قال الزبير بن باطا : إن انكشفت قريش وغطفان عن محمد لم يقبل منا إلا السيف ، لنخرجن إلى محمد ولا تطلبوا رهنا من قريش ، فإنها لا تعطينا رهنا أبدا ، وعلى أي وجه تعطينا قريش الرهن وعددهم أكثر من عددنا ، ومعهم الكراع ولا كراع معنا ؟ وهم يقدرون على الهرب ، ونحن لا نقدر عليه ، وهذه غطفان تطلب إلى محمد أن يعطيها بعض ثمار المدينة فأبى أن يعطيهم إلا السيف ، فهم ينصرفون من غير شيء . فلم يوافق الزبير غيره من قومه على مساعدة قريش إلا برهن .
فلما كان ليلة السبت أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل ونفرا من قريش وغطفان ، فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فأعدوا للقتال حتى نناجز محمدا ، ونفرغ مما بيننا وبينه ، فأرسلوا إليهم : إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ، وإنا لسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم ، يكونون بأيدينا ، ثقة لنا ، حتى نناجز محمدا ، فإنا نخشى أن ضربتكم الحرب ، واشتد عليكم القتال ، أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل في بلادنا ، فلا طاقة لنا بذلك منه .
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : إن الذي ذكر نعيم لحق فأرسلوا إلى بني قريظة : إنا والله ما ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا .
فقالت بنو قريظة لما سمعوا ذلك : إن الذي ذكر لكم نعيم لحق ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن رأوا فرصة انتهزوها ، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم ، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم .
وتكررت رسل قريش وغطفان إلى بني قريظة ، وهم يردون عليهم بما تقدم ، فيئس هؤلاء من نصر هؤلاء ، فاختلف أمرهم ، وخذل الله تعالى بينهم على يد نعيم بن مسعود رضي الله عنه .