الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            غزوة خيبر في المحرم سنة سبع وقيل في جمادى الأولى . قال موسى بن عقبة : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة أو قريبا منها ، ثم خرج غازيا إلى خيبر ، وكان الله عز وجل وعده إياها وهو بالحديبية .

            وقال مالك : كان فتح خيبر في السنة السادسة ، والجمهور على أنها في السابعة . وقطع أبو محمد بن حزم بأنها كانت في السادسة بلا شك ، ولعل الخلاف مبني على أول التاريخ ، هل هو شهر ربيع الأول شهر مقدمه المدينة أو من المحرم في أول السنة ؟ وللناس في هذا طريقان : فالجمهور على أن التاريخ وقع من المحرم ، وأبو محمد بن حزم يرى أنه من شهر ربيع الأول حين قدم ، ( وكان أول من أرخ بالهجرة يعلى بن أمية باليمن ) كما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح ، وقيل : عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ست عشرة من الهجرة . وقال شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، في قوله : وأثابهم فتحا قريبا ( الفتح : 18 ) قال : خيبر وحكى موسى ، عن الزهري ، أن افتتاح خيبر في سنة ست .

            والصحيح أن ذلك في أول سنة سبع كما قدمنا . وقال يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن مروان والمسور قالا : انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة ، فقدم المدينة في ذي الحجة ، فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرم ، فنزل بالرجيع ؛ - واد بين خيبر وغطفان - فتخوف أن تمدهم غطفان ، فبات حتى أصبح فغدا إليهم .

            قال البيهقي : وبمعناه رواه الواقدي عن شيوخه ، في خروجه في أول سنة سبع من الهجرة .

            وقال عبد الله بن إدريس ، عن ابن إسحاق ، حدثني عبد الله بن أبي بكر قال : لما كان افتتاح خيبر في عقب المحرم ، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم في آخر صفر . محاربة الكفار ومقاتلتهم في الأشهر الحرم ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة ، فمكث بها أياما ، ثم سار إلى خيبر في المحرم ، كذلك قال الزهري عن عروة ، عن مروان والمسور بن مخرمة ، وكذلك قال الواقدي : خرج في أول سنة سبع من الهجرة . ولكن في الاستدلال بذلك نظر ؛ فإن خروجه كان في أواخر المحرم ، لا في أوله ، وفتحها إنما كان في صفر .

            وأقوى من هذا الاستدلال بيعة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عند الشجرة بيعة الرضوان على القتال ، وألا يفروا ، وكانت في ذي القعدة ، ولكن لا دليل في ذلك ؛ لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يريدون قتاله ، فحينئذ بايع الصحابة ، ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام إذا بدأ العدو ، إنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء ، فالجمهور جوزوه وقالوا : تحريم القتال فيه منسوخ ، وهو مذهب الأئمة الأربعة رحمهم الله .

            وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير منسوخ ، وكان عطاء يحلف بالله ما يحل القتال في الشهر الحرام ، ولا نسخ تحريمه شيء .

            وأقوى من هذين الاستدلالين الاستدلال بحصار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف ؛ فإنه خرج إليها في أواخر شوال ، فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة ، فبعضها كان في ذي القعدة ، فإنه ( فتح مكة لعشر بقين من رمضان ، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرة يقصر الصلاة ) ، فخرج إلى هوازن ، وقد بقي من شوال عشرون يوما ، ففتح الله عليه هوازن ، وقسم غنائمها ، ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصرها بضعا وعشرين ليلة ، وهذا يقتضي أن بعضها في ذي القعدة بلا شك .

            وقد قيل : إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة . قال ابن حزم : وهو الصحيح بلا شك ، وهذا عجيب منه ، فمن أين له هذا التصحيح والجزم به ؟ وفي " الصحيحين " عن أنس بن مالك في قصة الطائف قال : ( فحاصرناهم أربعين يوما فاستعصوا وتمنعوا ) وذكر الحديث ، فهذا الحصار وقع في ذي القعدة بلا ريب ، ومع هذا فلا دليل في القصة ؛ لأن غزو الطائف كان من تمام غزوة هوازن ، وهم بدءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال ، ولما انهزموا دخل ملكهم وهو مالك بن عوف النضري مع ثقيف في حصن الطائف محاربين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان غزوهم من تمام الغزوة التي شرع فيها ، والله أعلم .

            وقال الله تعالى في سورة المائدة ، وهي من آخر القرآن نزولا ، وليس فيها منسوخ : ( ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ) [ المائدة : 2 ] .

            وقال في سورة البقرة : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله ) [ البقرة : 217 ]

            فهاتان آيتان مدنيتان بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام ، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ناسخ لحكمهما ، ولا أجمعت الأمة على نسخه ، ومن استدل على نسخه بقوله تعالى : ( وقاتلوا المشركين كافة ) [ التوبة : 36 ] ونحوها من العمومات ، فقد استدل على النسخ بما لا يدل عليه ، ومن استدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة ، فقد استدل بغير دليل ؛ لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ، ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية