الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا إلى خيبر - وكان الله - عز وجل - وعده إياها وهو بالحديبية ، فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة ، فأعطاه الله - تعالى - فيها خيبر : وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه [الفتح 20] - خيبر .

            قال محمد بن عمر : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالخروج فجدوا في ذلك ، واستنفر من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه ، وجاءه المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة ،

            فقال : «لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد ، فأما الغنيمة فلا» .

            قال أنس - رضي الله عنه - : وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة - رضي الله عنه - حين أراد الخروج إلى خيبر : «التمسوا إلي غلاما من غلمانكم يخدمني» فخرج أبو طلحة مردفي وأنا غلام ، قد راهقت ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل خدمته - ، فسمعته كثيرا ما يقول : «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال» رواه سعيد بن منصور .



            واستخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة . قال ابن هشام : نميلة أي بضم النون ، وفتح الميم ، وسكون التحتية ، ابن عبد الله الليثي . - كذا قال والصحيح سباع - بكسر السين بن عرفطة - بعين مهملة مضمومة فراء ساكنة ففاء مضمومة ، فطاء مهملة كما رواه الإمام أحمد ، والبخاري في التاريخ الصغير ، وابن خزيمة ، والطحاوي ، والحاكم ، والبيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنهم .

            ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكانت بيضاء . وأخرج معه أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها .

            ولما تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس شق على يهود المدينة الذين هم موادعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفوا أنه إن دخل خيبر أهلك أهل خيبر ، كما أهلك بني قينقاع ، والنضير وقريظة . ولم يبق أحد من يهود المدينة له على أحد من المسلمين حق إلا لزمه .

            وروى محمد بن عمر عن شيوخه ، وأحمد ، والطبراني عن ابن أبي حدرد بمهملات وزن جعفر - بسند صحيح أنه كان لأبي الشحم اليهودي خمسة دراهم ، ولفظ الطبراني : أربعة دراهم في شعير أخذه لأهله فلزمه . فقال : أجلني فإني أرجو أن أقدم عليك فأقضيك حقك إن شاء الله ، قد وعد الله - تعالى - نبيه أن يغنمه خيبر ، فقال أبو الشحم حسدا وبغيا : أتحسبون أن قتال خيابر مثل ما تلقون من الأعراب ، فيها - والتوراة - عشرة آلاف مقاتل ،

            وترافعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «أعطه حقه» قال عبد الله : والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها قال : أعطه حقه . قال وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال ثلاثا لم يراجع .

            قال عبد الله : فخرجت فبعت أحدا ثوبي بثلاثة دراهم ، وطلبت بقية حقه فدفعت إليه ولبست ثوبي الآخر . وأعطاني ابن أسلم بن حريش بفتح الحاء وكسر الراء وبالشين المعجمة ثوبا آخر .

            ولفظ الطبراني : فخرج به ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو يأتزر بمئزر ، فنزع العمامة عن رأسه فأتزر بها ، ونزع البردة فقال : اشتر مني هذه ، فباعها منه بالدراهم فمرت عجوز فقالت : ما لك يا صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرها ، فقالت : هادونك هذا البرد ، فطرحته عليه ، فخرجت في ثوبين مع المسلمين ، ونفلني الله - تعالى - من خيبر ، وغنمت امرأة بينها وبين أبي الشحم قرابة ، فبعتها منه .

            وجاء أبو عبس - بموحدة - ابن جبر - بفتح الجيم وسكون الموحدة ، فقال يا رسول الله ما عندي نفقة ولا زاد ولا ثوب أخرج فيه ، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شقة سنبلانية : جنس من الغليظ شبيه بالكرباس .

            [ ارتجاز ابن الأكوع ودعاء الرسول له واستشهاده ] قال سلمة : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يقول :


            اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا     فاغفر فداء لك ما اتقينا
            وألقين سكينة علينا     وثبت الأقدام إن لاقينا
            إنا إذا صيح بنا أتينا

            وبالصياح عولوا علينا

            فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من هذا السائق ؟ قالوا : عامر بن الأكوع قال : «يرحمه الله» وفي رواية «غفر لك ربك» .

            قال : وما استغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإنسان يخصه إلا استشهد .

            فقال عمر - وهو على جمل : وجبت يا رسول الله : لولا أمتعتنا بعامر
            . فقتل يوم خيبر شهيدا ، وكان قتله ، فيما بلغني ، أن سيفه رجع عليه وهو يقاتل ، فكلمه كلما شديدا ، فمات منه ؛ فكان المسلمون قد شكوا فيه ، وقالوا : إنما قتله سلاحه ، حتى سأل ابن أخيه سلمة بن عمرو بن الأكوع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وأخبره بقول الناس ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لشهيد ، وصلى عليه ، فصلى عليه المسلمون . قول عامر : اللهم لولا أنت ما اهتدينا ، قال الحافظ في هذا : القسم زحاف الخزم بالمعجمتين ، وهو زيادة سبب خفيف ، وفي الصحيح في الجهاد عن البراء بن عازب : أنه من شعر عبد الله بن رواحة ، فيحتمل أن يكون هو وعامر تواردا على ما توارد عليه بدليل ما وقع لكل منهما مما ليس عند الآخر واستعان عامر ببعض ما سبقه إليه ابن رواحة .

            الخامس : استشكل قول عامر : «فداء» بأنه لا يقال في حق الله - تعالى ، إذ معنى «فداء» نفديك بأنفسنا ، فحذف متعلق الفعل للشهرة ، وإنما يتصور الفداء لمن يجوز عليه الفناء ، وأجيب عن ذلك بأنها كلمة لا يراد ظاهرها ، بل المراد بها المحبة والتعظيم ، مع قطع النظر عن ظاهر اللفظ ، وقيل : المخاطب بهذا الشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمعنى ، لا تؤاخذنا بتقصيرنا في

            حقك ونصرك ، وعلى هذا فقوله : «اللهم» لم يقصد به الدعاء ، وإنما افتتح بها الكلام ، والمخاطب بقوله : لولا أنت النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعكر عليه قوله بعد ذلك : فأنزلن سكينة علينا :

            وثبت الأقدام إن لاقينا ، فإنه دعاء لله ، ويحتمل أن يكون المعنى ، فاسأل ربك أن ينزل ويثبت .

            وروى الحارث بن أبي أسامة عن أبي أمامة ، والبيهقي عن ثوبان - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة خيبر : «من كان مضعفا أو مصعبا فليرجع» . وأمر بلالا فنادى بذلك ، فرجع ناس ، وفي القوم رجل على صعب ، فمر من الليل على سواد فنفر به فصرعه فلما جاءوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «ما شأن صاحبكم ؟ » فأخبروه ، فقال : «يا بلال ، ما كنت أذنت في الناس ، من كان مضعفا أو مصعبا فليرجع» ؟ قال : نعم . فأبى أن يصلي عليه . زاد البيهقي ، وأمر بلالا فنادى في الناس «الجنة لا تحل لعاص» ثلاثا .

            قال محمد بن عمر : وبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطريق في ليلة مقمرة إذ أبصر رجلا يسير أمامه عليه شيء يبرق في القمر كأنه في شمس وعليه بيضة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :

            «من هذا» ؟ فقيل : أبو عبس بن جبر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أدركوه قال : فأدركوني فحبسوني ، فأخذني ما تقدم وما تأخر ، فظننت أنه قد أنزل في أمر من السماء ، فجعلت أتذكر ما فعلت حتى لحقني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : «ما لك تقدم الناس لا تسير معهم» ؟ قلت : يا رسول الله : إن ناقتي نجيبة ، قال : فأين الشقيقة التي كسوتك» قلت يا رسول الله : بعتها بثمانية دراهم ، فتزودت بدرهمين وتركت لأهلي درهمين ، وابتعت هذه البردة بأربعة دراهم ، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : «أنت والله يا أبا عبس وأصحابك من الفقراء والذي نفسي بيده ، لئن سلمتم وعشتم قليلا ليكثرن زادكم ، وليكثرن ما تتركون لأهليكم ولتكثرن دراهمكم وعبيدكم وما ذلك لكم بخير» .

            قال أبو عبس : فكان والله كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
            - .

            قال سويد بن النعمان - رضي الله عنه - : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وصل إلى الصهباء - وهي أدنى خيبر - صلى العصر ، ثم دعا بالأزواد ، فلم يؤت إلا بالسويق ، فأمر به فثري فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكلنا معه ، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا ثم صلى ولم يتوضأ .

            رواه البخاري ، والبيهقي .

            زاد محمد بن عمر : ثم صلى بالناس العشاء ، ثم دعا بالأدلاء فجاء حسيل بن خارجة وعبد الله بن نعيم الأشجعي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسيل : يا حسيل :

            امض أمامنا حتى تأخذ بنا صدور الأودية حتى تأتي خيبر من بينها وبين الشام ، فأحول بينهم وبين الشام وبين حلفائهم من غطفان» فقال حسيل : أنا أسلك بك ، فانتهى به إلى موضع له طرق ، فقال : يا رسول الله إن لها طرقا تؤتى منها كلها . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سمها لي» وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الفأل الحسن والاسم الحسن ، ويكره الطيرة ، والاسم القبيح ، فقال : لها طريق يقال لها حزن ، وطريق يقال لها : شاش ، وطريق يقال لها حاطب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تسلكها» . قال : لم يبق إلا طريق واحد يقال له : مرحب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم «اسلكها»
            . قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المدينة إلى خيبر ، سلك على عصر ، فبني له فيها مسجد ، ثم على الصهباء ، ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له : الرجيع . فنزل بينهم وبين غطفان ؛ ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر - وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم - فبلغني أن غطفان لما سمعوا بذلك جمعوا ، ثم خرجوا ليظاهروا اليهود عليه ، حتى إذا ساروا منقلة ، سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا ، ظنوا ، أن القوم قد خالفوا إليهم ، فرجعوا على أعقابهم ، فأقاموا في أموالهم وأهليهم ، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر

            التالي السابق


            الخدمات العلمية