الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            إرادته - صلى الله عليه وسلم - إجلاء يهود خيبر عنها كما وقع شرطهم ، ثم إقراره إياهم يعملون فيها ما أقرهم الله

            روى البخاري والبيهقي عن ابن عمر والبيهقي عن عروة وعن موسى بن عقبة : أن خيبر لما فتحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألت يهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم فيها على نصف ما

            خرج منها من التمر ، وقالوا : دعنا يا محمد نكون في هذه الأرض . نصلحها ، ونقوم عليها ، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها ، وكانوا لا يفرغون أن يقوموا عليها ، فأعطاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم
            - ، وفي لفظ ،

            قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم «نقركم فيها على ذلك ما شئنا ، وفي لفظ «ما أقركم الله» .

            وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم ، ثم يضمنهم الشطر ، فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شدة خرص ابن رواحة ، وأرادوا أن يرشوا ابن رواحة ، فقال : يا أعداء الله ، تطعموني السحت ؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلى ، ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض ، فأقاموا بأرضهم على ذلك .

            وفيه : جواز المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض من ثمر أو زرع ، كما عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على ذلك ، واستمر ذلك إلى حين وفاته ، لم ينسخ البتة ، واستمر عمل خلفائه الراشدين عليه ، وليس هذا من باب المؤاجرة في شيء ، بل من باب المشاركة ، وهو نظير المضاربة سواء ، فمن أباح المضاربة وحرم ذلك فقد فرق بين متماثلين . وفيه أنه دفع إليهم الأرض على أن يعملوها من أموالهم ، ولم يدفع إليهم البذر ، ولا كان يحمل إليهم البذر من المدينة قطعا ، فدل على أن هديه عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض ، وأنه يجوز أن يكون من العامل ، وهذا كان هدي خلفائه الراشدين من بعده ، وكما أنه هو المنقول فهو الموافق للقياس ؛ فإن الأرض بمنزلة رأس المال في القراض ، والبذر يجري مجرى سقي الماء ، ولهذا يموت في الأرض ولا يرجع إلى صاحبه ، ولو كان بمنزلة رأس مال المضاربة لاشترط عوده إلى صاحبه ، وهذا يفسد المزارعة ، فعلم أن القياس الصحيح هو الموافق لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين في ذلك . والله أعلم . وفيه : خرص الثمار على رءوس النخل وقسمتها كذلك ، وأن القسمة ليست بيعا .

            ومنها : الاكتفاء بخارص واحد وقاسم واحد . [ إجلاء اليهود عن خيبر أيام عمر ]

            قال ابن إسحاق : وسألت ابن شهاب الزهري : كيف كان إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر نخلهم حين أعطاهم النخل على خرجها ، أبت ذلك لهم حتى قبض ، أم أعطاهم إياها للضرورة من غير ذلك ؟ فأخبرني ابن شهاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال ، وكانت خيبر مما أفاء الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقسمها بين المسلمين ، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها ، وتكون ثمارها بيننا وبينكم ، وأقركم ما أقركم الله ، فقبلوا ، فكانوا على ذلك يعملونها

            وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة ، فيقسم ثمرها ، ويعدل عليهم في الخرص فلما توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، أقرها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيديهم ، على المعاملة التي عاملهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي ، ثم أقرها عمر رضي الله عنه صدرا من إمارته . ثم بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي قبضه الله فيه : لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان ، ففحص عمر ذلك ، حتى بلغه الثبت ، فأرسل إلى يهود ، فقال : إن الله عز وجل قد أذن في جلائكم ، قد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان : فمن كان عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود فليأتني به ، أنفذه له ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود ، فليتجهز للجلاء ، فأجلى عمر من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم .

            قال ابن إسحاق : وحدثني نافع ، مولى عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عمر قال : خرجت أنا والزبير والمقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها ، فلما قدمنا تفرقنا في أموالنا ، قال : فعدي علي تحت الليل ، وأنا نائم على فراشي ، ففدعت يداي من مرفقي ، فلما أصبحت استصرخ علي صاحباي ، فأتياني فسألاني : من صنع هذا بك ؟ فقلت : لا أدري ، قال : فأصلحا من يدي ، ثم قدما بي على عمر رضي الله عنه ؟ فقال : هذا عمل يهود ، ثم قام في الناس خطيبا فقال : أيها الناس ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا ، وقد عدوا على عبد الله بن عمر ، ففدعوا يديه ، كما قد بلغكم ، مع عدوهم على الأنصاري قبله ، لا نشك أنهم أصحابه ، ليس لنا هناك عدو غيرهم ، فمن كان له مال بخيبر فليلحق به ، فإني مخرج يهود ، فأخرجهم . وقيل لما أجمع عمر على إجلائهم ، قال رئيسهم ، وهو أحد بني الحقيق : لا تخرجنا ودعنا نكون فيها كما أقرنا أبو القاسم وأبو بكر ، فقال عمر لرئيسهم : أتراني سقط عني

            قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كيف بك ، إذا ارفضت بك راحلتك تؤم الشام يوما ، ثم يوما ؟ »

            وفي رواية : أظننت أني نسيت

            قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كيف بك إذا خرجت من خيبر يعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة»

            فقال : تلك هزيلة من أبي القاسم ، قال : كذبت ، وأجلاهم عمر ، وأعطاهم قيمة مالهم من التمر : مالا ، وإبلا ، وعروضا من أقتاب وحبال ،
            وغير ذلك. وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية . قلت : كان لعمر بن الخطاب سهمه الذي بخيبر ، وقد كان وقفه في سبيل الله ، وشرط في الوقف ما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما هو ثابت في " الصحيحين " وشرط أن يكون النظر فيه للأرشد فالأرشد من بناته وبنيه . وقلت : قد ادعى يهود خيبر في أزمان متأخرة بعد الثلاثمائة ، أن بأيديهم كتابا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيه أنه وضع الجزية عنهم ، وقد اغتر بهذا الكتاب بعض العلماء ، حتى قال بإسقاط الجزية عنهم ، من الشافعية الشيخ أبو علي خيرون ، وهو كتاب مزور مكذوب مفتعل لا أصل له ، وقد بينت بطلانه من وجوه عديدة في كتاب مفرد ، وقد تعرض لذكره وإبطاله جماعة من الأصحاب في كتبهم ، كابن الصباغ في " شامله " ، والشيخ أبي حامد في " تعليقته " وصنف فيه ابن المسلمة جزءا منفردا للرد عليه وقد تحركوا به بعد السبعمائة ، وأظهروا كتابا فيه نسخة ما ذكره الأصحاب في كتبهم ، وقد وقفت عليه ، فإذا هو مكذوب ، فإن فيه شهادة سعد بن معاذ ، ، وقد كان مات قبل زمن خيبر وفيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ، ولم يكن أسلم يومئذ ، وفي آخره : وكتبه علي بن أبي طالب وهذا لحن وخطأ ، وفيه وضع الجزية ، ولم تكن شرعت بعد ، فإنها إنما شرعت أول ما شرعت وأخذت من أهل نجران وذكروا أنهم وفدوا في حدود سنة تسع . والله أعلم .

            وفيه : جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استغني عنهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( نقركم ما أقركم الله ) ، وقال لكبيرهم : ( كيف بك إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما ) ، وأجلاهم عمر بعد موته صلى الله عليه وسلم ، وهذا مذهب محمد بن جرير الطبري ، وهو قول قوي يسوغ العمل به إذا رأى الإمام فيه المصلحة .

            ولا يقال : أهل خيبر لم تكن لهم ذمة ، بل كانوا أهل هدنة ، فهذا كلام لا حاصل تحته ؛ فإنهم كانوا أهل ذمة قد أمنوا بها على دمائهم وأموالهم أمانا مستمرا ، نعم لم تكن الجزية قد شرعت ونزل فرضها ، وكانوا أهل ذمة بغير جزية ، فلما نزل فرض الجزية استؤنف ضربها على من يعقد له الذمة من أهل الكتاب والمجوس ، فلم يكن عدم أخذ الجزية منهم لكونهم ليسوا أهل ذمة ، بل لأنها لم تكن نزل فرضها بعد .

            وأما كون العقد غير مؤبد فذاك لمدة إقرارهم في أرض خيبر ، لا لمدة حقن دمائهم ، ثم يستبيحها الإمام متى شاء ، فلهذا قال : ( نقركم ما أقركم الله ، أو ما شئنا ) ، ولم يقل : نحقن دماءكم ما شئنا . وهكذا كان عقد الذمة لقريظة والنضير عقدا مشروطا بأن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ، ومتى فعلوا فلا ذمة لهم ، وكانوا أهل ذمة بلا جزية ، إذ لم يكن نزل فرضها إذ ذاك ، واستباح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي نسائهم وذراريهم ، وجعل نقض العهد ساريا في حق النساء والذرية ، وجعل حكم الساكت والمقر حكم الناقض والمحارب ، وهذا موجب هديه صلى الله عليه وسلم في أهل الذمة بعد الجزية أيضا أن يسري نقض العهد في ذريتهم ونسائهم ، ولكن هذا إذا كان الناقضون طائفة لهم شوكة ومنعة ، أما إذا كان الناقض واحدا من طائفة لم يوافقه بقيتهم فهذا لا يسري النقض إلى زوجته وأولاده ، كما أن من أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم ممن كان يسبه لم يسب نساءهم وذريتهم ، فهذا هديه في هذا ، وهو الذي لا محيد عنه ، وبالله التوفيق .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية