الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قصة الشاة المسمومة وما وقع في ذلك من الآيات

            قال ابن شهاب - رحمه الله تعالى - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما افتتح خيبر ، وقتل من قتل ، واطمأن الناس ، أهدت زينب ابنة الحارث امرأة سلام بن مشكم ، وهي ابنة أخي مرحب - لصفية امرأته شاة مصلية ، وقد سألت : أي عضو الشاة أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟

            فقيل لها الذراع ، فأكثرت فيها من السم ، ثم سمت سائر الشاة ، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور - بمهملات - فقدمت إليه الشاة المصلية ، فتناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتف ، وفي لفظ : الذراع ، وانتهس منها فلاكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتناول بشر ابن البراء عظما ، فانتهس منه .

            قال ابن إسحاق ، فأما بشر فأساغها ، وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلفظها ، وقال ابن شهاب :

            فلما استرط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقمته استرط بشر بن البراء ما في فيه

            فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارفعوا ما في أيديكم ، فإن كتف هذه الشاة تخبرني أني نعيت فيها .


            قال ابن شهاب : فقال بشر بن البراء : والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت فما منعني أن ألفظها إلا أني أعظمت أن أنغصك طعامك ، فلما سغت ما في فيك لم أكن لأرغب بنفسي عن نفسك ورجوت ألا تكون استرطتها ، وفيها نعي . فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان ، وماطله وجعه حتى كان لا يتحول إلا أن حول . قال الزهري قال جابر : واحتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كاهله يومئذ ، حجمه أبو هند مولى بني بياضة بالقرن والشفرة ، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه .

            فقال : «ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عوادا حتى كان هذا وانقطع أبهري»
            ودخلت أم بشر بنت البراء بن معرور تعوده : يا أم بشر ، إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر قال : فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات شهيدا ، مع ما أكرمه الله به من النبوة .

            وذكر محمد بن عمر : أنه ألقى من لحم تلك الشاة لكلب فما تبعت يده رجله حتى مات .

            وقال الصحابة السابق ذكرهم - رضي الله عنهم - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى اليهودية ، فقال : «أسممت هذه الشاة ؟ » فقالت : من أخبرك ؟ قال : «أخبرتني هذه التي في يدي وهي الذراع ، قالت : نعم ، قال : «ما حملك على ما صنعت ؟ » قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك . فقلت : إن كان ملكا استرحنا منه ، وإن كان نبيا فسيخبر ، فتجاوز - وفي لفظ - فعفا عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، ثنا ليث ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود " . فجمعوا له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني سائلكم عن شيء ، فهل أنتم صادقي عنه ؟ " قالوا : نعم يا أبا القاسم . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أبوكم ؟ قالوا : أبونا فلان . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كذبتم ، بل أبوكم فلان " . قالوا : صدقت وبررت . فقال : " هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟ " قالوا : نعم يا أبا القاسم ، وإن كذبناك عرفت كذبنا ، كما عرفته في أبينا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أهل النار ؟ " فقالوا : نكون فيها يسيرا ، ثم تخلفونا فيها . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لا نخلفكم فيها أبدا " . ثم قال لهم : " هل أنتم صادقي عن شيء سألتكم ؟ " فقالوا : نعم يا أبا القاسم . فقال : " هل جعلتم في هذه الشاة سما ؟ " فقالوا : نعم . قال : " ما حملكم على ذلك ؟ " . قالوا : أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك ، وإن كنت نبيا لم يضرك .

            وقد رواه البخاري في الجزية ، عن عبد الله بن يوسف ،

            وذكر محمد بن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : «ما حملك على هذا ؟ » قالت :

            قتلت أبي وعمي وزوجي وأخي -
            فأبوها الحارث وعمها يسار وأخوها رحب وزوجها سلام بن مشكم .

            ووقع عند البزار من حديث أبي سعيد الخدري : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد سؤاله للمرأة اليهودية واعترافها - بسط يده إلى الشاة

            وقال لأصحابه :

            «كلوا باسم الله» قال : فأكلنا وذكرنا اسم الله ، فلم يضر أحدا منا .


            قال الحافظ عماد الدين بن كثير : وفيه نكارة وغرابة شديدة . قلت : وذكر محمد بن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بلحم الشاة فأحرق . حديث ذكره أبو القاسم بن عساكر ، في " تاريخه الكبير " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بعد أن أهدت له اليهودية الشاة المسمومة لا يأكل طعاما قدم له حتى يأكل منه من قدمه . واختلف في إسلام زينب بنت الحارث التي أهدت الشاة المسمومة وفي قتلها ، أما إسلامها ، فروى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري أنها أسلمت ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركها . قال معمر : والناس يقولون قتلها . وجزم بإسلامها سليمان التيمي في مغازيه ولفظه بعد قولها : «وإن كنت كاذبا أرحت الناس منك ، وقد استبان لي أنك صادق ، وأنا أشهدك ومن حضرك أني على دينك ، وأن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، قال : وانصرف عنها حين أسلمت . وأما قتلها وتركها ، فروى البيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - ما عرض لها ، وعن جابر قال : فلم يعاقبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وروى ابن سعد عن شيخه محمد بن عمر بأسانيد له متعددة هذه القصة ، وفي آخرها فدفعها إلى أولياء بشر بن البراء فقتلوها قال محمد بن عمر : وهو أثبت وروى أبو داود من طريق الزهري عن جابر نحو رواية معمر عنه ، والزهري لم يسمع من جابر ، ورواه أيضا عن أبي هريرة .

            قال البيهقي - رحمه الله - يحتمل أن يكون تركها أولا ، ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها ، وبذلك أجاب السهيلي - رحمه الله تعالى - وزاد : أنه تركها ، لأنه كان لا ينتقم لنفسه ، ثم قتلها ببشر قصاصا .

            قال الحافظ - رحمه الله تعالى - : يحتمل أن يكون تركها أولا ، ثم لما مات بشر لكونها أسلمت ، وإنما أخر قتلها حتى مات بشر لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه .

            وروى أبو سعد النيسابوري : أنه - صلى الله عليه وسلم - قتلها وصلبها ، فالله أعلم ووقع في سنن أبي داود أنها أخت مرحب ، وبه جزم السهيلي ، وعند البيهقي في الدلائل : بنت أخي مرحب ، وبه جزم الزهري كما في مغازي موسى بن عقبة وفيه أن من قتل غيره بسم يقتل مثله قتل به قصاصا ، كما قتلت اليهودية ببشر بن البراء .

            ومنها : جواز الأكل من ذبائح أهل الكتاب وحل طعامهم .

            ومنها : قبول هدية الكافر ، فإن قيل : فلعل المرأة قتلت لنقض العهد لحرابها بالسم لا قصاصا ، قيل : لو كان قتلها لنقض العهد لقتلت من حين أقرت أنها سمت الشاة ، ولم يتوقف قتلها على موت الآكل منها .

            فإن قيل : فهلا قتلت بنقض العهد ؟ قيل : هذا حجة من قال : إن الإمام مخير في ناقض العهد كالأسير .

            فإن قيل : فأنتم توجبون قتله حتما كما هو منصوص أحمد ، وإنما القاضي أبو يعلى ومن تبعه قالوا : يخير الإمام فيه ، قيل : إن كانت قصة الشاة قبل الصلح ، فلا حجة فيها ، وإن كانت بعد الصلح فقد اختلف في نقض العهد بقتل المسلم على قولين ، فمن لم ير النقض به فظاهر ، ومن رأى النقض به فهل يتحتم قتله أو يخير فيه ، أو يفصل بين بعض الأسباب الناقضة وبعضها ، فيتحتم قتله بسبب السبب ، ويخير فيه إذا نقضه بحرابه ولحوقه بدار الحرب ، وإن نقضه بسواهما كالقتل والزنى بالمسلمة والتجسس على المسلمين وإطلاع العدو على عوراتهم ؟ فالمنصوص تعين القتل ، وعلى هذا فهذه المرأة لما سمت الشاة صارت بذلك محاربة ، وكان قتلها مخيرا فيه ، فلما مات بعض المسلمين من السم قتلت حتما ؛ إما قصاصا وإما لنقض العهد بقتلها المسلم ، فهذا محتمل . والله أعلم . وإن قيل ما الجمع بين قوله - تعالى : والله يعصمك من الناس [المائدة 67] وبين حديث الشاة المسمومة المصلية بالسم الصادر من اليهودية ؟ والجواب :

            إن الآية نزلت عام تبوك ، والسم كان بخيبر ، قبل ذلك .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية