الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فصل في من تخلف معذورا من البكائين وغيرهم .

            قال الله تعالى : وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ( التوبة : 86 - 93 ).

            والمقصود ذكر البكائين الذين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم ، حتى يصحبوه في غزوته هذه ، فلم يجدوا عنده من الظهر ما يحملهم عليه ، فرجعوا وهم يبكون ; تأسفا على ما فاتهم من الجهاد في سبيل الله ، والنفقة فيه .

            قال ابن إسحاق : وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ; فمن بني عمرو بن عوف سالم بن عمير وعلبة بن زيد أخو بني حارثة ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار ، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة ، وعبد الله بن المغفل المزني وبعض الناس يقولون : بل هو عبد الله بن عمرو المزني . وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف ، وعرباض بن سارية الفزاري .

            قال ابن إسحاق : فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان ، فقال : ما يبكيكما ؟ قالا : جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا ، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه ، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه . فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه ، وزودهما شيئا من تمر ، فخرجا مع النبي صلى الله عليه وسلم . زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق أما علبة بن زيد فخرج من الليل ، فصلى من ليلته ما شاء الله ، ثم بكى وقال : اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه ، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به ، ولم تجعل في يد رسولك صلى الله عليه وسلم ما يحملني عليه ، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها ; في مال أو جسد أو عرض . ثم أصبح مع الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين المتصدق هذه الليلة ؟ " فلم يقم أحد ثم قال : " أين المتصدق ؟ فليقم " . فقام إليه فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبشر ، فوالذي نفسي بيده ، لقد كتبت في الزكاة المتقبلة " .

            وقد أورد الحافظ البيهقي هاهنا حديث أبي موسى الأشعري فقال : بسنده عن أبي موسى قال : أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله لهم الحملان ، إذ هم معه في جيش العسرة ، وهو في غزوة تبوك فقلت : يا نبي الله ، إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم . فقال : " والله لا أحملكم على شيء " . ووافقته وهو غضبان ولا أشعر ، فرجعت حزينا من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن مخافة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد في نفسه علي ، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي : أين عبد الله بن قيس ؟ فأجبته فقال : أجب ، رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك . فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خذ هذين القرينين وهذين القرينين وهذين القرينين " . لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد فقال : " انطلق بهن إلى أصحابك ، فقل : إن الله - أو قال : إن رسول الله - يحملكم على هؤلاء فاركبوهم " . فقلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء ، ولكن والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألته لكم ، ومنعه لي في أول مرة ، ثم إعطاءه إياي بعد ذلك ، لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله . فقالوا لي : والله إنك عندنا لمصدق ولنفعلن ما أحببت . قال : فانطلق أبو موسى بنفر منهم ، حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من منعه إياهم ، ثم إعطائه بعد ، فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء وأخرجه البخاري ومسلم جميعا ، عن أبي كريب عن أبي أسامة . وفي رواية لهما ، عن أبي موسى قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين ليحملنا ، فقال : " والله ما أحملكم ، وما عندي ما أحملكم عليه " . قال ثم جيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل ، فأمر لنا بست ذود غر الذرى ، فأخذناها ، ثم قلنا : تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه والله لا يبارك لنا . فرجعنا له فقال : " ما أنا حملتكم ، ولكن الله حملكم " . ثم قال : " إني والله ، إن شاء الله ، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " . .

            فائدة قال ابن القيم رحمه الله تعالى ذاكرا الفوائد المتعلقة بالأثر السابق: ومنها جواز ـ بل استحباب ـ حنث الحالف في يمينه إذا رأى غيرها خيرا منها ، فيكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير ، وإن شاء قدم الكفارة على الحنث ، وإن شاء أخرها . وقد روي حديث أبي موسى هذا : ( إلا أتيت الذي هو أخير وتحللتها ) . وفي لفظ : ( إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو أخير ) ، وفي لفظ : ( إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ) ، وكل هذه الألفاظ في " الصحيحين " ، وهي تقتضي عدم الترتيب

            وفي السنن من حديث عبد الرحمن بن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير ) ، وأصله في " الصحيحين " ، فذهب أحمد ومالك والشافعي إلى جواز تقديم الكفارة على الحنث ، واستثنى الشافعي التكفير بالصوم فقال : لا يجوز التقديم ، ومنع أبو حنيفة تقديم الكفارة مطلقا فائدة أخرى قال ابن القيم رحمه الله تعالى ذاكرا الفوائد المتعلقة بالأثر السابق أيضا:

            ومنها : انعقاد اليمين في حال الغضب إذا لم يخرج بصاحبه إلى حد لا يعلم معه ما يقول ، وكذلك ينفذ حكمه ، وتصح عقوده ، فلو بلغ به الغضب إلى حد الإغلاق لم تنعقد يمينه ولا طلاقه ، قال أحمد في رواية حنبل في حديث عائشة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ) يريد الغضب فائدة في الرد على ما قد يورده الجبرية حول الأثر السابق فصل

            ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم ) قد يتعلق به الجبري ، ولا متعلق له به ، وإنما هذا مثل قوله : ( والله لا أعطي أحدا شيئا ولا أمنع ، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ) فإنه عبد الله ورسوله ، إنما يتصرف بالأمر ، فإذا أمره ربه بشيء نفذه ، فالله هو المعطي والمانع والحامل ، والرسول منفذ لما أمر به ، وأما قوله تعالى : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) [ الأنفال : 17 ] فالمراد به القبضة من الحصباء التي رمى بها وجوه المشركين فوصلت إلى عيون جميعهم ، فأثبت الله سبحانه له الرمي باعتبار النبذ والإلقاء ، فإنه فعله ، ونفاه عنه باعتبار الإيصال إلى جميع المشركين ، وهذا فعل الرب تعالى لا تصل إليه قدرة العبد ، والرمي يطلق على الخذف ، وهو مبدؤه ، وعلى الإيصال ، وهو نهايته ذكر مجيء المعذرين من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأذن لهم فلم يعذرهم

            قال محمد بن عمر ، وابن سعد : المعذرون من الأعراب اثنان وثمانون رجلا من بني غفار

            وعن أنس ، قال: رجعنا من غزاة تبوك ، فلما دنونا من المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم" ، قالوا: يا رسول الله ، وهم بالمدينة ؟

            قال: "نعم حبسهم العذر"
            فائدة قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ) ، فهذه المعية هي بقلوبهم وهممهم ، لا كما يظنه طائفة من الجهال أنهم معهم بأبدانهم ، فهذا محال ; لأنهم قالوا له : وهم بالمدينة ؟ قال : ( وهم بالمدينة حبسهم العذر ) وكانوا معه بأرواحهم وبدار الهجرة بأشباحهم ، وهذا من الجهاد بالقلب ، وهو أحد مراتبه الأربع ، وهي : القلب واللسان والمال والبدن ، وفي الحديث : ( جاهدوا المشركين بألسنتكم وقلوبكم وأموالكم )

            التالي السابق


            الخدمات العلمية