الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فتح بيت المقدس وهو إيلياء

            في هذه السنة فتح بيت المقدس ، وقيل : سنة ست عشرة في ربيع الأول . على يدي عمر بن الخطاب .

            وذكره أبو جعفر بن جرير في سنة خمس عشرة عن رواية سيف بن عمر ، وملخص ما ذكره ، هو وغيره ، أن أبا عبيدة لما فرغ من دمشق ، كتب إلى أهل إيلياء يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام ، أو يبذلون الجزية أو يؤذنون بحرب . فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه . فركب إليهم في جنوده ، واستخلف على دمشق سعيد بن زيد ، ثم حاصر بيت المقدس وضيق عليهم حتى أجابوا إلى الصلح بشرط أن يقدم إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب . فكتب إليه أبو عبيدة بذلك فاستشار عمر الناس في ذلك ، فأشار عثمان بن عفان بأن لا يركب إليهم ; ليكون أحقر لهم وأرغم لأنوفهم ، وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم ; ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم ، فهوي ما قال علي ولم يهو ما قال عثمان . وسار بالجيوش نحوهم ، واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب ، وسار العباس بن عبد المطلب على مقدمته ، فلما وصل إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورءوس الأمراء كخالد بن الوليد ، ويزيد بن أبي سفيان ، فترجل أبو عبيدة وترجل عمر ، فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر ، فهم عمر بتقبيل رجل أبي عبيدة ، فكف أبو عبيدة ، فكف عمر . ثم سار حتى صالح نصارى بيت المقدس ، واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث ، دخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيت المقدس ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء . ويقال : إنه لبى حين دخل بيت المقدس ، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود ، وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد ، فقرأ في الأولى بسورة " ص " وسجد فيها والمسلمون معه ، وفي الثانية بسورة " بني إسرائيل " ثم جاء إلى الصخرة فاستدل على مكانها من كعب الأحبار ، وأشار عليه كعب أن يجعل المسجد من ورائه ، فقال : ضاهيت اليهودية . ثم جعل المسجد في قبلي بيت المقدس ، وهو العمري اليوم ، ثم نقل التراب عن الصخرة في طرف ردائه وقبائه ، ونقل المسلمون معه في ذلك . وسخر أهل الأردن في نقل بقيتها ، وقد كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلة ; لأنها قبلة اليهود ، حتى إن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في الصخرة ، وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة ، وهي المكان الذي كانت اليهود صلبوا فيه المصلوب ، فجعلوا يلقون على قبره القمامة ، فلأجل ذلك سمي ذلك الموضع القمامة ، وانسحب الاسم على الكنيسة التي بناها النصارى هنالك . وقد كان هرقل حين جاءه الكتاب النبوي وهو بإيلياء ، وعظ النصارى فيما كانوا قد بالغوا في إلقاء الكناسة على الصخرة حتى وصلت إلى محراب داود ، قال لهم : إنكم لخليق أن تقتلوا على هذه الكناسة مما امتهنتم هذا المسجد ، كما قتلت بنو إسرائيل على دم يحيى بن زكريا . ثم أمروا بإزالتها ، فشرعوا في ذلك ، فما أزالوا ثلثها حتى فتحها المسلمون فأزالها عمر بن الخطاب . وقد استقصى هذا كله بأسانيده ومتونه الحافظ بهاء الدين ابن الحافظ أبي القاسم بن عساكر في كتابه " المستقصى في فضائل المسجد الأقصى " .

            وذكر سيف في سياقه أن عمر رضي الله عنه ، ركب من المدينة على فرس ; ليسرع السير بعدما استخلف عليها علي بن أبي طالب ، فسار حتى قدم الجابية ، فنزل بها خطبة عمر بالجابية ومصالحة أهلها وخطب بالجابية خطبة طويلة بليغة ، منها : أيها الناس ، أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم ، واعملوا لآخرتكم تكفوا أمر دنياكم ، واعلموا أن رجلا ليس بينه وبين آدم أب حي ولا بينه وبين الله هوادة ، فمن أراد لحب وجه الجنة فليلزم الجماعة ; فإن الشيطان مع الواحد ، وهو مع الاثنين أبعد ، ولا يخلون أحدكم بامرأة ; فإن الشيطان ثالثهما ، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن . وهي خطبة طويلة اختصرناها . ثم صالح عمر أهل الجابية ورحل إلى بيت المقدس .

            وقد كتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه في اليوم الفلاني إلى الجابية ، فتوافوا أجمعون في ذلك اليوم إلى الجابية ، فكان أول من تلقاه يزيد بن أبي سفيان ، ثم أبو عبيدة ، ثم خالد بن الوليد في خيول المسلمين وعليهم يلامق الديباج ، فسار إليهم عمر ليحصبهم ، فاعتذروا إليه بأن عليهم السلاح ، وأنهم يحتاجون إليه في حروبهم ، فسكت عنهم واجتمع الأمراء كلهم بعدما استخلفوا على أعمالهم سوى عمرو بن العاص وشرحبيل فإنهما موافقان الأرطبون بأجنادين ، فبينما عمر في الجابية إذا بكردوس من الروم بأيديهم سيوف مسللة ، فسار إليهم المسلمون بالسلاح ، فقال عمر : إن هؤلاء قوم يستأمنون . فساروا نحوهم ، فإذا هم جند من بيت المقدس يطلبون الأمان والصلح من أمير المؤمنين حين سمعوا بقدومه ، فأجابهم عمر ، رضي الله عنه ، إلى ما سألوا ، وكتب لهم كتاب أمان ومصالحة ، وضرب عليهم الجزية ، واشترط عليهم شروطا ذكرها ابن جرير ، وشهد في الكتاب خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وهو كاتب الكتاب ، وذلك في سنة خمس عشرة .

            ثم كتب لأهل لد ومن هنالك من الناس كتابا آخر ، وضرب عليهم الجزية ، ودخلوا فيما صالح عليه أهل إيلياء . وفر الأرطبون إلى بلاد مصر ، فكان بها حتى فتحها عمرو بن العاص ، ثم فر إلى البحر ، فكان يلي بعض السرايا الذين يقاتلون المسلمين ، فظفر به رجل من قيس ، فقطع يد القيسي ، وقتله القيسي ، وقال في ذلك :


            فإن يكن أرطبون الروم أفسدها فإن فيها بحمد الله منتفعا     وإن يكن أرطبون الروم قطعها
            فقد تركت بها أوصاله قطعا .

            ولما صالح أهل الرملة وتلك البلاد ، أقبل عمرو بن العاص وشرحبيل ابن حسنة حتى قدما الجابية ، فوجدا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب راكبا ، فلما اقتربا منه أكبا على ركبتيه فقبلاها واعتنقهما عمر معا ، رضي الله عنهم .

            قال سيف : ثم سار عمر إلى بيت المقدس من الجابية ، وقد توجى فرسه ، فأتوه ببرذون ، فركبه فجعل يهملج به ، فنزل عنه وضرب وجهه ، وقال : لا علم الله من علمك ، هذا من الخيلاء . ثم لم يركب برذونا قبله ولا بعده ، ففتحت إيلياء وأرضها على يديه ما خلا أجنادين فعلى يدي عمرو ، وقيسارية فعلى يدي معاوية . هذا سياق سيف بن عمر ، وقد خالفه غيره من أئمة السير ، فذهبوا إلى أن فتح بيت المقدس كان في سنة ست عشرة.

            القول بأن فتح بيت المقدس كان في سنة ست عشرة قال يزيد بن عبيدة : فتحت بيت المقدس سنة ست عشرة ، وفيها قدم عمر بن الخطاب الجابية . .

            وقال أبو زرعة الدمشقي عن دحيم ، عن الوليد بن مسلم قال : ثم عاد في سنة سبع عشرة ، فرجع من سرع ، ثم قدم سنة ثماني عشرة ، فاجتمع إليه الأمراء ، وسلموا إليه ما اجتمع عندهم من الأموال فقسمها وجند الأجناد ومصر الأمصار ثم عاد إلى المدينة .

            وقال يعقوب بن سفيان : ثم كان فتح الجابية وبيت المقدس سنة ست عشرة . وقال أبو معشر : ثم كان عمواس والجابية في سنة ست عشرة ثم كانت سرع في سنة سبع عشرة ، ثم كان عام الرمادة في سنة ثماني عشرة . قال : وكان فيها طاعون عمواس . يعني فتح البلدة المعروفة بعمواس ، فأما الطاعون المنسوب إليها ، فكان في سنة ثماني عشرة .

            قال أبو مخنف : لما قدم عمر الشام فرأى غوطة دمشق ، ونظر إلى المدينة والقصور والبساتين تلا قوله تعالى : كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين [ الدخان : 25 - 28 ] . ثم أنشد قول النابغة : .


            هما فتيا دهر يكر عليهما     نهار وليل يلحقان التواليا
            إذا ما هما مرا بحي بغبطة     أناخا بهم حتى يلاقوا الدواهيا

            وهذا يقتضي بادي الرأي أنه دخل دمشق ، وليس كذلك ، فإنه لم ينقل أحد أنه دخلها في شيء من قدماته الثلاث إلى الشام ; أما الأولى ، وهي هذه ، فإنه سار من الجابية إلى بيت المقدس ، كما ذكر سيف وغيره . والله أعلم .

            وقال الواقدي : رواية أهل الشام بأن عمر دخل الشام مرتين أما رواية أهل الشام أن عمر دخل الشام مرتين ، ورجع الثالثة من سرع ، فليس بمعروف ، وإنما قدم مرة واحدة عام الجابية حين صالح أهل بيت المقدس سنة ست عشرة ، ورجع من سرع سنة سبع عشرة ، وهم يقولون : دخل في الثالثة دمشق وحمص ، وأنكر الواقدي ذلك .

            قلت : ولا يعرف أنه دخل دمشق إلا في الجاهلية قبل إسلامه .

            وقال الإمام أحمد : بسنده عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب ، أن عمر بن الخطاب كان بالجابية ، فذكر فتح بيت المقدس . قال : قال ابن سلمة : فحدثني أبو سنان ، عن عبيد بن آدم ، سمعت عمر يقول لكعب : أين ترى أن أصلي ؟ قال : إن أخذت عني صليت خلف الصخرة ، فكانت القدس كلها بين يديك . فقال عمر : ضاهيت اليهودية ، لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فتقدم إلى القبلة فصلى ، ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس . وهذا إسناد جيد اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه " المستخرج " . وقد تكلمنا على رجاله في كتابنا الذي أفردناه في مسند عمر ، ما رواه من الأحاديث المرفوعة ، وما روي عنه من الآثار الموقوفة مبوبا على أبواب الفقه ، ولله الحمد والمنة .

            وقد روى سيف بن عمر ، عن شيوخه ، عن سالم قال : لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق ، فقال : السلام عليك يا فاروق ، أنت صاحب إيلياء ، لا ها الله لا ترجع حتى يفتح الله عليك إيلياء .

            وعن أسلم مولى عمر ، عن عمر بن الخطاب ، أنه قدم دمشق في تجار من قريش فلما خرجوا تخلف عمر لبعض حاجته فبينما هو في البلد إذا هو ببطريق يأخذ بعنقه ، فذهب ينازعه فلم يقدر ، فأدخله دارا فيها تراب وفأس ومجرفة وزنبيل ، وقال له : حول هذا من ها هنا إلى ها هنا . وغلق عليه الباب وانصرف ، فلم يجئ إلى نصف النهار . قال : وجلست مفكرا ، ولم أفعل مما قال لي شيئا . فلما جاء قال : ما لك لم تفعل ؟ ولكمني في رأسي بيده ، قال : فأخذت الفأس فضربته بها فقتلته ، وخرجت على وجهي فجئت ديرا لراهب ، فجلست عنده من العشي ، فأشرف علي ، فنزل وأدخلني الدير فأطعمني وسقاني ، وأتحفني ، وجعل يحقق النظر في ، وسألني عن أمري ، فقلت : إني أضللت عن أصحابي . فقال : إنك لتنظر بعين خائف . وجعل يتوسمني ، ثم قال : لقد علم أهل دين النصرانية أني أعلمهم بكتابهم ، وإني لأراك الذي تخرجنا من بلادنا هذه ، فهل لك أن تكتب لي كتاب أمان على ديري هذا ؟ فقلت : يا هذا ، لقد ذهبت غير مذهب . فلم يزل بي حتى كتبت له صحيفة بما طلب مني ، فلما كان وقت الانصراف أعطاني أتانا ، فقال لي : اركبها ، فإذا وصلت إلى أصحابك فابعث إلي بها وحدها فإنها لا تمر بدير إلا أكرموها . ففعلت ما أمرني به ، فلما قدم عمر لفتح بيت المقدس أتاه ذلك الراهب وهو بالجابية بتلك الصحيفة ، فأمضاها له عمر ، واشترط عليه ضيافة من يمر به من المسلمين ، وأن يرشدهم إلى الطريق . رواه ابن عساكر وغيره . وقد ساقه ابن عساكر من طريق أخرى في ترجمة يحيى بن عبد الله بن أسامة القرشي البلقاوي ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، فذكر حديثا طويلا عجيبا ، هذا بعضه . تواضع عمر في دخوله الشام وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : سنده عن أبي العالية الشامي قال : قدم عمر بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق تلوح صلعته للشمس ، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة ، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب ، وطاؤه كساء أنبجاني ذو صوف ، هو وطاؤه إذا ركب ، وفراشه إذا نزل ، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفا ، هي حقيبته إذا ركب ، ووسادته إذا نزل ، وعليه قميص من كرابيس قد دسم وتخرق جيبه . فقال : ادعوا لي رأس القوم . فدعوا له الجلومس ، فقال : اغسلوا قميصي وخيطوه ، وأعيروني قميصا أو ثوبا ، فأتي بقميص كتان فقال : ما هذا ؟ قالوا : كتان . قال : وما الكتان ؟ فأخبروه ، فنزع قميصه فغسل ورقع ، وأتي به ، فنزع قميصهم ولبس قميصه . فقال له الجلومس : أنت ملك العرب ، وهذه بلاد لا تصلح بها الإبل . فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل ، فركبه فقال : احبسوا احبسوا ، ما كنت أظن الناس يركبون الشيطان قبل هذا ، هاتوا جملي . فأتي بجمله فركبه .

            وعن طارق بن شهاب قال : لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة ، فنزل عن بعيره ونزع موقيه ، فأمسكهما بيده وخاض الماء ومعه بعيره ، فقال له أبو عبيدة : قد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل الأرض ; صنعت كذا وكذا . قال : فصك في صدره ، وقال : أوه ، لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة ! إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس ، فأعزكم الله بالإسلام ، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية