الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب




            بناء الكوفة والبصرة وتحول سعد بن أبي وقاص إليها وكان سبب ذلك أن سعدا أرسل وفدا إلى عمر بهذه الفتوح المذكورة ، فلما رآهم عمر سألهم عن تغير ألوانهم وحالهم ، فقالوا : وخومة البلاد غيرتنا فأمرهم عمر أن يرتادوا منزلا ينزله الناس ، وكان قد حضر مع الوفد نفر من بني تغلب ليعاقدوا عمر على قومهم ، فقال لهم عمر : أعاقدهم على أن من أسلم منكم كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ، ومن أبى فعليه الجزية . فقالوا : إذن يهربون ويصيرون عجما ، وبذلوا له الصدقة ، فأبى ، فجعلوا جزيتهم مثل صدقة المسلم ، فأجابهم على أن لا ينصروا وليدا ، فهاجر هؤلاء التغلبيون ومن أطاعهم من النمر وإياد إلى سعد بالمدائن ، ونزلوا بالمدائن ونزلوا معه بعد بالكوفة .

            وقيل : بل كتب حذيفة إلى عمر : إن العرب قد رقت بطونها ، وجفت أعضادها وتغيرت ألوانها . وكان مع سعد فكتب عمر إلى سعد : أخبرني ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم ؟ فكتب إليه سعد : إن الذي غيرهم وخومة البلاد ، وإن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان . فكتب إليه عمر : أن ابعث سلمان وحذيفة رائدين فليرتادا منزلا بريا بحريا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر . فأرسلهما سعد ، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى الكوفة ، وسار حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى الكوفة ، وكل رمل وحصباء مختلطين فهو كوفة ، فأتيا عليها وفيها ديرات ثلاثة : دير حرمة ، ودير أم عمرو ، ودير سلسلة ، وبين ذلك خصاص خلال هذه الكوفة . فنزلا فصليا هنالك ، وقال كل واحد منهما : اللهم رب السماء وما أظلت ، ورب الأرض وما أقلت ، والريح وما ذرت ، والنجوم وما هوت ، والبحار وما جرت ، والشياطين وما أضلت ، والخصاص وما أجنت ، بارك لنا في هذه الكوفة واجعلها منزل ثبات فلما رجعا إلى سعد بالخبر وقدم كتاب عمر إليه أيضا كتب سعد إلى القعقاع بن عمرو وعبد الله بن المعتم أن يستخلفا على جندهما ويحضرا عنده ، ففعلا . فارتحل سعد من المدائن حتى نزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة ، وكان بين نزول الكوفة ووقعة القادسية سنة وشهران ، وكان فيما بين قيام عمر واختطاط الكوفة ثلاث سنين وثمانية أشهر .

            ولما نزلها سعد وكتب إلى عمر : إني قد نزلت بالكوفة منزلا فيما بين الحيرة والفرات بريا وبحريا ينبت الحلفاء والنصي ، وخيرت المسلمين بينها وبين المدائن فمن أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة . ولما استقروا بها عرفوا أنفسهم ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوتهم ، واستأذن أهل الكوفة في بنيان القصب ، واستأذن فيه أهل البصرة أيضا ، واستقر منزلهم فيها في الشهر الذي نزل أهل الكوفة بعد ثلاث نزلات قبلها .

            فكتب إليهم : إن العسكر أشد لحربكم وأذكر لكم ، وما أحب أن أخالفكم . فابتنى أهل المصرين بالقصب .

            حريق الكوفة ثم إن الحريق وقع في الكوفة والبصرة ، وكانت الكوفة أشد حريقا في شوال ، فبعث سعد نفرا منهم إلى عمر يستأذنونه في البنيان باللبن ، فقدموا عليه بخبر الحريق واستئذانه أيضا ، فقال : افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات ، ولا تطاولوا في البنيان ، والزموا السنة تلزمكم الدولة . فرجع القوم إلى الكوفة بذلك ، وكتب عمر إلى البصرة بمثل ذلك .

            وكان على تنزيل الكوفة أبو هياج بن مالك ، وعلى تنزيل البصرة عاصم بن دلف أبو الجرباء ، وقدر المناهج أربعين ذراعا ، وما بين ذلك عشرين ذراعا ، والأزقة سبع أذرع ، والقطائع ستين ذراعا ، وأول شيء خط فيهما وبني مسجداهما ، وقام في وسطهما رجل شديد النزع ، فرمى في كل جهة بسهم ، وأمر أن يبنى ما وراء ذلك ، وبنى ظلة في مقدمة مسجد الكوفة على أساطين رخام من بناء الأكاسرة في الحيرة ، وجعلوا على الصحن خندقا لئلا يقتحمه أحد ببنيان ، وبنوا لسعد دارا بحياله ، وهي قصر الكوفة اليوم ، بناه روزبه من آجر بنيان الأكاسرة بالحيرة ، وجعل الأسواق على شبه المساجد من سبق إلى مقعد فهو له ، حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه .

            وبلغ عمر أن سعدا قال وقد سمع أصوات الناس من الأسواق : سكنوا عني الصويت ، وأن الناس يسمونه قصر سعد ، فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة ، وأمره أن يخرق باب القصر ثم يرجع ، ففعل ، فبلغ سعدا ذلك فقال : هذا رسول أرسل لهذا ، فاستدعاه سعد ، فأبى أن يدخل إليه فخرج إليه سعد وعرض عليه نفقته ، فلم يأخذ ، وأبلغه كتاب عمر إليه : بلغني أنك اتخذت قصرا جعلته حصنا ، ويسمى قصر سعد بينك وبين الناس باب فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال ، انزل منه [ منزلا ] مما يلي بيوت الأموال ، وأغلقه ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله . فحلف له سعد ما قال الذي قالوا ، فرجع محمد فأبلغ عمر قول سعد ، فصدقه .

            وكانت ثغور الكوفة أربعة : حلوان وعليها القعقاع ، وماسبذان وعليها ضرار بن الخطاب ، وقرقيسيا وعليها عمر بن مالك ، أو عمرو بن عتبة بن نوفل ، والموصل وعليها عبد الله بن المعتم ، وكان بها خلفاؤهم إذا غابوا عنها .

            وولي سعد الكوفة بعدما اختطت ثلاث سنين ونصفا سوى ما كان بالمدائن قبلها . حتى عزله عنها عمر ، من غير عجز ولا خيانة . تاريخ الكوفة وفضلها وقد كان مكان الكوفة معروفا

            فعن صدقة] بن المثنى النخعي ، قال: إن إبراهيم خليل الرحمن خرج من كوثى مهاجرا إلى الله عز وجل على حمار ، ومعه ابن أخيه لوط يسوق غنما ويحمل دلوا على عنقه حتى نزل بانقيا ، وكان بها قرية طولها اثنا عشر فرسخا ، وكانوا يزلزلون كل ليلة ، فلما بات بها إبراهيم لم يزلزلوا تلك الليلة ، فمشى بعضهم إلى بعض ، فقالوا: بتم بمثل هذه الليلة قط؟ فقالوا: لا ، فقال صاحب منزل إبراهيم عليه السلام: إن كان دفع عنكم بشيء فبشيخ بات عندي البارحة لم يزل يصلي حتى أصبح ، فأتوه فقالوا: إنما خرجت لطلب المعيشة ، فأقم فينا ونقاسمك شطر أموالنا فتكون أكثر الناس مالا ، قال: ليس لذلك خرجت ، إنما خرجت مهاجرا إلى الله ، فخرج حتى نزل القادسية ، فأتته عجوز ، فقالت: إني أراك شيخا حسن الهيئة وأراك شعثا ، فهل لك أن آتيك بغسول تغسل به رأسك ولحيتك؟ قال: ما شئت ، فأتته بغسول ، فغسل رأسه ولحيته ، فأفاض عليه من الماء وأخذ فضل ما بقي من الإناء فأبعد وقال: كوني مقدسة -للقادسية- منك يخرج وفد الله ، وفيك موضع رحالهم ، فسميت بدعوة إبراهيم القادسية .

            ثم خرج نحو الشام فمر بالنجف فرأى فيه علامات وكان يقرأها في الكتب ، فقال: لمن هذا الجبل؟ فقالوا: لأهل القرية التي بت فيها -يعنون بانقيا- فأتاهم إبراهيم فظنوا أنه أتاهم للذي عرضوا عليه ، فقال: بيعوني أرضكم هذه -يعني ظهر الكوفة - فقالوا: هي لك ، ما ملكنا أرضا هي أقل خيرا منها ، ما تنبت رعيا ، ولا لنا فيها منفعة ، فاشتراها منهم بغنمه .

            وعن علي رضي الله عنه ، قال: من مسجد الكوفة فار التنور ، وكان بيت نوح عليه السلام ومسجده ، ثم جاء إبراهيم خليل الرحمن إلى كوثى وبها ابن أخيه ، فأقام عنده غير كثير ، ثم خرج حتى جاء إلى مسجد الكوفة ، فكلم ملكا كان عليها ، وقال له: إني أحب أن تبيعني هذا المكان -لمسجد الكوفة - وكان ذلك الملك تزلزل به كل ليلة [الأرض] ، فلما صار إبراهيم إليه كف الله عز وجل تلك الزلزلة ، فقال الملك: يدعو لك ، فقال: ما أريد أخذه إلا بثمن ، قال: فاشتره بما شئت ، قال: فإني آخذه بأتاني هذه وشاتي ، قال: أما الشاة فليس معك زاد إلا لبنها تشربه ، وأما الأتان فهلمها نحن نأخذها ، فاشتراها بالأتان . فبدأ أساس نوح ، وبناه بناء لاطيا على نحو من ذراع أو ذراعين ، ثم سار هو ولوط إلى الشام . وعن سفيان ، قال: أول من بنى الكوفة بالآجر خباب بن الأرت ، وعبد الله بن مسعود .

            وعن بشر بن عبد الوهاب ، أنه قدر الكوفة فكانت ستة عشر ميلا ، وثلثي ميل ، وذكر أن فيها خمسة آلاف دار للعرب من ربيعة ومضر ، وأربعة عشر ألف دار لسائر العرب ، وستة وثلاثين ألف دار لليمنيين .

            وعن إبراهيم بن إسماعيل الطلحي ، قال: حدثنا أبي] ، قال: رأيت بالكوفة في مسجد الجامع مائة حلقة فقه .

            وعن أبي ماجد ، قال: قال عمر رضي الله عنه: الكوفة رمح الإسلام ، وقبة الإسلام ، وحجة العرب ، يكفون ثغورهم ويمدون الأمصار .

            وعن علي رضي الله عنه أنه قال: إن الكوفة لقبة الإسلام ، وليأتين عليها زمان لا يبقى مؤمن إلا أتاها أو حن إليها ، والله لينصرن الله بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية