قال ابن جرير وفي هذه سبع عشرة قدم عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، إلى الشام فوصل إلى سرغ ، في قول محمد بن إسحاق . وقال سيف : وصل إلى الجابية . قلت : والأشهر أنه وصل سرغ . خطبة عمر بالجابية وخطب عمر خطبة بليغة بالجابية على قول من قال بنزوله بها
فعن موسى بن عقبة ، قال: هذه فقال: خطبة عمر بن الخطاب الناس يوم الجابية ،
أما بعد ، فإني أوصيكم بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه ، الذي بطاعته يكرم أولياؤه ، وبمعصيته يضل أعداؤه ، فإنه ليس لهالك هلك معذرة في تعمد ضلالة حسبها هدى ، ولا في ترك حق حسبه ضلالة ، وإن أحق ما تعاهد الراعي من رعيته أن يتعاهدهم بالذي لله عليهم من وظائف دينهم الذي هداهم الله له ، وإنما علينا أن نأمركم بما أمركم الله به من طاعته ، وننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته ، وأن نقيم فيكم أمر الله عز وجل في قريب الناس وبعيدهم ، ثم ولا نبالي على من مال الحق ، وقد علمت أن أقواما يتمنون في دينهم فيقولون: نحن نصلي مع المصلين ونجاهد مع المجاهدين ، وننتحل الهجرة ، وكل ذلك يفعله أقوام لا يحملونه بحقه ، وإن الإيمان ليس بالتحلي ، وإن للصلاة وقتا اشترطه الله فلا مصلح إلا به ، فوقت صلاة الفجر حين يزايل المرء ليله ، ويحرم على الصائم طعامه وشرابه . . . فذكر أوقات الصلوات ، قال: ويقول الرجل: قد هاجرت [ولم يهاجر] ، وإن المهاجرين الذين هجروا السيئات ، ويقول أقوام: جاهدنا ، وإن الجهاد في سبيل الله مجاهدة العدو واجتناب الحرام ، فإن الرجل ليقاتل بطبيعته من الشجاعة فيحمي ، فافهموا ما توعظون به ، فإن الجرب من جرب دينه ، وإن السعيد من وعظ بغيره ، وإن الشقي من شقي في بطن أمه ، وإن شر الأمور مبتدعاتها ، وإن الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة ، وإن للناس نفرة من سلطانهم ، فعائذ بالله أن تدركني ، فإياكم وضغائن مجبولة وأهواء متبعة ودنيا مؤثرة ، عليكم بهذا القرآن فإن فيه نورا وشفاء ، فقد قضيت الذي علي فيما ولاني الله عز وجل من أموركم ووعظتكم نصحا لكم ، وقد أمرنا لكم بأرزاقكم ، فلا حجة لكم على الله عز وجل ، بل الحجة له عليكم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . وقد تلقاه أمراء الأجناد : أبو عبيدة ، ويزيد بن أبي سفيان ، وخالد بن الوليد ، إلى سرغ ، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام ، فاستشار عمر المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه ، فمن قائل يقول : أنت قد جئت لأمر فلا ترجع عنه . ومن قائل يقول : لا نرى أن تقدم بوجوه أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، على هذا الوباء . فيقال : إن عمر أمر الناس بالرجوع من الغد . فقال أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ قال : نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو هبطت واديا ذا عدوتين ; إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة ، فإن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن أنت رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله . ثم قال : لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة
قال ابن إسحاق في روايته - وهو في " صحيح البخاري " : وكان عبد الرحمن بن عوف متغيبا في بعض شأنه ، فلما قدم قال : إن عندي من ذلك علما ، سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : فحمد الله عمر - يعني لكونه وافق رأيه - ورجع بالناس . إذا سمعتم به بأرض ، فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها لا تخرجوا فرارا منه
وعن سعد بن مالك بن أبي وقاص ، وخزيمة بن ثابت ، وأسامة بن زيد ، قالوا : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : إن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عذب به قوم قبلكم ، فإذا وقع بأرض أنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه ، وإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه
قال سيف بن عمر : كان الوباء قد وقع بالشام في المحرم من سنة سبع عشرة وصفر ثم ارتفع . وكأن سيفا يعتقد أن هذا الوباء هو طاعون عمواس الذي هلك فيه خلق من الأمراء ووجوه المسلمين . وليس الأمر كما زعم ، بل طاعون عمواس من السنة المستقبلة بعد هذه وذكر سيف بن عمر أن أمير المؤمنين عمر كان قد عزم على أن يطوف البلدان ، ويزور الأمراء ، وينظر فيما اعتمدوه وما آثروا من الخير ، فاختلف عليه الصحابة ; فمن قائل يقول : ابدأ بالعراق . ومن قائل يقول : بالشام . فعزم عمر على قدوم الشام لأجل قسم مواريث من مات من المسلمين في طاعون عمواس فإنه أشكل قسمها على المسلمين بالشام ، فعزم على ذلك . وهذا يقتضي أن عمر عزم على قدوم الشام بعد طاعون عمواس وقد كان الطاعون في سنة ثماني عشرة ، فهو قدوم آخر غير قدوم سرغ ، والله أعلم .
قال سيف عن أبي عثمان وأبي حارثة ، والربيع بن النعمان ، قالوا : قال عمر : ضاعت مواريث الناس بالشام ، أبدأ بها فأقسم المواريث ، وأقيم لهم ما في نفسي ، ثم أرجع فأتقلب في البلاد وأنبذ إليهم أمري . قالوا : فأتى عمر الشام أربع مرات ; مرتين في سنة ست عشرة ، ومرتين في سنة سبع عشرة ، ولم يدخلها في الأولى من الأخريين . وأما هذه المرة فإنه لم يدخلها لأجل الطاعون ، والخرجة الرابعة أذن له بلال حين حضرت الصلاة ، فبكى الناس عند ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان أشدهم بكاء عمر رضي الله عنه . وهذا يقتضي ما ذكرناه عن سيف ، أنه يقول بكون طاعون عمواس في سنة سبع عشرة . وقد خالفه محمد بن إسحاق ، وأبو معشر ، وغير واحد ، فذهبوا إلى أنه كان في سنة ثماني عشرة .