الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قال ابن جرير وفي هذه سبع عشرة قدم عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، إلى الشام فوصل إلى سرغ ، في قول محمد بن إسحاق . وقال سيف : وصل إلى الجابية . قلت : والأشهر ‏أنه وصل سرغ . خطبة عمر بالجابية وخطب عمر خطبة بليغة بالجابية على قول من قال بنزوله بها

            فعن موسى بن عقبة ، قال: هذه خطبة عمر بن الخطاب الناس يوم الجابية ، فقال:

            أما بعد ، فإني أوصيكم بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه ، الذي بطاعته يكرم أولياؤه ، وبمعصيته يضل أعداؤه ، فإنه ليس لهالك هلك معذرة في تعمد ضلالة حسبها هدى ، ولا في ترك حق حسبه ضلالة ، وإن أحق ما تعاهد الراعي من رعيته أن يتعاهدهم بالذي لله عليهم من وظائف دينهم الذي هداهم الله له ، وإنما علينا أن نأمركم بما أمركم الله به من طاعته ، وننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته ، وأن نقيم فيكم أمر الله عز وجل في قريب الناس وبعيدهم ، ثم ولا نبالي على من مال الحق ، وقد علمت أن أقواما يتمنون في دينهم فيقولون: نحن نصلي مع المصلين ونجاهد مع المجاهدين ، وننتحل الهجرة ، وكل ذلك يفعله أقوام لا يحملونه بحقه ، وإن الإيمان ليس بالتحلي ، وإن للصلاة وقتا اشترطه الله فلا مصلح إلا به ، فوقت صلاة الفجر حين يزايل المرء ليله ، ويحرم على الصائم طعامه وشرابه . . . فذكر أوقات الصلوات ، قال: ويقول الرجل: قد هاجرت [ولم يهاجر] ، وإن المهاجرين الذين هجروا السيئات ، ويقول أقوام: جاهدنا ، وإن الجهاد في سبيل الله مجاهدة العدو واجتناب الحرام ، فإن الرجل ليقاتل بطبيعته من الشجاعة فيحمي ، فافهموا ما توعظون به ، فإن الجرب من جرب دينه ، وإن السعيد من وعظ بغيره ، وإن الشقي من شقي في بطن أمه ، وإن شر الأمور مبتدعاتها ، وإن الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة ، وإن للناس نفرة من سلطانهم ، فعائذ بالله أن تدركني ، فإياكم وضغائن مجبولة وأهواء متبعة ودنيا مؤثرة ، عليكم بهذا القرآن فإن فيه نورا وشفاء ، فقد قضيت الذي علي فيما ولاني الله عز وجل من أموركم ووعظتكم نصحا لكم ، وقد أمرنا لكم بأرزاقكم ، فلا حجة لكم على الله عز وجل ، بل الحجة له عليكم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . وقد تلقاه أمراء الأجناد : أبو عبيدة ، ويزيد بن أبي سفيان ، وخالد بن الوليد ، إلى سرغ ، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام ، فاستشار عمر المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه ، فمن قائل يقول : أنت قد جئت لأمر فلا ترجع عنه . ومن قائل يقول : لا نرى أن تقدم بوجوه أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، على هذا الوباء . فيقال : إن عمر أمر الناس بالرجوع من الغد . فقال أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ قال : نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو هبطت واديا ذا عدوتين ; إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة ، فإن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن أنت رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله . ثم قال : لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة

            قال ابن إسحاق في روايته - وهو في " صحيح البخاري " : وكان عبد الرحمن بن عوف متغيبا في بعض شأنه ، فلما قدم قال : إن عندي من ذلك علما ، سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : إذا سمعتم به بأرض ، فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها لا تخرجوا فرارا منه فحمد الله عمر - يعني لكونه وافق رأيه - ورجع بالناس .

            وعن سعد بن مالك بن أبي وقاص ، وخزيمة بن ثابت ، وأسامة بن زيد ، قالوا : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : إن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عذب به قوم قبلكم ، فإذا وقع بأرض أنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه ، وإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه

            قال سيف بن عمر : كان الوباء قد وقع بالشام في المحرم من سنة سبع عشرة وصفر ثم ارتفع . وكأن سيفا يعتقد أن هذا الوباء هو طاعون عمواس الذي هلك فيه خلق من الأمراء ووجوه المسلمين . وليس الأمر كما زعم ، بل طاعون عمواس من السنة المستقبلة بعد هذه وذكر سيف بن عمر أن أمير المؤمنين عمر كان قد عزم على أن يطوف البلدان ، ويزور الأمراء ، وينظر فيما اعتمدوه وما آثروا من الخير ، فاختلف عليه الصحابة ; فمن قائل يقول : ابدأ بالعراق . ومن قائل يقول : بالشام . فعزم عمر على قدوم الشام لأجل قسم مواريث من مات من المسلمين في طاعون عمواس فإنه أشكل قسمها على المسلمين بالشام ، فعزم على ذلك . وهذا يقتضي أن عمر عزم على قدوم الشام بعد طاعون عمواس وقد كان الطاعون في سنة ثماني عشرة ، فهو قدوم آخر غير قدوم سرغ ، والله أعلم .

            قال سيف عن أبي عثمان وأبي حارثة ، والربيع بن النعمان ، قالوا : قال عمر : ضاعت مواريث الناس بالشام ، أبدأ بها فأقسم المواريث ، وأقيم لهم ما في نفسي ، ثم أرجع فأتقلب في البلاد وأنبذ إليهم أمري . قالوا : فأتى عمر الشام أربع مرات ; مرتين في سنة ست عشرة ، ومرتين في سنة سبع عشرة ، ولم يدخلها في الأولى من الأخريين . وأما هذه المرة فإنه لم يدخلها لأجل الطاعون ، والخرجة الرابعة أذن له بلال حين حضرت الصلاة ، فبكى الناس عند ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان أشدهم بكاء عمر رضي الله عنه . وهذا يقتضي ما ذكرناه عن سيف ، أنه يقول بكون طاعون عمواس في سنة سبع عشرة . وقد خالفه محمد بن إسحاق ، وأبو معشر ، وغير واحد ، فذهبوا إلى أنه كان في سنة ثماني عشرة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية