الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            طاعون عمواس

            الذي توفي فيه أبو عبيدة ، ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان ، وغيرهم من أشراف الصحابة وغيرهم . ومات فيه خمسة وعشرون ألفا . وأورده ابن جرير في سنة ثماني عشرة .

            وقال سيف بن عمر: إنما كان في سنة سبع عشرة . ( وعمواس بفتح العين المهملة والميم والواو ، وبعد الألف سين مهملة . وسرغ بفتح السين المهملة ، وسكون الراء المهملة ، وآخره غين معجمة ) . وهذا الطاعون منسوب إلى بليدة صغيرة يقال لها : عمواس . وهي بين القدس والرملة ، لأنها كان أول ما نجم هذا الداء بها ، ثم انتشر في الشام منها فنسب إليها وعن طارق بن شهاب البجلي قال : أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدث عنده ، فلما جلسنا قال : لا تحفوا ، فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم ، ولا عليكم أن تنزهوا عن هذه القرية ، فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها حتى يرتفع هذا البلاء ، فإني سأخبركم بما يكره مما يتقى ، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات ، ويظن من أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه ، فإذا لم يظن ذلك هذا المرء المسلم ، فلا عليه أن يخرج وأن يتنزه عنه ، إني كنت مع أبي عبيدة بن الجراح بالشام عام طاعون عمواس كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح فلما اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر ، كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه . أن سلام عليك ، أما بعد ، فإنه قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك بها ، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا أن لا تضعه من يدك حتى تقبل إلي . قال : فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء . فقال : يغفر الله لأمير المؤمنين ! ثم كتب إليه : يا أمير المؤمنين ، إني قد عرفت حاجتك إلي ، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم ، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه ، فخلني من عزيمتك يا أمير المؤمنين ، ودعني في جندي . فلما قرأ عمر الكتاب بكى ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين أمات أبو عبيدة ؟ قال : لا ، وكأن قد . قال : ثم كتب إليه : سلام عليك ، أما بعد ، فإنك أنزلت الناس أرضا غمقة ، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة . قال أبو موسى : فلما أتاه كتابه دعاني فقال : يا أبا موسى ، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى ، فاخرج فارتد للناس منزلا حتى أتبعك بهم ، فرجعت إلى منزلي لأرتحل ، فوجدت صاحبتي قد أصيبت ، فرجعت إليه فقلت : والله لقد كان في أهلي حدث . فقال لعل صاحبتك قد أصيبت ؟ قلت : نعم . فأمر ببعيره فرحل له ، فلما وضع رجله في غرزه طعن ، فقال : والله لقد أصبت . ثم سار بالناس حتى نزل الجابية ، ورفع عن الناس الوباء .

            وعن شهر بن حوشب ، عن رابة - رجل من قومه ، وكان قد خلف على أمه بعد أبيه ، وكان قد شهد طاعون عمواس - قال : لما اشتغل الوجع ، قام أبو عبيدة في الناس خطيبا فقال : أيها الناس ، إن هذا الوجع رحمة بكم ، ودعوة نبيكم ، وموت الصالحين قبلكم ، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة حظه . فطعن فمات ، واستخلف على الناس معاذ بن جبل ، فقام خطيبا بعده ، فقال : أيها الناس ، إن هذا الوجع رحمة بكم ، ودعوة نبيكم ، وموت الصالحين قبلكم ، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ حقهم . فطعن ابنه عبد الرحمن ، فمات ، ثم قام فدعا لنفسه ، فطعن في راحته ، فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقلب ظهر كفه ثم يقول : ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا . توجيه عمرو بن العاص الناس بالتحصن في الجبال من الطاعون فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص ، فقام فيهم خطيبا فقال : أيها الناس ، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار ، فتحصنوا منه في الجبال . فقال أبو وائلة الهذلي : كذبت ، والله لقد صحبت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأنت شر من حماري هذا . فقال : والله ما أرد عليك ما تقول ، وايم الله لا نقيم عليه . قال : ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا ودفعه الله عنهم . قال : فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأى عمرو بن العاص ، فوالله ما كرهه .

            قال ابن إسحاق ولما انتهى إلى عمر مصاب أبي عبيدة ويزيد بن أبي سفيان ، أمر معاوية على جند دمشق وخراجها ، وأمر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها .

            وقال سيف بن عمر عن شيوخه قالوا : لما كان طاعون عمواس ووقع مرتين لم ير مثلهما ، وطال مكثه ، وفني خلق كثير من الناس ، حتى طمع العدو ، وتخوفت قلوب المسلمين لذلك .

            قلت : ولهذا قدم عمر بعد ذلك إلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا لما أشكل أمرها على الأمراء ، وطابت قلوب الناس بقدومه ، وانقمعت الأعداء من كل جانب لمجيئه إلى الشام ولله الحمد والمنة . قدوم عمر إلى الشام بعد الطاعون

            لما هلك الناس في الطاعون كتب أمراء الأجناد إلى عمر بما في أيديهم من المواريث ، فجمع الناس واستشارهم وقال لهم : قد بدا لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم لأنظر في آثارهم ، فأشيروا علي ، وفي القوم كعب الأحبار ، وفي تلك السنة أسلم ، فقال كعب : يا أمير المؤمنين ، بأيها تريد أن تبدأ ؟ قال : بالعراق . قال : فلا تفعل فإن الشر عشرة أجزاء ، تسعة منها بالمشرق وجزء بالمغرب ، والخير عشرة أجزاء تسعة بالمغرب وجزء بالمشرق ، وبها قرن الشيطان وكل داء عضال . فقال علي : يا أمير المؤمنين ، إن الكوفة للهجرة بعد الهجرة ، وإنها لقبة الإسلام ، ليأتينها يوم لا يبقى مسلم إلا وحن إليها ، لينتصرن بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط . فقال عمر : إن مواريث أهل عمواس قد ضاعت ، أبدأ بالشام فأقسم المواريث وأقيم لهم ما في نفسي ، ثم أرجع فأتقلب في البلاد وأبدي إليهم أمري .

            فسار عن المدينة ، واستخلف عليها علي بن أبي طالب واتخذ أيلة طريقا ، فلما دنا منها ركب بعيره وعلى رحله فرو مقلوب ، وأعطى غلامه مركبه ، فلما تلقاه الناس قالوا : أين أمير المؤمنين ؟ قال : أمامكم ، يعني نفسه ، فساروا أمامهم ، وانتهى هو إلى أيلة فنزلها ، وقيل للمتلقين : قد دخل أمير المؤمنين إليها ونزلها ، فرجعوا [ إليه ] . وأعطى عمر الأسقف بها قميصه ، وقد تخرق ظهره ، ليغسله ويرقعه ، ففعل ، وأخذه ولبسه ، وخاط له الأسقف قميصا غيره فلم يأخذه . فلما قدم الشام قسم الأرزاق ، وسمى الشواتي والصوائف ، وسد فروج الشام ومسالحها ، وأخذ يدورها ، واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل من كل كورة ، واستعمل معاوية ، وعزل شرحبيل بن حسنة وقام بعذره في الناس وقال : إني لم أعزله عن سخطة ، ولكني أريد رجلا أقوى من رجل . واستعمل عمرو بن عتبة على الأهراء . وقسم مواريث أهل عمواس ، فورث بعض الورثة من بعض ، وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم . وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهل بيته فلم يرجع منهم إلا أربعة .

            ورجع عمر إلى المدينة في ذي القعدة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية