طاعون عمواس
الذي توفي فيه أبو عبيدة ، ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان ، وغيرهم من أشراف الصحابة وغيرهم . ومات فيه خمسة وعشرون ألفا . وأورده ابن جرير في سنة ثماني عشرة .
وقال سيف بن عمر: إنما كان في سنة سبع عشرة . ( وعمواس بفتح العين المهملة والميم والواو ، وبعد الألف سين مهملة . وسرغ بفتح السين المهملة ، وسكون الراء المهملة ، وآخره غين معجمة ) . وهذا الطاعون منسوب إلى بليدة صغيرة يقال لها : عمواس . وهي بين القدس والرملة ، لأنها كان أول ما نجم هذا الداء بها ، ثم انتشر في الشام منها فنسب إليها وعن طارق بن شهاب البجلي قال : أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدث عنده ، فلما جلسنا قال : لا تحفوا ، فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم ، ولا عليكم أن تنزهوا عن هذه القرية ، فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها حتى يرتفع هذا البلاء ، فإني سأخبركم بما يكره مما يتقى ، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات ، ويظن من أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه ، فإذا لم يظن ذلك هذا المرء المسلم ، فلا عليه أن يخرج وأن يتنزه عنه ، إني كنت مع أبي عبيدة بن الجراح بالشام عام طاعون عمواس كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح فلما اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر ، كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه . أن سلام عليك ، أما بعد ، فإنه قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك بها ، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا أن لا تضعه من يدك حتى تقبل إلي . قال : فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء . فقال : يغفر الله لأمير المؤمنين ! ثم كتب إليه : يا أمير المؤمنين ، إني قد عرفت حاجتك إلي ، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم ، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه ، فخلني من عزيمتك يا أمير المؤمنين ، ودعني في جندي . فلما قرأ عمر الكتاب بكى ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين أمات أبو عبيدة ؟ قال : لا ، وكأن قد . قال : ثم كتب إليه : سلام عليك ، أما بعد ، فإنك أنزلت الناس أرضا غمقة ، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة . قال أبو موسى : فلما أتاه كتابه دعاني فقال : يا أبا موسى ، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى ، فاخرج فارتد للناس منزلا حتى أتبعك بهم ، فرجعت إلى منزلي لأرتحل ، فوجدت صاحبتي قد أصيبت ، فرجعت إليه فقلت : والله لقد كان في أهلي حدث . فقال لعل صاحبتك قد أصيبت ؟ قلت : نعم . فأمر ببعيره فرحل له ، فلما وضع رجله في غرزه طعن ، فقال : والله لقد أصبت . ثم سار بالناس حتى نزل الجابية ، ورفع عن الناس الوباء .
وعن شهر بن حوشب ، عن رابة - رجل من قومه ، وكان قد خلف على أمه بعد أبيه ، وكان قد شهد طاعون عمواس - قال : لما اشتغل الوجع ، قام أبو عبيدة في الناس خطيبا فقال : أيها الناس ، إن هذا الوجع رحمة بكم ، ودعوة نبيكم ، وموت الصالحين قبلكم ، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة حظه . فطعن فمات ، واستخلف على الناس معاذ بن جبل ، فقام خطيبا بعده ، فقال : أيها الناس ، إن هذا الوجع رحمة بكم ، ودعوة نبيكم ، وموت الصالحين قبلكم ، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ حقهم . فطعن ابنه عبد الرحمن ، فمات ، ثم قام فدعا لنفسه ، فطعن في راحته ، فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقلب ظهر كفه ثم يقول : ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا . توجيه عمرو بن العاص الناس بالتحصن في الجبال من الطاعون فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص ، فقام فيهم خطيبا فقال : أيها الناس ، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار ، فتحصنوا منه في الجبال . فقال أبو وائلة الهذلي : كذبت ، والله لقد صحبت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأنت شر من حماري هذا . فقال : والله ما أرد عليك ما تقول ، وايم الله لا نقيم عليه . قال : ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا ودفعه الله عنهم . قال : فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأى عمرو بن العاص ، فوالله ما كرهه .
قال ابن إسحاق ولما انتهى إلى عمر مصاب أبي عبيدة ويزيد بن أبي سفيان ، أمر معاوية على جند دمشق وخراجها ، وأمر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها .
وقال سيف بن عمر عن شيوخه قالوا : لما كان طاعون عمواس ووقع مرتين لم ير مثلهما ، وطال مكثه ، وفني خلق كثير من الناس ، حتى طمع العدو ، وتخوفت قلوب المسلمين لذلك .
قلت : ولهذا قدم عمر بعد ذلك إلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا لما أشكل أمرها على الأمراء ، وطابت قلوب الناس بقدومه ، وانقمعت الأعداء من كل جانب لمجيئه إلى الشام ولله الحمد والمنة . قدوم عمر إلى الشام بعد الطاعون
لما هلك الناس في الطاعون كتب أمراء الأجناد إلى عمر بما في أيديهم من المواريث ، فجمع الناس واستشارهم وقال لهم : قد بدا لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم لأنظر في آثارهم ، فأشيروا علي ، وفي القوم كعب الأحبار ، وفي تلك السنة أسلم ، فقال كعب : يا أمير المؤمنين ، بأيها تريد أن تبدأ ؟ قال : بالعراق . قال : فلا تفعل فإن الشر عشرة أجزاء ، تسعة منها بالمشرق وجزء بالمغرب ، والخير عشرة أجزاء تسعة بالمغرب وجزء بالمشرق ، وبها قرن الشيطان وكل داء عضال . فقال علي : يا أمير المؤمنين ، إن الكوفة للهجرة بعد الهجرة ، وإنها لقبة الإسلام ، ليأتينها يوم لا يبقى مسلم إلا وحن إليها ، لينتصرن بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط . فقال عمر : إن مواريث أهل عمواس قد ضاعت ، أبدأ بالشام فأقسم المواريث وأقيم لهم ما في نفسي ، ثم أرجع فأتقلب في البلاد وأبدي إليهم أمري .
فسار عن المدينة ، واستخلف عليها علي بن أبي طالب واتخذ أيلة طريقا ، فلما دنا منها ركب بعيره وعلى رحله فرو مقلوب ، وأعطى غلامه مركبه ، فلما تلقاه الناس قالوا : أين أمير المؤمنين ؟ قال : أمامكم ، يعني نفسه ، فساروا أمامهم ، وانتهى هو إلى أيلة فنزلها ، وقيل للمتلقين : قد دخل أمير المؤمنين إليها ونزلها ، فرجعوا [ إليه ] . وأعطى عمر الأسقف بها قميصه ، وقد تخرق ظهره ، ليغسله ويرقعه ، ففعل ، وأخذه ولبسه ، وخاط له الأسقف قميصا غيره فلم يأخذه . فلما قدم الشام قسم الأرزاق ، وسمى الشواتي والصوائف ، وسد فروج الشام ومسالحها ، وأخذ يدورها ، واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل من كل كورة ، واستعمل معاوية ، وعزل شرحبيل بن حسنة وقام بعذره في الناس وقال : إني لم أعزله عن سخطة ، ولكني أريد رجلا أقوى من رجل . واستعمل عمرو بن عتبة على الأهراء . وقسم مواريث أهل عمواس ، فورث بعض الورثة من بعض ، وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم . وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهل بيته فلم يرجع منهم إلا أربعة .
ورجع عمر إلى المدينة في ذي القعدة .