وفي سنة اثنتين وعشرين غزا الأحنف بن قيس خراسان ، في قول بعضهم . وقيل : سنة ثماني عشرة .
وذلك أن الأحنف بن قيس هو الذي أشار على عمر بأن يتوسع المسلمون بالفتوحات في بلاد العجم ، ويضيقوا على كسرى يزدجرد ، فإنه هو الذي يستحث الفرس والجنود على قتال المسلمين ، فأذن عمر بن الخطاب في ذلك عن رأيه ، وأمر الأحنف ، وأمره بغزو بلاد خراسان . فركب الأحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصدا حرب يزدجرد ، فدخل خراسان فافتتح هراة عنوة واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي . ثم سار إلى مرو الشاهجان وفيها يزدجرد ، وبعث الأحنف بين يديه مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى نيسابور ، والحارث بن حسان إلى سرخس ، ولما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان ، ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ ، فافتتح الأحنف مرو الشاهجان فنزلها ، وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمده ، وكتب إلى ملك الصغد يستمده ، وكتب إلى ملك الصين يستعينه . وقصده الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ ، وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة بن النعمان ، وقد وفدت إلى الأحنف أمداد من أهل الكوفة مع أربعة أمراء . فلما بلغ مسيره إلى يزدجرد ، ترحل إلى بلخ وجاء الأحنف ، فافتتح مرو الروذ ، ثم سار وراء يزدجرد إلى بلخ فالتقى معه ببلخ يزدجرد ، فهزمه الله ، عز وجل ، وهرب هو ومن بقي معه من جيشه ، فعبر النهر .
واستوثق ملك خراسان على يدي الأحنف بن قيس ، واستخلف في كل بلدة أميرا ، ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكمالها ، فقال عمر : وددت أنه كان بيننا وبين خراسان بحر من نار . فقال له علي : ولم يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إن أهلها سينقضون عهدهم ثلاث مرات ، فيجتاحون في الثالثة . فقال : يا أمير المؤمنين ، لأن يكون ذلك بأهلها ، أحب إلي من أن يكون ذلك بالمسلمين .
كتاب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر وقال : احفظ ما بيدك من بلاد خراسان . ولما وصل رسولا يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره ، فلما عبر يزدجرد النهر ، ودخل في بلادهما تعين عليهما إنجاده في شرع الملوك ، فسار معه خاقان الأعظم ملك الترك ، ورجع يزدجرد بجنود عظيمة فيهم ملك التتار خاقان ، فوصل إلى بلخ واسترجعها ، وفر عمال الأحنف إليه إلى مرو الروذ ، وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ ، فبرز الأحنف بمن معه من أهل البصرة ، وأهل الكوفة ، والجميع عشرون ألفا ، فسمع رجلا يقول لآخر : إن كان الأمير ذا رأي ، فإنه يقف دون هذا الجبل ، فيجعله وراء ظهره ، ويبقي هذا النهر خندقا حوله ; فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة ، فلما أصبح الأحنف ، أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه ، وكان أمارة النصر والرشد ، وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج ، فقام الأحنف في الناس خطيبا فقال : إنكم قليل وعدوكم كثير ، فلا يهولنكم ، ف كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين [ البقرة : 249 ] . فكانت الترك يقاتلون بالنهار ، ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل . فسار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو جيش خاقان ، فلما كان قريب الصبح ، خرج فارس من الترك طليعة ، وعليه طوق ، وضرب بطبله ، فتقدم إليه الأحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز :
إن على كل رئيس حقا أن يخضب الصعدة أو يندقا إن لنا شيخا بها ملقى
سيف أبي حفص الذي تبقى
وقد قال المسلمون للأحنف : ما ترى في اتباعهم ؟ فقال : أقيموا بمكانكم ودعوهم . وقد أصاب الأحنف في ذلك ، فقد جاء في الحديث : وقد رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا [ الأحزاب : 25 ] . ورجع كسرى خاسرا الصفقة لم يشف له غليل ، ولا حصل على خير ، ولا انتصر كما كان في زعمه ، بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه ، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه ، وبقي مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا . وتحير في أمره ماذا يصنع ؟ وإلى أين يذهب ؟ وقد أشار عليه بعض أولي النهى من قومه حين قال : قد عزمت أن أذهب إلى بلاد الصين أو أكون مع خاقان في بلاده . فقالوا : إنا نرى أن نصانع هؤلاء القوم ، فإن لهم ذمة ودينا يرجعون إليه ، فنكون في بعض هذه البلاد وهم مجاورينا ، فهم خير لنا من غيرهم . فأبى عليهم كسرى ذلك ، ثم بعث إلى ملك الصين يستغيث به ويستنجده ، فجعل ملك الصين يسأل عن صفة هؤلاء القوم الذين قد فتحوا البلاد وقهروا رقاب العباد فقال لرسول يزدجرد: صف لي هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم ، فإني أراك تذكر قلة منهم وكثرة منكم ، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل منكم مع كثرتكم ، إلا بخير عندهم وشر فيكم . فقلت : سلني عما أحببت . فقال : أيوفون بالعهد ؟ قلت : نعم . قال : وما يقولون لكم قبل القتال ؟ قال قلت : يدعوننا إلى واحدة من ثلاث : إما دينهم ، فإن أجبنا أجرونا مجراهم ، أو الجزية والمنعة ، أو المنابذة . قال : فكيف طاعتهم أمراءهم ؟ قلت : أطوع قوم وأرشدهم . قال : فما يحلون وما يحرمون ؟ فأخبرته . قال : هل يحلون ما حرم عليهم أو يحرمون ما حلل لهم ؟ قلت : لا . قال : فإن هؤلاء القوم لا يزالون على ظفر حتى يحلوا حرامهم أو يحرموا حلالهم . اتركوا الترك ما تركوكم
ثم قال : أخبرني عن لباسهم ؟ فأخبرته ، وعن مطاياهم ؟ فقلت : الخيل العراب ، ووصفتها له . فقال : نعمت الحصون ! ووصفت له الإبل وبروكها وقيامها بحملها . فقال : هذه صفة دواب طوال الأعناق . فكتب معه إلى يزدجرد ، إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم ; لو يحاولون الجبال لهدوها ، ولو جئت لنصرك ، أزالوني ما داموا على ما وصف لي رسولك ، فسالمهم وارض منهم بالمسالمة . فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين ، ولم يزل ذلك دأبه حتى قتل بعد سنتين من إمارة عثمان.
بعث الأحنف بكتاب الفتح إلى عمر بن الخطاب ولما بعث الأحنف بكتاب الفتح ، وما أفاء الله عليهم من أموال الترك ومن كان معهم ، وأنهم قتلوا منهم مع ذلك مقتلة عظيمة ، ثم ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا . فقام عمر على المنبر وقرئ الكتاب بين يديه ، ثم قال عمر : إن الله بعث محمدا بالهدى ، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة ، فقال : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ التوبة : 33 ] . فالحمد لله الذي أنجز وعده ، ونصر جنده ، ألا وإن الله قد أهلك ملك المجوسية وفرق شملهم ، فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضر بمسلم ، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم ؛ لينظر كيف تعملون ، فقوموا في أمره على وجل ، يوف لكم بعهده ، ويؤتكم وعده ، ولا تغيروا فيستبدل قوما غيركم ، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم .
وقيل : إن فتح خراسان كان زمن عثمان