الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ولما وقع هذا الأمر العظيم الفظيع الشنيع أسقط في أيدي الناس ، فأعظموه جدا ، وندم أكثر هؤلاء الجهلة الخوارج على ما صنعوا ، وأشبهوا من تقدمهم ممن قص الله علينا خبرهم في كتابه العزيز ، من الذين عبدوا العجل في قوله تعالى : ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين [ الأعراف : 149 ]

            ولما بلغ الزبير مقتل عثمان - وكان قد خرج من المدينة - قال : إنا لله وإنا إليه راجعون . ثم ترحم على عثمان ، وبلغه أن الذين قتلوه ندموا فقال : تبا لهم . ثم تلا قوله تعالى : ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون [ يس : 48 ، 49 ] . وبلغ عليا قتله فترحم عليه ، وسمع بندم الذين قتلوه فتلا قوله تعالى كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر الآية [ الحشر : 16 ] . ولما بلغ سعد بن أبي وقاص قتل عثمان استغفر له ، وترحم عليه ، وتلا في حق الذين قتلوه : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [ الكهف : 103 ، 104 ] . ثم قال سعد : اللهم أندمهم ثم خذهم . وقد أقسم بعض السلف بالله أنه ما مات أحد من قتلة عثمان إلا مقتولا . رواه ابن جرير . وهكذا ينبغي أن يكون ؛ لوجوه منها ، دعوة سعد المستجابة ، كما ثبت في الحديث الصحيح . وقال بعضهم : ما مات أحد منهم حتى جن .

            وقال الواقدي : حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، قال : الذي قتل عثمان كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي ، وكانت امرأة منظور بن سيار الفزاري تقول : خرجنا إلى الحج وما علمنا لعثمان بقتل ، حتى إذا كنا بالعرج سمعنا رجلا يغني تحت الليل :


            ألا إن خير الناس بعد ثلاثة قتيل التجيبي الذي جاء من مصر

            ولما رجع الحجيج وجدوا عثمان ، رضي الله عنه ، قد قتل وبايع الناس علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه . ولما بلغ أمهات المؤمنين في أثناء الطريق أن عثمان قد قتل ، رجعن إلى مكة ، فأقمن بها نحوا من أربعة أشهر كما سيأتي . فصل ( كلام الصحابة في مقتل عثمان رضي الله عنه )

            روى الحافظ بن عساكر ، بسنده عن حذيفة . قال : أول الفتن قتل عثمان ، وآخر الفتن خروج الدجال ، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه وإن لم يدركه آمن به في قبره .

            وقد ذكر البخاري في " صحيحه " . قال عن أبي عبد الله النجراني أن حذيفة بن اليمان في مرضه الذي هلك فيه ، كان عنده رجل من إخوانه وهو يناجي امرأته ، ففتح عينيه فسألهما فقالا : خير . فقال : إن شيئا تسرانه دوني ما هو بخير . قال : قتل الرجل . يعني عثمان . قال : فاسترجع ، ثم قال : اللهم إني كنت من هذا الأمر بمعزل ، فإن كان خيرا فهو لمن حضره ، وأنا منه بريء ، وإن كان شرا فهو لمن حضره ، وأنا منه بريء ، اليوم نفرت القلوب بأنفارها ، الحمد لله الذي سبق بي الفتن ، قادتها وعلوجها ، الحظي من تردى بعيره ، فشبع شحما وقل عمله .

            وعن أبي موسى الأشعري قال : لو كان قتل عثمان هدى ، لاحتلبت به الأمة لبنا ، ولكنه كان ضلالا ، فاحتلبت به الأمة دما . وهذا منقطع .

            وعن زهدم الجرمي قال : خطب ابن عباس فقال : لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء . وقد روي من غير هذا الوجه عنه .

            وعن أبي جعفر الأنصاري قال : لما قتل عثمان جئت عليا وهو جالس في المسجد وعليه عمامة سوداء فقلت له : قتل عثمان . فقال : تبا لهم آخر الدهر . وفي رواية : خيبة لهم .

            وعن ابن أبي ليلى قال : سمعت عليا وهو بباب المسجد ، أو عند أحجار الزيت رافعا صوته يقول : اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان . وعن الحسن قال : قتل عثمان وعلي غائب في أرض له ، فلما بلغه قال : اللهم إني لم أرض ولم أمالئ .

            وعن أبي العالية أن عليا دخل على عثمان ، فوقع عليه وجعل يبكي حتى ظنوا أنه سيلحق به .

            وعن ابن عباس قال : قال علي يوم قتل عثمان : والله ما قتلت ، ولا أمرت ، ولكني غلبت . وعن ابن عباس قال : قال علي : إن شاء الناس حلفت لهم عند مقام إبراهيم بالله ، ما قتلت عثمان ، ولا أمرت بقتله ، ولقد نهيتهم فعصوني . وقد روي من غير وجه عن علي بنحوه .

            وعن قيس بن عباد قال : سمعت عليا يوم الجمل يقول : اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان ، وأنكرت نفسي وجاءوني للبيعة فقلت : والله إني لأستحيي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال فيه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ألا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة . وإني لأستحيي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد . فانصرفوا ، فلما دفن رجع الناس يسألوني البيعة فقلت : اللهم إني لمشفق مما أقدم عليه ، ثم جاءت عزمة فبايعت ، فلما قالوا : أمير المؤمنين ، فكأنما صدع قلبي وانسكبت بعبرة .

            وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر بجمع الطرق الواردة عن علي ، أنه تبرأ من دم عثمان ، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله ، ولا أمر بقتله ، ولا مالأ ، ولا رضي به ، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه . ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث . ولله الحمد والمنة . وثبت عنه أيضا من غير وجه أنه قال : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين [ الحجر : 47 ] . وثبت عنه أيضا من غير وجه أنه قال : كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا . وفي رواية أنه قال : كان عثمان ، رضي الله عنه ، خيرنا ، وأوصلنا للرحم ، وأشدنا حياء ، وأحسننا طهورا ، وأتقانا للرب ، عز وجل .

            وعن عمير بن زوذي أبي كثير قال : خطب علي فقطع الخوارج عليه خطبته ، فنزل فقال : إن مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار ثلاثة ; أحمر وأبيض وأسود ، ومعهم في أجمة أسد ، فكان كلما أراد قتل أحدهم منعه الآخران ، فقال للأسود والأحمر : إن هذا الأبيض قد فضحنا في هذه الأجمة فخليا عنه حتى آكله . فخليا عنه فأكله ، ثم كان كلما أراد أحدهما منعه الآخر ، فقال للأحمر : إن هذا الأسود قد فضحنا في هذه الأجمة ، وإن لوني على لونك ، فلو خليت عنه أكلته . فخلى عنه الأحمر فأكله ، ثم قال للأحمر : إني آكلك . فقال : دعني حتى أصيح ثلاث صيحات . فقال : دونك . فقال : ألا إني إنما أكلت يوم أكل الأبيض . ثلاثا ، ثم قال علي : وإنما أنا وهنت يوم قتل عثمان . قالها ثلاثا .

            وروى ابن عساكر ، بسنده عن سعيد بن المسيب قال : كانت المرأة تجيء في زمان عثمان إلى بيت المال ، فتحمل وقرها وتقول : اللهم بدل ، اللهم غير . فقال حسان بن ثابت حين قتل عثمان ، رضي الله عنه :


            قلتم بدل فقد بدلكم     سنة حرى وحربا كاللهب
            ما نقمتم من ثياب خلفة     وعبيد وإماء وذهب

            قال : وقال أبو حميد أخو بني ساعدة - وكان ممن شهد بدرا ، وكان في من جانب عثمان - فلما قتل قال : والله ما أردنا قتله ، ولا كنا نرى أن يبلغ منه القتل ، اللهم إن لك علي أن لا أفعل كذا وكذا ، ولا أضحك حتى ألقاك .

            وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، قال : لقد رأيتني وإن عمر موثقي وأخته على الإسلام ، ولو ارفض أحد فيما صنعتم بابن عفان ، لكان حقيقا . وهكذا رواه البخاري في " صحيحه " .

            وعن عبد الرحمن بن جبير قال : سمع عبد الله بن سلام رجلا يقول لآخر : قتل عثمان بن عفان ، فلم ينتطح فيه عنزان . فقال ابن سلام : أجل إن البقر والمعز لا تنتطح في قتل الخليفة ، ولكن تنتطح فيه الرجال بالسلاح ، والله ليقتلن به أقوام ، إنهم لفي أصلاب آبائهم ما ولدوا بعد .

            وقال ابن سلام : يحكم عثمان يوم القيامة في القاتل والخاذل .

            وعن أبي الأسود يقول : سمعت أبا بكرة يقول : لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أشرك في دم عثمان .

            وعن أبي مريم رضيع الجارود قال : كنت بالكوفة فقام الحسن بن علي خطيبا فقال : أيها الناس ، رأيت البارحة في منامي عجبا ; رأيت الرب تبارك وتعالى فوق عرشه ، فجاء رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، حتى قام عند قائمة من قوائم العرش ، فجاء أبو بكر فوضع يده على منكب النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء عمر فوضع يده على منكب أبي بكر ، ثم جاء عثمان فكان نبذة ، فقال : رب سل عبادك فيم قتلوني ؟ فانبعث من السماء ميزابان من دم في الأرض . قال : فقيل لعلي : ألا ترى ما يحدث به الحسن ؟ فقال : حدث بما رأى .

            وعن زيد بن صوحان أنه قال يوم قتل عثمان : نفرت القلوب منافرها ، والذي نفسي بيده ، لا تتآلف إلى يوم القيامة .

            وعن عون بن عبد الله بن عتبة : قال : قالت عائشة : غضبت لكم من السوط ولا أغضب لعثمان من السيف ! استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقلب المصفى قتلتموه .

            وعن مسروق قال : قالت عائشة حين قتل عثمان : تركتموه كالثوب النقي من الدنس ثم قتلتموه . وفي رواية : ثم قربتموه فذبحتموه كما يذبح الكبش . فقال لها مسروق : هذا عملك ، أنت كتبت إلى الناس تأمرينهم أن يخرجوا إليه . فقالت : لا والذي آمن به المؤمنون ، وكفر به الكافرون ، ما كتبت إليهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا . قال الأعمش : فكانوا يرون أنه كتب على لسانها . وهذا إسناد صحيح إليها . وفي هذا وأمثاله دلالة ظاهرة على أن هؤلاء الخوارج ، قبحهم الله ، زوروا كتبا على لسان الصحابة إلى الآفاق ، يحرضونهم على قتال عثمان ، كما قدمنا بيانه . ولله الحمد والمنة .

            وعن أنس قال : قالت أم سليم لما سمعت بقتل عثمان : رحمه الله ، أما إنهم لن يحتلبوا بعده إلا دما .

            كلام أئمة التابعين في مقتل عثمان رضي الله عنه

            وأما كلام أئمة التابعين في هذا الفصل فكثير جدا يطول ذكرنا له ، فمن ذلك قول أبي مسلم الخولاني حين رأى الوفد الذين قدموا من قتله : أما مررتم ببلاد ثمود ؟ قالوا : نعم . قال : أشهد أنكم مثلهم ، لخليفة الله أكرم عليه من ناقته . وعن الحسن قال : لو كان قتل عثمان هدى لاحتلبت به الأمة لبنا ، ولكنه كان ضلالا فاحتلبت به الأمة دما . وقال أبو جعفر الباقر : كان قتل عثمان على غير وجه الحق

            التالي السابق


            الخدمات العلمية