الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فصل في ذكر شيء من سيرته وهي دالة على فضيلته ، رضي الله عنه

            قال ابن مسعود : لما توفي عمر بايعنا خيرنا ولم نأل . وفي رواية : بايعوا خيرهم ولم يألوا .

            وقال البخاري في " التاريخ " : بسنده عن الحسن يقول : أدركت عثمان على ما نقموا عليه ، قلما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرا ، يقال لهم : يا معشر المسلمين ، اغدوا على أعطياتكم . فيأخذونها وافرة ، ثم يقال لهم : اغدوا على أرزاقكم . فيأخذونها وافرة ، ثم يقال لهم : اغدوا على السمن والعسل ، الأعطيات جارية ، والأرزاق دارة ، والعدو متقى ، وذات البين حسن ، والخير كثير ، وما من مؤمن يخاف مؤمنا ، من لقيه فهو أخوه من كان ; ألفته ونصيحته ومودته ، قد عهد إليهم أنها ستكون أثرة ، فإذا كانت فاصبروا . قال الحسن : فلو أنهم صبروا حين رأوها لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير ، قالوا : لا والله ما نصابرها . فوالله ما ردوا وما سلموا ، والأخرى كان السيف مغمدا عن أهل الإسلام فسلوه على أنفسهم ، فوالله ما زال مسلولا إلى يوم الناس هذا ، وايم الله إني لأراه سيفا مسلولا إلى يوم القيامة .

            وقال غير واحد ، عن الحسن البصري ، قال : سمعت عثمان يأمر في خطبته بذبح وقتل الكلاب .

            وروى سيف بن عمر أن أهل المدينة اتخذ بعضهم الحمام ، ورمى بعضهم بالجلاهقات ، فوكل عثمان رجلا من بني ليث يتتبع ذلك ، فيقص الحمام ويكسر الجلاهقات ، وهي قسي البندق .

            وقال محمد بن سعد : أنبأنا القعنبي ، وخالد بن مخلد ، ثنا محمد بن هلال ، عن جدته - وكانت تدخل على عثمان وهو محصور - فولدت هلالا ، ففقدها يوما ، فقيل له : إنها قد ولدت هذه الليلة غلاما . قالت : فأرسل إلي بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية ، وقال : هذا عطاء ابنك وكسوته ، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مائة .

            وعن ابن داب ، قال : قال ابن سعيد بن يربوع بن عنكثة المخزومي : انطلقت وأنا غلام في الظهيرة ومعي طير أرسله في المسجد ، والمسجد يبنى ، فإذا شيخ جميل حسن الوجه نائم ، تحت رأسه لبنة أو بعض لبنة ، فقمت أنظر إليه أتعجب من جماله ، ففتح عينيه ، فقال : من أنت يا غلام ؟ فأخبرته ، فنادى غلاما نائما ، قريبا منه ، فلم يجبه ، فقال لي : ادعه . فدعوته ، فأمره بشيء وقال لي : اقعد . قال : فذهب الغلام فجاء بحلة ، وجاء بألف درهم ، ونزع ثوبي وألبسني الحلة ، وجعل الألف درهم فيها ، فرجعت إلى أبي فأخبرته ، فقال : يا بني من فعل هذا بك ؟ فقلت : لا أدري إلا أنه رجل في المسجد نائم لم أر قط أحسن منه . قال : ذاك أمير المؤمنين عثمان بن عفان .

            وعن السائب بن يزيد أن رجلا سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن صلاة طلحة بن عبيد الله ؟ قال : إن شئت أخبرتك عن صلاة عثمان ؟ قال : نعم . قال : قلت لأغلبن الليلة النفر على الحجر - يعني المقام - فلما قمت إذا رجل يزحمني مقنعا ، قال : فالتفت فإذا بعثمان فتأخرت عنه ، فصلى فإذا هو يسجد سجود القرآن حتى إذا قلت : هذا هو أذان الفجر . أوتر بركعة لم يصل غيرها ، ثم انطلق . وقد روي هذا من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود ، أيام الحج . وقد كان هذا من دأبه ، رضي الله عنه . ولهذا روينا عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى : أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه [ الزمر : 9 ] قال : هو عثمان بن عفان . وقال ابن عباس في قوله تعالى : هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم [ النحل : 76 ] . قال : هو عثمان بن عفان .

            وعن الحسن كان يقول : قال عثمان : لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا ، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف ، وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم النظر فيه .

            وقال أنس ومحمد بن سيرين : قالت امرأة عثمان يوم الدار : اقتلوه أو دعوه فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة . وقال غير واحد : إنه ، رضي الله عنه ، كان لا يوقظ أحدا من أهله إذا قام من الليل ليعينه على وضوئه ، إلا أن يجده يقظان ، وكان يصوم الدهر ، وكان يعاتب فيقال له : لو أيقظت بعض الخدم ؟ فيقول : لا ، الليل لهم يستريحون فيه . وكان إذا اغتسل لا يرفع المئزر عنه ، وهو في بيت مغلق عليه ، ولا يرفع صلبه جيدا من شدة حيائه ، رضي الله عنه . وقال الحسن البصري : دخلت المسجد ، فإذا أنا بعثمان متكئا على ردائه ، فأتاه سقاءان يختصمان إليه ، فقضى بينهما . وقال الشعبي : لم يمت عمر بن الخطاب حتى ملته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة ، وقال : أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد ، فإن كان الرجل منهم ليستأذنه في الغزو فيقول : قد كان لك في غزوك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يبلغك ، وخير لك من غزوك اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك . وكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش ولم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة . فلما ولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد وانقطع إليهم الناس ، وكان أحب إليهم من عمر .

            وقيل : وحج عثمان بالناس سنوات خلافته كلها ، وحج بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كان يصنع عمر . وكتب إلى الأمصار أن يوافيه العمال في الموسم ومن يشكو منهم ، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ، وأنه مع الضعيف على القوي ما دام مظلوما .

            قيل : وسأل رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة ما دعاه إلى الخروج على عثمان ، فقال : كان يتيما في حجر عثمان ، وكان والي أيتام أهل بيته ومحتملا كلهم ، فسأل عثمان العمل ، فقال : يا بني لو كنت رضا لاستعملتك . قال فأذن لي فأخرج فأطلب الرزق . قال : اذهب حيث شئت ، وجهزه من عنده وحمله وأعطاه ، فلما وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه حين منعه الإمارة . قال : وعمار بن ياسر ؟ قال : كان بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام فضربهما عثمان فأورث ذلك تعاديا بين أهل عمار وأهل عباس ، وكانا تقاذفا .



            قيل : سئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر ما دعاه إلى ركوب عثمان . قال : الغضب والطمع ، كان من الإسلام بمكان فغره أقوام فطمع ، وكانت له دالة فلزمه حق ، فأخذه عثمان من ظهره ، فاجتمع هذا إلى ذلك فصار مذمما بعد أن كان محمدا .

            قيل : واستخف رجل بالعباس بن عبد المطلب فضربه عثمان فاستحسن منه ذلك ، فقال : أيفخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه وأرخص في الاستخفاف به ! لقد خالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك ورضي به .

            قيل : وكان كعب بن ذي الحبكة النهدي يلعب بالنارنجيات ، فبلغ عثمان ، فكتب إلى الوليد أن يوجعه ضربا ، فعزره وأخبر الناس خبره ، وقرأ عليهم كتاب عثمان ، وفيه : إنه قد جد بكم فجدوا وإياكم والهزل . فغضب كعب وكان في الذين خرجوا عليه ، وكان سيره إلى دنباوند ، فقال في ذلك للوليد :


            لعمري لئن طردتني ما إلى التي طمعت بها من سقطتي لسبيل     رجوت رجوعي يا ابن أروى ورجعتي
            إلى الحق دهرا ، غال ذلك غول     فإن اغترابي في البلاد وجفوتي
            وشتمي في ذات الإله قليل

                وإن دعائي كل يوم وليلة
            عليك بدنباوندكم لطويل



            قال : وأما ضابئ بن الحرث البرجمي فإنه استعار في زمن الوليد بن عقبة من قوم من الأنصار كلبا يدعى قرحان يصيد الظباء فحبسه عنهم ، فانتزعه الأنصاريون منه قهرا ، فهجاهم وقال :


            تجشم دوني وفد قرحان خطة     تضل لها الوجناء وهي حسير
            فباتوا شباعا طاعمين كأنما     حباهم ببيت المرزبان أمير
            فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم     فإن عقوق الأمهات كبير



            فاستعدوا عليه عثمان ، فعزره وحبسه ، فما زال في السجن حتى مات فيه .

            وقال في الفتك معتذرا إلى أصحابه :


            هممت ولم أفعل وكدت وليتني     تركت على عثمان تبكي حلائله
            وقائلة قد مات في السجن ضابئ     ألا من لخصم لم يجد من يجادله



            فلذلك صار ابنه عمير سبئيا . قال : وأما كميل بن زياد وعمير بن ضابئ فإنهما سارا إلى المدينة لقتل عثمان ، فأما عمير فإنه نكل عنه ، وأما كميل فإنه جسر وثاوره ، فوجأ عثمان وجهه فوقع على استه فقال : أوجعتني يا أمير المؤمنين ! فقال : أولست بفاتك ؟ قال : لا والله . فقال عثمان : فاستقد مني ، وقال : دونك . فعفا عنه ، وبقيا إلى أيام الحجاج فقتلهما ، وسيرد ذكر ذلك - إن شاء الله تعالى - .

            وقال حسان بن زيد : سمعت عليا وهو يخطب الناس ويقول بأعلى صوته : يا أيها الناس إنكم تكثرون في وفي عثمان ، فإن مثلي ومثله كما قال الله تعالى : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) . وقال أبو حميد الساعدي - وهو بدري وكان مجانبا لعثمان - فلما قتل عثمان قال : والله ما أردنا قتله ، اللهم لك علي أن لا أفعل كذا وكذا ولا أضحك حتى ألقاك .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية