الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ثم دخلت سنة أربعين

            ذكر سرية بسر بن أبي أرطاة إلى الحجاز واليمن

            في هذه السنة بعث معاوية بسر بن أبي أرطاة ، وهو من عامر بن لؤي ، في ثلاثة آلاف ، فسار حتى قدم المدينة ، وبها أبو أيوب الأنصاري عامل علي عليها ، فهرب أبو أيوب فأتى عليا بالكوفة ، ودخل بسر المدينة ولم يقاتله أحد ، فصعد منبرها فنادى عليه : يا دينار ، يا نجار ، يا زريق ! وهذه بطون من الأنصار ، شيخي شيخي ، عهدته هاهنا بالأمس ، فأين هو ؟ يعني عثمان . ثم قال : والله لولا ما عهد إلي معاوية ما تركت بها محتلما . فأرسل إلى بني سلمة فقال : والله ما لكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله ! فانطلق جابر إلى أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها : ماذا ترين ؟ إن هذه بيعة ضلالة ، وقد خشيت أن أقتل . قالت : أرى أن تبايع ، فإني قد أمرت ابني عمر وختني ابن زمعة أن يبايعا ، وكانت ابنتها زينب تحت ابن زمعة ، فأتاه جابر فبايعه .

            وهدم بالمدينة دورا ثم سار إلى مكة ، فخاف أبو موسى الأشعري أن يقتله ، فهرب منه ، وأكره الناس على البيعة . مقتل أولاد عبيد الله بن عباس على يد بسر بن أرطأة

            ثم سار إلى اليمن ، وكان عليها عبيد الله بن عباس عاملا لعلي ، فهرب منه إلى علي بالكوفة . واستخلف علي [ على ] اليمن عبد الله بن عبد المدان الحارثي ، فأتاه بسر فقتله ، وقتل ابنه ، وأخذ ابنين لعبيد الله بن عباس صغيرين هما : عبد الرحمن وقثم فقتلهما ، وكانا عند رجل من كنانة بالبادية ، فلما أراد قتلهما قال له الكناني : لم تقتل هذين ولا ذنب لهما ؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما ! فقتله وقتلهما بعده . وقيل إن الكناني أخذ سيفه وقاتل عن الغلامين وهو يقول :


            الليث من يمنع حافات الدار ولا يزال مصلتا دون الجار



            وقاتل حتى قتل . وأخذ الغلامين فدفنهما . فخرج نسوة من بني كنانة ، فقالت امرأة منهن : يا هذا ! قتلت الرجال فعلام تقتل هذين ؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام ! والله يا ابن أبي أرطاة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير ، والشيخ الكبير ، ونزع الرحمة ، وعقوق الأرحام لسلطان سوء !

            وقتل بسر في مسيره ذلك جماعة من شيعة علي باليمن ، وبلغ عليا الخبر ، فأرسل جارية بن قدامة السعدي في ألفين ، ووهب بن مسعود في ألفين ، فسار جارية حتى أتى نجران ، فقتل بها ناسا من شيعة عثمان ، وهرب بسر وأصحابه منه ، واتبعه جارية حتى أتى مكة فقال : بايعوا أمير المؤمنين . فقالوا : قد هلك فلمن نبايع ؟ قال : لمن بايع له أصحاب علي . فبايعوا خوفا منه .

            ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بالناس ، فهرب منه ، فقال جارية : لو وجدت أبا سنور لقتلته . ثم قال لأهل المدينة : بايعوا الحسن بن علي فبايعوه ، وأقام يومه ، ثم عاد إلى الكوفة ورجع أبو هريرة يصلي بهم .

            دعاء علي رضي الله عنه على بسر بن أرطأة

            وكانت أم ابني عبيد الله أم الحكم جويرية بنت خويلد بن قارظ ، ( وقيل : عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان ) . فلما قتل ولداها ولهت عليهما ، فكانت لا تعقل ولا تصفي ، ولا تزال تنشدهما في المواسم فتقول :


            يا من أحس بنيي اللذين هما     كالدرتين تشظى عنهما الصدف
            يا من أحس بنيي اللذين هما     مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
            يا من أحس بنيي اللذين هما     قلبي وسمعي فقلبي اليوم مختطف
            من ذل والهة حيرى مدلهة     على صبيين ذلا إذ غدا السلف
            نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا     من إفكهم ومن القول الذي اقترفوا
            أحنى على ودجي إبني مرهفة     من الشفار ، كذاك الإثم يقترف


            وهي أبيات مشهورة ، فلما سمع أمير المؤمنين بقتلهما جزع جزعا شديدا ودعا على بسر فقال : اللهم اسلبه دينه وعقله ! فأصابه ذلك وفقد عقله ، فكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ، ويجعل بين يديه زق منفوخ ، فلا يزال يضربه ، ولم يزل كذلك حتى مات .

            اجتماع عبيد الله بن عباس مع بسر عند معاوية

            ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه عبيد الله بن عباس ، وعنده بسر ، فقال لبسر : وددت أن الأرض أنبتتني عندك حين قتلت ولدي . فقال بسر : هاك سيفي . فأهوى عبيد الله ليتناوله فأخذه معاوية وقال لبسر : أخزاك الله شيخا قد خرفت ! والله لو تمكن منه لبدأ بي ! قال عبيد الله : أجل ، ثم ثنيت به .

            ( سلمة : بكسر اللام ، بطن من الأنصار ) .

            وقيل : إن مسير بسر إلى الحجاز كان سنة اثنتين وأربعين ، فأقام بالمدينة شهرا يستعرض الناس ، لا يقال له عن أحد إنه شرك في دم عثمان إلا قتله .

            المهادنة بين معاوية وعلي رضي الله عنهما

            وفي هذه السنة جرت بين علي رضي الله عنه ومعاوية مهادنة

            بعد مكاتبات كثيرة على وضع الحرب بينهما ، ويكون لعلي العراق ، ولمعاوية الشام ، ولا يدخل أحدهما على صاحبه في حملة بجيش ولا غارة .

            قال ابن إسحاق: لما لم يعط أحد الفريقين صاحبه الطاعة ، كتب معاوية إلى علي رضي الله عنه: أما إذا شئت فلك العراق ولي الشام ، وكف هذا السيف عن هذه الأمة ولا ترق دماء المسلمين . ففعل ذلك علي رضي الله عنه ، وتراضوا على ذلك . خروج عبد الله بن العباس من البصرة

            وفي هذه السنة خرج عبد الله بن العباس من البصرة ولحق بمكة

            وذلك أنه جرى بينه وبين أبي الأسود كلام ، فكتب أبو الأسود إلى علي رضي الله عنه: إن ابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك ، فلم يسعني كتمانك ذلك ، فكتب إلى ابن عباس في ذلك ، فكتب ابن عباس: إن الذي بلغك باطل ، فكتب إليه: فأعلمني ما أخذت؟ ومن أين أخذت؟ وفيم وضعت؟ فكتب ابن عباس: ابعث إلى عملك من أحببت ، فإني ظاعن [عنه] . ورحل بمال .

            قال أبو عبيدة: كانت أرزاقا قد اجتمعت .

            وقال أبو عبيدة في رواية أخرى: إن ابن عباس لم يبرح من البصرة حتى قتل علي رضي الله عنه ، فشخص إلى الحسن فشهد الصلح بينه وبين معاوية ، ثم رجع إلى البصرة وثقله بها فحمله وحمل مالا من بيت المال قليلا ، وقال: هي أرزاقي .

            وقد أنكر المدائني هذا وقال: إن عليا قتل وابن عباس بمكة ، وإن الذي شهد الصلح بين الحسن ومعاوية عبيد الله بن العباس . من حج بالناس في هذه السنة

            وحج بالناس في هذه السنة - أعني سنة أربعين - المغيرة بن شعبة .

            مبايعة معاوية بإيلياء

            قال ابن جرير : وفي هذه السنة بويع لمعاوية بإيلياء . يعني لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين ; لأنه لم يبق له عندهم منازع ، فعند ذلك أقام أهل العراق الحسن بن علي رضي الله عنه ، ليمانعوا به أهل الشام ، فلم يتم لهم ما أرادوه وما حاولوه ، وإنما كان خذلانهم من قبل تدبيرهم السيئ وآرائهم المختلفة المخالفة لأمرائهم ، ولو كانوا يعلمون لعظموا ما أنعم الله به عليهم من مبايعتهم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسيد المسلمين ، وأحد علماء الصحابة وحلمائهم وذوى آرائهم . والدليل على أنه أحد الخلفاء الراشدين الحديث الذي أوردناه في دلائل النبوة من طرق عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا " . وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي ، رضي الله عنه ، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة ، وهذا من أكبر دلائل النبوة ، وقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنيعه هذا ، وهو تركه الدنيا الفانية ، ورغبته في الآخرة الباقية ، وحقنه دماء هذه الأمة ، فنزل عن الخلافة وجعل الملك بيد معاوية ، حتى تجتمع الكلمة على أمير واحد ، وهذا المدح قد ذكرناه فيما تقدم وسنورده في حديث أبي بكرة الثقفي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر يوما ، وجلس الحسن بن علي إلى جانبه ، فجعل ينظر إلى الناس مرة وإليه أخرى ، ثم قال : " أيها الناس ، إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " .

            وفي هذه السنة قتل علي رضي الله عنه .

            وكان عامله في هذه السنة على مكة والطائف قثم بن العباس ، وعلى المدينة أبو أيوب الأنصاري ، وقيل سهل بن حنيف حتى كان من أمر بسر بن أرطأة ما تقدم ذكره .

            وكان عامله على البصرة عبد الله بن العباس على خلاف قد سبق ذكره .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية