كانت ، وكان سببها أن أهل المدينة أخرجوا عامل يزيد وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان وخلعوا يزيد . وقعة الحرة
فذكر أبو الحسين المدائني عن أشياخه: أن أهل المدينة أتوا المنبر ، فخلعوا يزيد ، فقال عبد الله بن أبي عمرو بن حفص المخزومي: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي -ونزعها عن رأسه- وإني لا أقول هذا وقد وصلني وأحسن جائزتي ، ولكن عدو الله سكير .
وقال آخر: قد خلعته كما خلعت نعلي ، حتى كثرت العمائم والنعال ، ثم ولوا على قريش عبد الله بن مطيع ، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة ، ثم حاصر القوم من كان بالمدينة من بني أمية ومواليهم ومن يرى رأيهم .
فكتب مروان وجماعة من بني أمية إلى يزيد: "إنا قد حصرنا في دار مروان ، ومنعنا العذب ، فيا غوثاه" .
فوصل الكتاب إليه وهو جالس على كرسي واضع قدميه في ماء في طست من وجع كان به -ويقال: إنه كان به نقرس فلما قرأ الكتاب تمثل :
لقد بدلوا الحلم الذي في سجيتي فبدلت قومي غلظة بليان
ثم قال للرسول: أما يكون بنو أمية ومواليهم بالمدينة ألف رجل؟ فقال: بلى وأكثر ، قال: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار ، فقال: أجمع الناس عليهم ، فلم يكن بهم طاقة ، فبعث إلى عمرو بن سعيد فأقرأه الكتاب ، وأمره أن يسير إليهم ، فقال: قد كنت ضبطت لك البلاد ، وأحكمت الأمور ، فأما الآن فإنما هي دماء قريش تهراق ، فلا أحب أن أتولى ذلك .قال: فبعثني بالكتاب إلى مسلم بن عقبة وهو شيخ كبير ، فجاء حتى دخل على يزيد ، فقال: اخرج وسر بالناس . فخرج مناديه فنادى: أن سيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل من ساعته ، فانتدب لذلك اثني عشر ألفا ، وكتب يزيد إلى ابن مرجانة: أن اغز ابن الزبير ، فقال: لا والله لا أجمعهما للفاسق أبدا ، أقتل ابن [بنت] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأغزو البيت .
وفصل ذلك الجيش من عند يزيد وعليهم مسلم بن عقبة. الأمر بالتجهز للخروج وخرج يزيد يعرضهم وهو متقلد سيفا متنكب قوسا عربية ، وهو يقول :
أبلغ أبا بكر إذا الليل سرى وهبط القوم على وادي القرى
أجمع سكران من القوم ترى أم جمع يقظان نفى عنه الكرى
يا عجبا من ملحد يا عجبا مخادع بالدين يعفو بالعرى
وسار الجيش وعليهم مسلم ، فقال له يزيد : إن حدث بك حادث فاستخلف على الجيش حصين بن نمير السكوني ، وقال له: ادع القوم ثلاثا ، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم ، فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا ، فما فيها من مال أو سلاح أو طعام فهو للجند ، فإذا مضت الثلاث فاكفف عنهم ، وانظر علي بن الحسين فاستوص به [خيرا] ، أدن مجلسه فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه .
وقد كان مروان بن الحكم كلم ابن عمر لما أخرج أهل المدينة عامل يزيد وبني أمية في أن يغيب أهله عنده ، فلم يفعل ، فكلم علي بن الحسين ، فقال : إن لي حرما وحرمي تكون مع حرمك .
فقال : أفعل ، فبعث بامرأته ، وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان ، وحرمه إلى علي بن الحسين ، فخرج علي بحرمه وحرم مروان إلى ينبع ، وقيل : بل أرسل حرم مروان وأرسل معهم ابنه عبد الله بن علي إلى الطائف .
ولما سمع عبد الملك بن مروان أن يزيد قد سير الجنود إلى المدينة قال : ليت السماء وقعت على الأرض ، إعظاما لذلك . وأقبل مسلم بن عقبة بالجيش حتى إذا بلغ أهل المدينة إقباله وثبوا على من معهم من بني أمية فحصروهم في دار مروان ، فقالوا: لا والله لا نكف عنكم حتى نستزلكم ، ونضرب أعناقكم ، أو تعطونا عهد الله وميثاقه أن لا تبغونا غائلة ، ولا تدلوا لنا على عورة ، ولا تظاهروا علينا عدوا ، فأعطوهم العهد على ذلك ، فأخرجوهم من المدينة ، فخرجوا بأثقالهم حتى لقوا مسلم بن عقبة بوادي القرى ، فدعا بعمرو بن عثمان وقال له: أخبرني ما وراءك ، وأشر علي ، قال: لا أستطيع أن أخبرك شيئا ، أخذت علينا العهود والمواثيق أن لا ندلك على عورة ، فانتهره وقال: لولا أنك ابن عثمان لضربت ، وايم الله لا أقيلها قرشيا بعدك ، فخرج بما لقي من عنده إلى أصحابه ، فقال مروان لابنه عبد الملك: ادخل قبلي لعله يجتزئ بك عني ، فدخل عليه عبد الملك ، فقال: هات ما عندك ، أخبرني خبر الناس ، وكيف ترى؟
فقال : نعم ، أرى أن تسير بمن معك ، فإذا انتهيت إلى ذي نخلة نزلت ، فاستظل الناس في ظله فأكلوا من صقره ، فإذا أصبحت من الغد مضيت وتركت المدينة ذات اليسار ثم درت بها حتى تأتيهم من قبل الحرة مشرقا ثم تستقبل القوم ، فإذا استقبلتهم وقد أشرقت عليهم الشمس طلعت بين أكتاف أصحابك فلا تؤذيهم ويصيبهم أذاها ويرون من ائتلاف بيضكم وأسنة رماحكم وسيوفكم ودروعكم ما لا ترونه أنتم ما داموا مغربين ، ثم قاتلهم واستعن الله عليهم .
فقال له مسلم : لله أبوك أي امرئ ولد !
ثم إن مروان دخل عليه فقال له : إيه ! فقال : أليس قد دخل عليك عبد الملك ؟ قال : بلى ، وأي رجل عبد الملك ! قل ما كلمت من رجال قريش رجلا به شبيها .
فقال مروان : إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتني .
ثم ( إنه صار في كل مكان يصنع ) ما أمر به عبد الملك ، فجاءهم من قبل المشرق ، ثم دعاهم مسلم وقال: يا أهل المدينة ، إن أمير المؤمنين يزيد يزعم أنكم الأصل ، ويقول: إني أكره إراقة دمائكم ، وإني أؤجلكم ثلاثا ، فمن راجع الحق أمنته ورجعت عنكم ، وسرت إلى هذا الملحد الذي بمكة ، وإن أبيتم فقد أعذرنا إليكم ، فلما مضت الأيام الثلاثة قال: يا أهل المدينة ما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون ؟
فقالوا : بل نحارب .
فقال لهم : لا تفعلوا بل ادخلوا في الطاعة ونجعل جدنا وشوكتنا على أهل هذا الملحد الذي قد جمع إليه المراق والفساق من كل أوب ، يعني ابن الزبير . فقالوا له : يا أعداء الله لو أردتم أن تجوزوا إليه ما تركناكم ، نحن ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام فتخيفوا أهله وتلحدوا فيه وتستحلوا حرمته ؟ ! لا والله لا نفعل .
وكان أهل المدينة قد اتخذوا خندقا وعليه جمع منهم ، وكان عليه عبد الرحمن بن زهير بن عبد عوف ، وهو ابن عم عبد الرحمن بن عوف ، وكان عبد الله بن مطيع على ربع آخر ، وهم قريش في جانب المدينة ، وكان معقل بن سنان الأشجعي ، وهو من الصحابة ، على ربع آخر ، وهم المهاجرون ، وكان أمير جماعتهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري في أعظم تلك الأرباع ، وهم الأنصار .
وصمد مسلم فيمن معه ، فأقبل من ناحية الحرة حتى ضرب فسطاطه على طريق الكوفة ، وكان مريضا ، فأمر فوضع له كرسي بين الصفين وقال يا أهل الشام قاتلوا عن أميركم وادعوا . فأخذوا لا يقصدون ربعا من تلك الأرباع إلا هزموه ، ثم وجه الخيل نحو ابن الغسيل ، فحمل عليهم ابن الغسيل فيمن معه فكشفهم ، فانتهوا إلى مسلم ، فنهض في وجوههم بالرجال وصاح بهم ، فقاتلوا قتالا شديدا .
ثم إن الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب جاء إلى ابن الغسيل فقاتل معه في نحو من عشرين فارسا قتالا حسنا ، ثم قال لابن الغسيل : من كان معك فارسا فليأتني فليقف معي ، فإذا حملت فليحملوا ، فوالله لا أنتهي حتى أبلغ مسلما فأقتله أو أقتل دونه .
ففعل ذلك وجمع الخيل إليه ، فحمل بهم الفضل على أهل الشام فانكشفوا ، فقال لأصحابه : احملوا أخرى جعلت فداكم ، فوالله لئن عاينت أميرهم لأقتلنه أو أقتل دونه .
إنه ليس بعد الصبر إلا النصر ! ثم حمل وحمل أصحابه ، فانفرجت خيل الشام عن مسلم بن عقبة ومعه نحو خمسمائة راجل جثاة على الركب مشرعي الأسنة نحو القوم ، ومضى الفضل كما هو نحو راية مسلم فضرب رأس صاحبها ، فقط المغفر وفلق هامته وخر ميتا ، وقال : خذها مني وأنا ابن عبد المطلب ! وظن أنه مسلم ، فقال : قتلت طاغية القوم ورب الكعبة ! فقال : أخطأت استك الحفرة !
وإنما كان ذلك غلاما روميا وكان شجاعا ، فأخذ مسلم رايته وحرض أهل الشام وقال : شدوا مع هذه الراية .
فمشى برايته وشدت تلك الرجال أمام الراية ، فصرع الفضل بن عباس ، فقتل وما بينه وبين أطناب مسلم بن عقبة إلا نحو من عشرة أذرع ، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف .
وأقبلت خيل مسلم ورجالته نحو ابن الغسيل ، وهو يحرض أصحابه ويذم أهل المدينة ، ويقدم الخيل إلى ابن الغسيل وأصحابه ، فلم تقدم عليهم للرماح التي بأيدهم والسيوف ، وكانت تتفرق عنهم ، فنادى مسلم الحصين بن نمير وعبد الله بن عضاه الأشعري وأمرهما أن ينزلا في جندهما ، ففعلا وتقدما إليهم ، فقال ابن الغسيل لأصحابه : إن عدوكم قد أصاب وجه القتال الذي كان ينبغي أن يقاتلكم به ، وإني قد ظننت ألا يلبثوا إلا ساعة حتى يفصل الله بينكم وبينهم إما لكم وإما عليكم ، أما إنكم أهل النصرة ودار الهجرة وما أظن أن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضى منه عنكم ، ولا على أهل بلد من بلدان العرب بأسخط منه على هؤلاء الذين يقاتلونكم ، وإن لكل امرئ منكم ميتة هو ميت بها لا محالة ، ووالله ما من ميتة أفضل من ميتة الشهادة ، وقد ساقها الله إليكم فاغتنموها .
ثم دنا بعضهم من بعض فأخذ أهل الشام يرمونهم بالنبل ، فقال ابن الغسيل لأصحابه : علام تستهدفون لهم ! من أراد التعجيل إلى الجنة فليلزم هذه الراية .
فقال إليه كل مستميت فنهض بعضهم إلى بعض فاقتتلوا أشد قتال رؤي لأهل هذا القتال ، وأخذ ابن الغسيل يقدم بنيه واحدا واحدا ، حتى قتلوا بين يديه ويضرب بسيفه ويقول :
بعدا لمن رام الفساد وطغى وجانب الحق وآيات الهدى
لا يبعد الرحمن إلا من عصى
ثم قتل وقتل معه أخوه لأمه محمد بن ثابت بن قيس بن شماس ، فقال : ما أحب أن الديلم قتلوني مكان هؤلاء القوم ! وقتل معه عبد الله بن زيد بن عاصم ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصاري . فمر به مروان بن الحكم فقال : رحمك الله ! رب سارية قد رأيتك تطيل القيام في الصلاة إلى جنبها .
وانهزم الناس ، وكان فيمن انهزم محمد بن سعد بن أبي وقاص بعدما أبلى . وأباح مسلم المدينة ثلاثا ، يقتلون الناس ويأخذون الأموال ، فأرسلت سعدى بنت عوف المرية إلى مسلم ، تقول بنت عمك: مر أصحابك لا يعترضوا الإبل لنا بمكان كذا ، فقال: لا تبدءوا إلا بها . وجاءت امرأة إلى مسلم وقالت: أنا مولاتك وابني في الأسرى ، فقال: عجلوه لمكانها ، فضربت عنقه ، وقال: أعطوها رأسه ، أما ترضين أن لا تقتلي حتى تكلمي في ابنك ، ووقعوا على النساء ، وقاتل عبد الله بن مطيع حتى قتل هو وبنون له سبعة ، وبعث برأسه إلى يزيد .
فأفزع ما جرى من كان بالمدينة من الصحابة ، فخرج أبو سعيد الخدري حتى دخل الجبل ، فدخل عليه رجل بسيف ، فقال: من أنت؟ فقال: أبو سعيد ، فتركه .
وعن خالد الكندي ، عن عمته أم الهيثم بنت يزيد ، قالت: رأيت امرأة من قريش تطوف ، فعرض لها أسود ، فعانقته وقبلته ، فقلت: يا أمة الله ، أتفعلين هذا بهذا الأسود ، قالت: هو ابني وقع علي أبوه يوم الحرة ، فولدت هذا .
وعن المدائني ، عن أبي قرة ، قال: قال هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة بعد الحرة من غير زوج ، ثم دعا مسلم بالناس إلى البيعة ليزيد ، وقال: بايعوا على أنكم خول له ، وأموالكم له ، فقال يزيد بن عبد الله بن ربيعة: نبايع على كتاب الله ، فأمر به فضربت عنقه ، وبدأ بعمرو بن عثمان ، فقال: هذا الخبيث ابن الطيب ، فأمر به فنتفت لحيته .
وعن حويرثة وابن جعدية: أن مسلما نظر إلى قتلى الحرة ، فقال: إن دخلت النار . . . . . بعدها ولا إني لشقي .
وأسر مسلم أسراء فحبسهم ثلاثة أيام لم يطعموا ، فجاءوا بسعيد بن المسيب إلى مسلم ، فقالوا: بايع ، فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر ، فأمر بضرب عنقه ، فشهد له رجل أنه مجنون فخلى عنه .
وعن المدائني ، عن علي بن عبد الله القرشي ، وأبي إسحاق التميمي ، قال: لما انهزم أهل المدينة والصبيان ، فقال ابن عمر: بعثمان ورب الكعبة .
وعن المدائني ، عن محمد بن عمر قال: قال ذكوان مولى مروان: شرب مسلم بن عقبة دواء بعدما نهب المدينة ، ودعا بالغداء ، فقال له الطبيب: لا تعجل فإني أخاف عليك إن أكلت قبل أن يعمل الدواء ، قال: ويحك! إنما أحب البقاء حتى أشفي قلبي -أو قال: نفسي- من قتلة عثمان ، فقد أدركت ما أردت فليس شيء أحب إلي من الموت على طهارتي ، فإني لا أشك أن الله قد طهرني من ذنوبي بقتلي هؤلاء الأرجاس .
وعن المدائني ، عن شيخ من أهل المدينة ، قال: سألت الزهري: كم كانت القتلى يوم الحرة ؟ قال: سبعمائة من وجوه الناس من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الموالي ، وممن لا يعرف من عبد وحر وامرأة عشرة آلاف ، وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين ، وانتهبوا المدينة ثلاثة أيام .
وعن المدائني ، بسنده عن رجل من قريش ، قال: كنت أنزل بذي الحليفة فدخلت المسجد فإذا رجل مريض ، قلت: من أنت؟ قال: أنا رجل من خثعم أقبلت من نجران ، فمرضت فتركني أصحابي ومضوا ، فحولته إلى المنزل ، فكان عندنا حتى صح ، وأقام عندنا حينا كرجل منا ، وعملت لصاحبتي حليا بمائة دينار وهو يرى ذلك ، ثم خرج إلى الشام ، فقدم المدينة أيام الحرة وقد تحولنا من ذي الحليفة إلى المدينة ، فلما انتهب مسلم المدينة أتانا في جماعة فسمعت الجلبة في الدار ، فخرجت فإذا أنا به وأصحابه خارجا ، فقلت له: قد كنا نتمناك ، قال: ما جئت إلا لأدفع عن دمك ، ولكني آخذ مالك ، فإن الأمير قد أمرنا بالنهب ، وسيؤخذ ما عندك وأنا أحق به ، فقلت: أنت لعمري أحق به ، فاصرف أصحابك وخذه وحدك ، فخرج فرد أصحابه ورجع ، فقال: ما فعل الحلي؟ قلت: على حاله ، قال: فهاته ، قلت: هو مدفون بذي الحليفة عند البئر التي رأيت ، فإذا أمسينا خرجنا إليها فأدفعه إليك . فلما أمسيت خرجت أنا وهو وتبعني ابنان لي حتى انتهينا إلى البئر وطولها ثلاثون ذراعا ، فأخذناه أنا وابناي ، فشددناه وثاقا ، وأرميناه في البئر ودفناه فيها ورجعنا ، فلما أصبحنا إذا رجل ممن كان معه بالأمس قد أتانا ، فقال: أين أبو المحرش؟ قلنا: غدا حين أصبح ، قال: أراه والله خدعنا وأخذ المتاع ، قلنا: ما أخذ شيئا ، ادخل فانظر ، فدخل فأغلقنا عليه الباب وقتلناه .
وعن المدائني ، بسنده عن أبي بكر بن إبراهيم بن نعيم بن النحام ، قال: مر ركب من أهل اليمن إلى الشام يريدونه ومعهم رجل مريض ، فأرادوا دفنه وهو حي ، فمنعهم أبي ، فمضوا وخلفوه ، فلم يلبث أن برئ وصح ، فجهزه أبي وحمله ، وكان ممن قدم مع مسلم ، فرأته جارية لنا ، فعرفته ، فقالت: عمرو ، فقال: نعم وعرفها ، قال: ما فعل أبو إسحاق؟ قالت: قتل ، فقال لأصحابه: هؤلاء أيسر أهل [بيت] بالمدينة ، فانتهبوا منزلهم ، فكان يضرب به المثل بالمدينة : "وأنت أقل شكرا من عمرو" .
ثم استخلف مسلم على المدينة روح بن زنباع ، وسار إلى ابن الزبير ، فاحتضر في الطريق ، فقال لحصين بن نمير: إنك تقدم بمكة ولا منعة لهم ولا سلاح ، ولهم جبال تشرف عليهم ، فانصب عليهم المنجنيق فإنهم بين جبلين ، فإن تعوذوا بالبيت فارمه واتجه على بنيانه .
قال أبو معشر والواقدي: كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين .
وقال بعضهم: لثلاث بقين منه . من قتل في الحرة قال محمد بن عمارة : قدمت الشام في تجارة فقال لي رجل : من أين أنت ؟ فقلت : من المدينة .
فقال : خبيثة .
فقلت : يسميها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طيبة وتسميها خبيثة ! فقال : إن لي ولها لشأنا ، لما خرج الناس إلى وقعة الحرة رأيت في المنام أني قتلت رجلا اسمه محمد أدخل بقتله النار ، فاجتهدت في أني لا أسير معهم فلم يقبل مني ، فسرت معهم ولم أقاتل حتى انقضت الوقعة ، فمررت برجل في القتلى به رمق فقال : تنح يا كلب ! فأنفت من كلامه وقتلته ، ثم ذكرت رؤياي فجئت برجل من أهل المدينة يتصفح القتلى ، فلما رأى الرجل الذي قتلته قال : إنا لله ، لا يدخل قاتل هذا الجنة .
قلت : ومن هذا ؟ قال : هو محمد بن عمرو بن حزم ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسماه محمدا وكناه أبا عبد الملك ، فأتيت أهله فعرضت عليهم أن يقتلونني فلم يفعلوا ، وعرضت عليهم الدية فلم يأخذوا .
وممن قتل بالحرة عبد الله ( بن عاصم الأنصاري ، وليس بصاحب الأذان ، ذاك ) ابن زيد بن ثعلبة .
وقتل أيضا فيها عبيد الله ( بن عبد الله بن موهب .
ووهب بن عبد الله بن زمعة بن الأسود .
وعبد الله بن الرحمن بن حاطب .
وزبير بن عبد الرحمن بن عوف .
وعبد الله ) بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب .
رواية أخرى لوقعة الحرة وقد رويت قصة الحرة على غير ما رواه أبو مخنف فعن جويرية بن أسماء قال : سمعت أشياخ أهل المدينة يحدثون أن معاوية لما حضرته الوفاة دعا ابنه يزيد فقال له : إن لك من أهل المدينة يوما ، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفت نصيحته . فلما هلك معاوية وفد إليه وفد من أهل المدينة ، وكان ممن وفد عليه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر - وكان شريفا فاضلا سيدا عابدا - معه ثمانية بنين له ، فأعطاه مائة ألف درهم ، وأعطى بنيه ، كل واحد منهم عشرة آلاف سوى كسوتهم وحملانهم ، فلما قدم المدينة عبد الله بن حنظلة أتاه الناس فقالوا : ما وراءك ؟ قال : جئتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم . قالوا : قد بلغنا أنه أعطاك وأحذاك وأكرمك . قال : قد فعل ، وما قبلت منه إلا لأتقوى به . فحض الناس فبايعوه ، فبلغ ذلك يزيد ، فبعث إليهم مسلم بن عقبة ، وقد بعث أهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين الشام فصبوا فيه زقا من قطران وعوروه ، فأرسل الله على جيش الشام السماء مدرارا ، فلم يستقوا بدلو حتى وردوا المدينة ، فخرج إليهم أهل المدينة بجموع كثيرة وهيئة لم ير مثلها ، فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم ، ومسلم شديد الوجع ، فبينما الناس في قتالهم إذ سمعوا التكبير من خلفهم في جوف المدينة ، وأقحم عليهم بنو حارثة من أهل الشام وهم على الجدد ، فانهزم الناس ، فكان من أصيب في الخندق أكثر ممن قتل من الناس ، فدخلوا المدينة ، وهزم الناس وعبد الله بن حنظلة مستند إلى الجدار يغط نوما ، فنبهه ابنه ، فلما فتح عينيه ، ورأى ما صنع الناس ، أمر أكبر بنيه فتقدم حتى قتل ، فدخل مسلم بن عقبة المدينة ، فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية ، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء .
وعن المدائني قال : لما قتل أهل الحرة هتف هاتف بمكة على أبي قبيس مساء تلك الليلة ، وابن الزبير جالس يسمع :
قتل الخيار بنو الخيا ر ذوو المهابة والسماح
والصائمون القائمو ن القانتون أولو الصلاح
المهتدون المتقو ن السابقون إلى الفلاح
ماذا بواقم والبقيع من الجحاجحة الصباح
وبقاع يثرب ويحهن من النوادب والصياح
خطأ يزيد في إباحته المدينة ثلاثة أيام وقد أخطأ يزيد خطأ فاحشا في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام ، وهذا خطأ كبير ، فإنه وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف ، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل .
وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه وملكه ، ودوام أيامه ، فعاقبه الله بنقيض قصده ، فقصمه الله قاصم الجبابرة ، وأخذه أخذ عزيز مقتدر .
قال البخاري في " صحيحه " بسنده ، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ، عن أبيها قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء " .
وعن السائب بن خلاد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " . وعن محمد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله قالا : لعن يزيد بن معاوية وقد استدل بهذا الحديث وأمثاله من ذهب إلى الترخيص في خرجنا مع أبينا يوم الحرة ، وقد كف بصره فقال : تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلنا : يا أبت ، وهل أحد يخيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أخاف هذا الحي من الأنصار فقد أخاف ما بين هذين " . ووضع كفيه على جنبيه ، وهو رواية عن أحمد بن حنبل اختارها الخلال ، وأبو بكر عبد العزيز ، والقاضي أبو يعلى ، وابنه القاضي أبو الحسين ، وانتصر لذلك الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد وجوز لعنه ، ومنع من ذلك آخرون - وصنفوا فيه أيضا - لئلا يجعل لعنه وسيلة إلى أبيه أو أحد من الصحابة ، وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه تأول وأخطأ ، وقالوا : إنه كان مع ذلك إماما فاسقا ، والإمام إذا فسق لا يعزل بمجرد ذلك ، على أصح قولي العلماء ، بل ولا يجوز الخروج عليه ; لما في ذلك من إثارة الفتنة ، ووقوع الهرج ، كما جرى . لعنة يزيد بن معاوية
وأما ما يذكره بعض الناس من أن يزيد بن معاوية لما بلغه خبر أهل المدينة ، وما جرى عليهم عند الحرة من مسلم بن عقبة وجيشه ، فرح بذلك فرحا شديدا ، فإنه كان يرى أنه الإمام ، وقد خرجوا عن طاعته ، وأمروا عليهم غيره ، فله قتالهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ، ولزوم الجماعة ، كما أنذرهم بذلك على لسان النعمان بن بشير ومسلم بن عقبة ثلاثة أيام كما تقدم ، وقد جاء في الحديث الصحيح : " من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان " . وأما ما يوردونه عنه من الشعر في ذلك ، واستشهاده بشعر ابن الزبعرى في وقعة أحد التي يقول فيها :
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها واستحر القتل في عبد الأشل
قد قتلنا الضعف من أشرافهم وعدلنا ميل بدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا ملك جاء ولا وحي نزل