الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            خلافة ابن الزبير

            رضي الله عنه

            [64 - 73 هـ]


            عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي، كنيته أبو بكر، وقيل: أبو خبيب - بضم الخاء المعجمة - وقيل: أبو بكير، صحابي ابن صحابي.

            أبوه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأمه: أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها -، وأم أبيه: صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم.

            ولد بالمدينة بعد عشرين شهرا من الهجرة، وقيل: في السنة الأولى، وهو أول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة، وفرح المسلمون بولادته فرحا شديدا؛ لأن اليهود كانوا يقولون: سحرناهم فلا يولد لهم ولد، فحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة لاكها، وسماه عبد الله، وكناه أبا بكر، باسم جده الصديق وكنيته.

            وكان صواما قواما طويل الصلاة، وصولا للرحم، عظيم الشجاعة، قسم الدهر ثلاث ليال: ليلة يصلي قائما حتى الصباح، وليلة راكعا، وليلة ساجدا حتى الصباح.

            روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون حديثا.

            روى عنه: أخوه عروة، وابن أبي مليكة، وعباس بن سهل، وثابت البناني، وعطاء، وعبيدة السلماني، وخلائق آخرون. [ذكر شيء من فضائل سيدنا ابن الزبير رضي الله عنهما]

            أخرج أبو يعلى في «مسنده» عن ابن الزبير: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، فلما فرغ... قال له: «يا عبد الله؛ اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد»، فلما ذهب... شربه، فلما رجع قال: «ما صنعت بالدم» ؟ قال: عمدت إلى أخفى موضع عملت فجعلته فيه، قال: «لعلك شربته»، قال: نعم، قال: «ويل للناس منك، وويل لك من الناس!» فكانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم.

            وأخرج عن نوف البكالي قال: (إني لأجد في كتاب الله المنزل: أن ابن الزبير فارس الخلفاء).

            وقال عمرو بن دينار: (ما رأيت مصليا أحسن صلاة من ابن الزبير).

            وكان يصلي في الحجر، والمنجنيق يصيب طرف ثوبه فما يلتفت إليه.

            وقال مجاهد: (ما كان باب من العبادة يعجز الناس عنه إلا تكلفه ابن الزبير، ولقد جاء سيل طبق البيت، فجعل يطوف سباحة).

            وقال عثمان بن طلحة: (كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاثة: لا شجاعة، ولا عبادة، ولا بلاغة).

            وكان صيتا، إذا خطب... تجاوبه الجبلان.

            وأخرج ابن عساكر عن عروة: أن النابغة الجعدي أنشد عبد الله بن الزبير:


            حكيت لنا الصديق لما وليتنا وعثمان، والفاروق، فارتاح معدم     وسويت بين الناس في الحق، فاستوى
            فعاد صباحا حالك اللون أسحم

            وأخرج عن هشام بن عروة وخبيب قالا: (أول من كسا الكعبة الديباج: عبد الله بن الزبير، وكان كسوتها المسوح والأنطاع).

            وأخرج عن عمر بن قيس قال: (كان لابن الزبير مائة غلام؛ يتكلم كل غلام منهم بلغة أخرى؛ وكان ابن الزبير يكلم كل واحد منهم بلغته، وكنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه... قلت: هذا رجل لم يرد الله طرفة عين، وإذا نظرت إليه في أمر آخرته... قلت: هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين).

            وأخرج عن هشام بن عروة قال: (كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير - وهو صغير - : السيف، فكان لا يضعه من فيه، فكان أبوه إذا سمع ذلك منه يقول: أما والله؛ ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام). [قصة إن وراكبها]

            وأخرج عن أبي عبيدة قال: جاء عبد الله بن الزبير الأسدي إلى عبد الله بن الزبير بن العوام فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن بيني وبينك رحما من قبل فلانة.

            فقال ابن الزبير: نعم؛ هذا كما ذكرت، وإن فكرت في هذا... أصبت؛ الناس بأسرهم يرجعون إلى أب واحد وإلى أم واحدة.

            فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن نفقتي نفدت.

            قال: ما كنت ضمنت لأهلك أنها تكفيك إلى أن ترجع إليهم.

            قال: يا أمير المؤمنين؛ فإن ناقتي قد نقبت.

            قال: أنجد بها تبرد خفها، وارقعها بسبت، واخفضها بهلب، وسر عليها البردين.

            قال: يا أمير المؤمنين؛ إنما جئتك مستحملا ولم آتك مستوصفا، لعن الله ناقة حملتني إليك.

            فقال ابن الزبير: إن وراكبها! فخرج الأسدي وأنشأ يقول:


            أرى الحاجات عند أبي خبيب     نكدن، ولا أمية في البلاد
            من الأعياص أو من آل حرب     أغر كغرة الفرس الجواد
            وقلت لصحبتي: أدنوا ركابي     أفارق بطن مكة في سواد
            وما لي حين أقطع ذات عرق     إلى ابن الكاهلية من معاد!

            وأخرج عبد الرزاق في «مصنفه» عن الزهري قال: (لم يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس إلى المدينة قط ولا يوم بدر، وحمل إلى أبي بكر رأس فكره ذلك، وأول من حملت إليه الرءوس: عبد الله بن الزبير).

            وفي أيام ابن الزبير كان خروج المختار الكذاب الذي ادعى النبوة، فجهز ابن الزبير لقتاله إلى أن ظفر به في سنة سبع وستين وقتله، لعنه الله. وقد استمر ابن الزبير ... بمكة خليفة إلى أن تغلب عبد الملك، فجهز لقتاله الحجاج في أربعين ألفا، فحصره بمكة أشهرا ورمى عليه بالمنجنيق، وخذل ابن الزبير أصحابه، وتسللوا إلى الحجاج، فظفر به ثم قتله وصلبه، وذلك يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى - وقيل: الآخرة - سنة ثلاث وسبعين.

            أخرج ابن عساكر عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: (إني لفوق أبي قبيس حين وضع المنجنيق على ابن الزبير، فنزلت صاعقة كأني أنظر إليها تدور كأنها حمار أحمر، قد حرقت أصحاب المنجنيق نحوا من خمسين رجلا).

            وكان ابن الزبير فارس قريش في زمانه، له المواقف المشهودة.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية