الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وفي سنة ست وستين ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس ، وعمارة الجامع الأقصى ، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين ، وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة ، وكان يخطب في أيام منى وعرفة ، ومقام الناس بمكة ، وينال من عبد الملك ، ويذكر مساوئ بني مروان ، ويقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وما نسل ، وإنه طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه ، وكان يدعو إلى نفسه ، وكان فصيحا ، فمال معظم أهل الشام إليه ، وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا ، فبنى لهم القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة ، وينحرون يوم العيد ويحلقون رءوسهم ففتح بذلك على نفسه باب تشنيع ابن الزبير عليه ، فكان يشنع عليه بمكة ويقول ضاهى بها فعل الأكاسرة في إيوان كسرى ، والخضراء كما فعل معاوية ، ونقل الطواف من بيت الله إلى قبلة بني إسرائيل ، ونحو ذلك .

            ولما أراد عبد الملك بناءها سار من دمشق إلى بيت المقدس ومعه الأموال والعمال ، ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ، ويزيد بن سلام مولاه ، وجمع الصناع والمهندسين فأمرهم فصوروا له القبة في صحن المسجد فأعجبه ، وبنى للمال بيتا شرقي القبة ، وشحنه بالمال ، وأمر رجاء بن حيوة ، ويزيد أن يفرغا الأموال إفراغا ، ولا يتوقفا فيه ، فبثوا النفقات وأكثروا فبنوا القبة التي هي اليوم قائمة ، وبنوا من ناحية القبلة سبع قباب ، والقبة التي باقية اليوم على المحراب هي أوسطها ، ولما تم بناء القبة عمل لها جلالين أحدهما من لبود أحمر للشتاء ، والآخر من أدم للصيف ، وحف الصخرة بدرابزين من الساج المطعم باليشم ، وخلف الدرابزين ستور من الديباج مرخاة بين العمد ، وكانت السدنة كل خميس واثنين يذوبون المسك ، والعنبر والماورد والزعفران ويعملون منه غالية ، ويخمرونها من الليل ثم يدخل الخدم الحمام من الليل فيغتسلون ويتطيبون ، ويلبسون ثياب الوشي ، ويشدون أوساطهم بالمناطق المحلاة بالذهب ويخلقون الصخرة ، ثم يضعون البخور في مجامر الذهب والفضة ، وفيها العود القماري المغلي بالمسك ، ويرخي السدنة الستور فتخرج تلك الرائحة فتملأ المدينة كلها ، ثم ينادي مناد : ألا إن الصخرة قد فتحت ، فمن أراد الزيارة فليأت ، فيقبل الناس مبادرين ، فيصلون ويخرجون ، فمن وجدت منه رائحة البخور قال الناس : هذا كان اليوم في الصخرة .

            وأبواب الصخرة أربعة ، على كل باب عشرة من الحجبة ، الباب الشمالي يسمى باب الجنة ، والشرقي باب إسرائيل ، والغربي باب جبريل ، والقبلي باب الأقصى ، وكانوا يشعلونها بدهن البان ، ولا يدخلها أحد غير أيام الزيارة سوى الخدم ، وكان للحرم عشرون بابا ، وكان فيه ألف عمود من الرخام ، وفي السقوف ستون ألف خشبة من الساج المنقوش ، ومن القناديل خمسة آلاف قنديل ، وكان فيه أربعمائة سلسلة ، كل سلسلة ألف رطل شامي ، طول السلاسل ثلاثون ألف ذراع ، وكان يوقد في الصخرة كل ليلة مائة شمعة ، وكذا في الأقصى ، وكان يوقد في القناديل كل ليلة من الزيت المفتول قنطار ، وكان في الحرم خمسون قبة ، ومن ألواح الرصاص سبعون ألف لوح ، وكان في الحرم ثلاثمائة خادم ابتاعوا من بيت المال من الخمس ، كلما مات واحد قام ولده بعده مقامه ، ويقبضون أرزاقهم من بيت المال شهرا بشهر ، وكان في الحرم مائة صهريج ، وكانت صفائح القبة وسقف الأقصى من صفائح الذهب عوض الرصاص ، وكذلك أبواب القبة صفائحها ، وذلك أنه لما كمل البناء فضل من المال ثلاثمائة ألف دينار ، وقيل ستمائة ألف . وكتب رجاء بن حيوة ، و يزيد إلى عبد الملك يعرفانه بذلك ، فكتب إليهما : قد جعلته لكما عوضا عن تعبكما . فكتبا إليه : إنما قمنا بهذا البيت لله تعالى ، فلا نقبل على ذلك عرض الدنيا ، ولوددنا أن نزيد فيه من حلي نسائنا . فكتب إليهم إذا أبيتم ذلك فأفرغاه على القبة والأبواب ، فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب . فلما كان في خلافة أبي جعفر المنصور قدم القدس سنة أربعين ومائة فوجد الأقصى وقبابه تشكو من الخراب ، فأمر بقلع الصفائح التي على القبة والأبواب ، وأن يعمر بها ما تشعث في الحرم ، ففعلوا ذلك ، وكان المسجد طويلا فأمر أن يؤخذ من طوله ويزاد في عرضه ، ولما كمل البناء كتبوا على القبة مما يلي الباب القبلي من جهة الأقصى بالنص بعد البسملة : بنى هذه القبة عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين سنة اثنتين وسبعين من الهجرة النبوية ، وكان طول المسجد من القبلة إلى الشمال سبعمائة وخمسة وستين ذراعا ، وعرضه أربعمائة وستين ذراعا ، وكان فتح القدس سنة ست عشرة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية