الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وثوب المختار بن أبي عبيد طالبا بدم الحسين رضي الله عنه . ففي رابع عشر ربيع الأول في سنة ست وستين

            وثب المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب بالكوفة ؛ ليأخذ بثأر الحسين بن علي - فيما يزعم - وأخرج عنها عاملها عبد الله بن مطيع ، وكان سبب ذلك أنه لما رجع أصحاب سليمان بن صرد مغلوبين إلى الكوفة وجدوا المختار بن أبي عبيد الكذاب مسجونا ، فكتب إليهم يعزيهم ويعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ، وقال لهم فيما كتب به إليهم خفية : أبشروا ، فإني لو قد خرجت إليكم جردت فيما بين المشرق والمغرب من أعدائكم السيف ، فجعلتهم بإذن الله ركاما ، وقتلتهم فذا وتوأما ، فرحب الله بمن قارب منكم واهتدى ، ولا يبعد الله إلا من أبى وعصى . فلما وصلهم الكتاب قرءوه سرا وردوا إليه : إنا كما تحب ، فمتى أحببت أخرجناك من محبسك . فكره أن يخرجوه من مكانه على وجه القهر لنواب الكوفة ، فتلطف فكتب إلى زوج أخته صفية - وكانت امرأة صالحة - وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب يسأله أن يشفع في خروجه من محبسه عند نائبي الكوفة عبد الله بن يزيد ، و إبراهيم بن محمد بن طلحة ، فكتب ابن عمر إليهما يشفع عندهما فيه فلم يمكنهما رده ، وكان فيما كتب إليهما ابن عمر : قد علمتما ما بيني وبينكما من الود وما بيني وبين المختار من القرابة والصهر ، وأنا أقسم عليكما لما خليتما سبيله ، والسلام . فاستدعيا به فضمنه جماعة من أصحابه ، واستحلفه عبد الله بن يزيد إن هو بغى للمسلمين غائلة فعليه ألف بدنة ينحرها تجاه الكعبة ، وكل مملوك له - من عبد وأمة - حر ، فالتزم لهما بذلك ، ولزم منزله ، وجعل يقول : قاتلهما الله ، أما حلفي بالله ، فإني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ، وأما إهدائي ألف بدنة فيسير ، وأما عتقي مماليكي فوددت أنه قد استتم لي هذا الأمر ولا أملك مملوكا واحدا .

            اجتماع الشيعة على المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب ومبايعتهم له واجتمعت الشيعة عليه ، وكثر أصحابه وبايعوه في السر . وكان الذي يأخذ البيعة له ويحرض الناس عليه خمسة وهم السائب بن مالك الأشعري ، و يزيد بن أنس ، و أحمر بن شميط ; ورفاعة بن شداد ، و عبد الله بن شداد الجشمي ، ولم يزل أمره يقوى ويشتد ويستفحل ويرتفع ، حتى عزل عبد الله بن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد ، و إبراهيم بن محمد بن طلحة ، وبعث عبد الله بن مطيع نائبا عليها ، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة نائبا على البصرة .

            ولقي بحير بن ريسان الحميري عبد الله بن مطيع عند مسيره إلى الكوفة فقال له : لا تسر الليلة فإن القمر بالناطح فلا تسر ، فقال له : وهل نطلب إلا النطح ! فلقي نطحا كما يريد ، فكان البلاء موكلا بمنطقه ، وكان شجاعا .

            وسار إبراهيم إلى المدينة وكسر الخوارج وقال : كانت فتنة ، فسكت عنه ابن الزبير .

            وكان قدوم ابن مطيع في رمضان لخمس بقين منه ، وجعل على شرطته إياس بن مضارب العجلي ، وأمره بحسن السيرة والشدة على المريب ، ولما قدم صعد المنبر فخطبهم وقال : أما بعد فإن أمير المؤمنين بعثني على مصركم وثغوركم ، وأمرني بجباية فيئكم وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلا برضى منكم ، وأن أتبع وصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته ، وسيرة عثمان بن عفان ، فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا وخذوا على أيدي سفهائكم ، فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم [ ولا تلوموني ] فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي ، ولأقيمن درء الأصعر المرتاب .

            فقام إليه السائب بن مالك الأشعري فقال : أما حمل فيئنا برضانا فإنا نشهد أنا لا نرضى أن يحمل عنا فضله وأن لا يقسم إلا فينا ، وأن لا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك ، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا ، ولا في سيرة عمر بن الخطاب فينا ، وإن كانت أهون السيرتين علينا ، وقد كان يفعل بالناس خيرا .

            فقال يزيد بن أنس : صدق السائب وبر .

            فقال ابن مطيع : نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها . ثم نزل . وجاء صاحب الشرطة ، وهو إياس بن مضارب العجلي إلى ابن مطيع فقال له : إن هذا الذي رد عليك من رءوس أصحاب المختار ، ولست آمن المختار ، فابعث إليه فاردده إلى السجن ، فإن عيوني قد أخبروني أن أمره قد استجمع له ، وكأنك به وقد وثب بالمصر . فبعث إليه عبد الله بن مطيع زائدة بن قدامة ، وأميرا آخر معه ، فدخلا على المختار فقالا له : أجب الأمير . فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته ، وتهيأ للذهاب معهما ، فقرأ زائدة بن قدامة وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك الآية . فألقى المختار نفسه وأمر بقطيفة أن تلقى عليه ، وأظهر أنه مريض ، وقال : أخبرا الأمير بحالي ، فرجعا إلى ابن مطيع فاعتذرا عنه ، فصدقهما ولها عنه .

            خروج المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب ليأخذ بثأر الحسين بن علي رض الله عنه فلما كان المحرم من هذه السنة عزم المختار على الخروج لطلب ثأر الحسين - فيما يزعم - فلما صمم على ذلك اجتمعت عليه الشيعة وثبطوه عن الخروج الآن إلى وقت آخر وجاء رجل من أصحاب شبام ، وشبام حي من همدان ، وكان شريفا اسمه عبد الرحمن بن شريح ، فلقي سعيد بن منقذ الثوري وسعر بن أبي سعر الحنفي والأسود بن جراد الكندي وقدامة بن مالك الجشمي فقال لهم : إن المختار يريد أن يخرج بنا ولا ندري أرسله ابن الحنفية أم لا ، فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية نخبره بما قدم علينا به المختار ، فإن رخص لنا في اتباعه تبعناه وإن نهانا عنه اجتنبناه ، فوالله ما ينبغي أن يكون شيء من الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا . قالوا له : أصبت .

            فخرجوا إلى ابن الحنفية ، فلما قدموا عليه سألهم عن حال الناس فأخبروه عن حالهم وما هم عليه وأعلموه حال المختار وما دعاهم إليه واستأذنوه في اتباعه .

            فلما فرغوا من كلامهم قال لهم بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر فضيلة أهل البيت والمصيبة بقتل الحسين ، ثم قال لهم : وأما ما ذكرتم ممن دعاكم إلى الطلب بدمائنا فوالله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه ، ولو كره لقال لا تفعلوا .

            فعادوا وناس من الشيعة ينتظرونهم ممن أعلموه بحالهم وقد كان المختار بلغه مخرجهم إلى محمد ابن الحنفية ، فكره ذلك ، وخشي أن يكذبه فيما أخبر به عنه ، فإنه لم يكن بإذن محمد ابن الحنفية ، وهم بالخروج قبل رجوع أولئك ، وجعل يسجع لهم سجعا من سجع الكهان بذلك ، ثم كان الأمر على ما سجع به . فلما قدموا الكوفة دخلوا على المختار قبل دخولهم إلى بيوتهم ، فقال لهم : ما وراء كم فقد فتنتم وارتبتم ! فقالوا له : إنا قد أمرنا بنصرك . فقال : الله أكبر ، اجمعوا إلي الشيعة ، فجمع من كان قريبا منهم ، فقال لهم : إن نفرا قد أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به فرحلوا إلى الإمام المهدي ، فسألوه عما قدمت به عليكم ، فنبأهم أني وزيره وظهيره ورسوله وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين والطلب بدماء أهل بيت نبيكم المصطفين .

            فقام عبد الرحمن بن شريح وأخبرهم بحالهم ومسيرهم وأن ابن الحنفية أمرهم بمظاهرته ومؤازرته ، وقال لهم : ليبلغ الشاهد الغائب واستعدوا وتأهبوا .

            وقام جماعة من أصحابه فقالوا نحوا من كلامه .

            فاستجمعت له الشيعة ، وكان من جملتهم الشعبي وأبوه شراحيل ، فلما تهيأ أمره للخروج قال له بعض أصحابه : إن أشراف أهل الكوفة مجمعون على قتالكم مع ابن مطيع ، فإن أجابنا إلى أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوة على عدونا ، فإنه فتى رئيس ، وابن رجل شريف ، له عشيرة ذات عز وعدد . فبعث إليه المختار جماعة من أصحابه يدعونه إلى الدخول معهم في الأخذ بثأر الحسين ، وذكروه سابقة أبيه مع علي رضي الله عنه ، فقال : قد أجبتكم إلى ما سألتم ، على أن أكون أنا ولي أمركم . فقالوا : إن هذا لا يمكن ؛ لأن المهدي قد بعث المختار إلينا وزيرا له وداعيا إليه . فسكت عنهم إبراهيم بن الأشتر ، فرجعوا إلى المختار فأخبروه ، فمكث ثلاثا ثم خرج في جماعة من رءوس أصحابه إليه ، فدخل على ابن الأشتر فقام إليه واحترمه وأكرمه وجلس إليه فدعاه المختار إلى الدخول معهم ، وأخرج له كتابا على لسان ابن الحنفية يدعوه إلى الدخول مع أصحابه من الشيعة ، فيما قاموا فيه من نصرة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، والأخذ بثأر الحسين . قال الشعبي : وكان الكتاب معي ، فلما قضى كلامه قال لي : ادفع الكتاب إليه ، فدفعه إليه الشعبي ، فقرأه فإذا فيه : من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر ، سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإني قد بعثت إليكم وزيري وأميني الذي ارتضيته لنفسي وأمرته بقتال عدوي ، والطلب بدماء أهل بيتي ، فانهض معهم بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك فإنك إن نصرتني وأجبت دعوتي ، كانت لك بذلك عندي فضيلة ، ولك أعنة الخيل وكل جيش غاز وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام .

            فلما فرغ من قراءة الكتاب قال : قد كتب إلي ابن الحنفية قبل اليوم وكتبت فلم يكتب إلي باسمه واسم أبيه . قال المختار : إن ذلك زمان وهذا زمان . قال : فمن يعلم أن هذا كتابه [ إلي ] ؟ فشهد جماعة ممن معه ، منهم : زيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم إلا الشعبي .

            فلما شهدوا تأخر إبراهيم عن صدر الفراش وقام من مجلسه وأجلس المختار فيه وبايعه ، ودعا لهم بفاكهة وشراب من عسل .

            قال الشعبي - وكان حاضرا ذلك من أمرهم هو وأبوه - : فلما انصرف المختار ، قال لي إبراهيم بن الأشتر : يا شعبي ، وماذا ترى فيما شهد به هؤلاء ؟ فقلت : إنهم قراء وأمراء ووجوه الناس ، ولا أراهم يشهدون إلا بما يعلمون . قال : وكتمته ما في نفسي من اتهامهم ، ولكني كنت أحب أن يخرجوا للأخذ بثأر الحسين ، وكنت على رأي القوم .

            ثم جعل إبراهيم يختلف إلى المختار في منزله هو ومن أطاعه من قومه ، ثم اتفق رأي الشيعة على أن يكون خروجهم ليلة الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة ; سنة ست وستين .

            وقد بلغ ابن مطيع أمر القوم وما اشتوروا عليه ، فبعث الشرط في كل جانب من جوانب الكوفة ، وألزم كل أمير بحفظ ناحيته من أن يخرج منها أحد ، فلما كان ليلة الثلاثاء خرج إبراهيم بن الأشتر قاصدا إلى دار المختار في مائة رجل من قومه وعليهم الدروع تحت الأقبية ، فلقيه إياس بن مضارب فقال له : أين تريد يا ابن الأشتر في هذه الساعة ؟ إن أمرك لمريب ، فوالله لا أدعك حتى أحضرك إلى الأمير فيرى فيك رأيه . فتناول إبراهيم بن الأشتر رمحا من يد رجل فطعنه في ثغرة نحره ، فسقط وأمر رجلا فاحتز رأسه ، وذهب به إلى المختار فألقاه بين يديه ، فقال له المختار بشرك الله بخير ، فهذا طائر صالح . ثم طلب إبراهيم من المختار أن يخرج في هذه الليلة ، فأمر المختار بالنار أن ترفع ، وأن ينادى بشعار أصحابه : يا منصور أمت ، يا ثارات الحسين . ثم نهض المختار فجعل يلبس درعه وسلاحه وهو يقول :

            قد علمت بيضاء حسناء الطلل واضحة الخدين عجزاء الكفل     أني غداة الروع مقدام بطل

            وخرج بين يديه إبراهيم بن الأشتر ، فجعل يتقصد الأمراء الموكلين بنواحي البلد ، فيطردهم عن أماكنهم واحدا واحدا ، وينادي بشعار المختار . وبعث المختار أبا عثمان النهدي فنادى بشعار المختار : يا ثارات الحسين . فاجتمع الناس إليه من هاهنا وهاهنا ، وجاء شبث بن ربعي فاقتتل هو والمختار عند داره وحصره حتى جاء إبراهيم بن الأشتر فطرده عنه .

            فرجع شبث إلى ابن مطيع ، وأشار عليه بأن يجمع الأمراء إليه ، وأن ينهض بنفسه ، فإن أمر المختار قد قوي واستفحل ، وجاءت الشيعة من كل فج عميق إلى المختار ، فاجتمع إليه في أثناء الليل قريب من أربعة آلاف ، فأصبح وقد عبى جيشه وصلى بهم الصبح ، فقرأ فيها : والنازعات غرقا و عبس وتولى في الثانية . قال بعض من سمعه : فما سمعت إماما أفصح لهجة منه . تجهيز ابن مطيع جيشا لقتال المختار بن أبي عبيد الثقفي وقد جهز ابن مطيع جيشا ؛ ثلاثة آلاف عليهم شبث بن ربعي ، وأربعة آلاف أخرى مع راشد بن إياس بن مضارب ، فوجه المختار إبراهيم بن الأشتر في ستمائة فارس وستمائة راجل إلى راشد بن إياس ، وبعث نعيم بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل إلى شبث بن ربعي . فأما إبراهيم بن الأشتر فإنه هزم قرنه راشد بن إياس وقتله وأرسل إلى المختار يبشره ، وأما نعيم بن هبيرة فإنه لقي شبث بن ربعي فهزمه شبث بن ربعي وقتله وجاء فأحاط بالمختار بن أبي عبيد وحصره ، وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحو المختار بن أبي عبيد ، فاعترض له حسان بن فائد العبسي في نحو من ألفي فارس من جهة ابن مطيع ، فاقتتلوا ساعة ، فهزمه إبراهيم ، ثم أقبل نحو المختار ، فوجد شبث بن ربعي قد حصر المختار وجيشه ، فما زال حتى طردهم عنه ، وكروا راجعين . وخلص إبراهيم إلى المختار ، وارتحلوا من مكانهم ذلك إلى غيره في ظاهر الكوفة فقال له إبراهيم بن الأشتر : اعمد بنا إلى قصر الإمارة ، فليس دونه أحد يرد عنه . فوضعوا ما معهم من الأثقال وأجلسوا هنالك ضعفة المشايخ والرجال .

            واستخلف المختار على من هنالك أبا عثمان النهدي ، وبعث بين يديه إبراهيم بن الأشتر ، وعبأ المختار جيشه كما كان ، وسار نحو القصر ، فبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل ، فبعث إليه المختار يزيد بن أنس ، وسار هو وابن الأشتر أمامه حتى دخل الكوفة من باب الكناسة ، وأرسل ابن مطيع شمر بن ذي الجوشن - الذي قتل الحسين - في ألفين آخرين ، فبعث إليه المختار سعيد بن منقذ الهمذاني ، وسار المختار حتى انتهى إلى سكة شبث ، وإذا نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في خمسة آلاف ، وخرج ابن مطيع من القصر في الناس ، واستخلف عليه شبث بن ربعي ، فتقدم إبراهيم بن الأشتر إلى الجيش الذي مع نوفل بن مساحق . فهزمهم وأخذ بلجام دابة ابن مساحق فمت إليه بالقرابة ، فأطلقه ، فكان لا ينساها بعد لابن الأشتر .

            ثم تقدم المختار بجيشه إلى الكناسة وحصروا ابن مطيع بقصره ثلاثا ، ومعه أشراف الناس سوى عمرو بن حريث ، فإنه لزم داره ، فلما ضاق الحال على ابن مطيع وأصحابه استشارهم فأشار عليه شبث بن ربعي أن يأخذ له ولهم من المختار أمانا ، فقال : ما كنت لأفعل هذا وأمير المؤمنين مطاع بالحجاز وبالبصرة . فقال له : فإن رأيت أن تذهب بنفسك مختفيا حتى تلحق بصاحبك فتخبره بما كان من الأمر ، وبما كان منا في نصره وإقامة دولته . فلما كان الليل خرج ابن مطيع مختفيا حتى دخل دار أبي موسى الأشعري ، مبايعة المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب فلما أصبح الناس أخذ الأمراء لهم أمانا من أميرهم ابن الأشتر فأمنهم ، فخرجوا من القصر وجاءوا إلى المختار فبايعوه ، وجاء المختار فدخل القصر فبات فيه ، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر ، فخرج المختار إلى المسجد فصعد المنبر وخطب الناس خطبة بليغة ، فحمد الله وأثنى عليه فقال :

            الحمد لله الذي وعد وليه النصر وعدوه الخسر ، وجعله فيه إلى آخر الدهر وعدا مفعولا وقضاء مقضيا ، وقد خاب من افترى ، أيها الناس إنا رفعت لنا راية ومدت لنا غاية ، فقيل لنا في الراية أن ارفعوها وفي الغاية أن اجروا إليها ولا تعدوها ، فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي ، فكم من ناع وناعية لقتلى في الواعية ، وبعدا لمن طغى وأدبر وعصى وكذب وتولى ، ألا فادخلوا أيها الناس وبايعوا بيعة هدى ، فلا والذي جعل السماء سقفا مكفوفا ، والأرض فجاجا سبلا ، ما بايعتم بعد بيعة علي بن أبي طالب وآل علي أهدى منها !

            ثم نزل ودخل عليه أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والطلب بدماء أهل البيت ، وجهاد المحلين ، والدفع عن الضعفاء ، وقتال من قاتلنا ، وسلم من سالمنا .

            وكان ممن بايعه المنذر بن حسان وابنه حسان ، فلما خرجا من عنده استقبله سعيد بن منقذ الثوري في جماعة من الشيعة ، فلما رأوهما قالوا : هذان والله من رءوس الجبارين ، فقتلوا المنذر وابنه حسان ، فنهاهم سعيد حتى يأخذوا أمر المختار ، فلم ينتهوا ، فلما سمع المختار ذلك كرهه ، وأقبل المختار يمني الناس ، ويستجر مودة الأشراف ، ويحسن السيرة . وجاء رجل إلى المختار فأخبره أن ابن مطيع في دار أبي موسى ، فأراه أنه لا يسمع قوله ، حتى كرر ذلك ثلاثا ، كل ذلك يريه أنه لا يسمع قوله . فسكت الرجل ، فلما كان الليل بعث المختار إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم وقال له : اذهب فقد أخبرت بمكانك ، - وكان له صديقا قبل ذلك - فذهب ابن مطيع إلى البصرة وكره أن يرجع إلى عبد الله بن الزبير وهو مغلوب . وشرع المختار يتحبب إلى الناس بحسن السيرة ووجد في بيت المال تسعة آلاف ألف ، فأعطى الجيش الذين حضروا معه القتال نفقات كثيرة . واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري ، وقرب أشراف الناس فكانوا جلساءه ، فشق ذلك على الموالي الذين قاموا بنصره ، وقالوا لأبي عمرة كيسان مولى عرينة ، وكان على حرسه : قدم والله أبو إسحاق العرب وتركنا ، فأنهى ذلك أبو عمرة إليه ، فقال : بل هم مني وأنا منهم ، ثم قال إنا من المجرمين منتقمون [ السجدة : 22 ] فقال لهم أبو عمرة : أبشروا فإنه سيقتلهم ويقربكم فأعجبهم ذلك وسكتوا .

            ثم إن المختار بعث الأمراء إلى النواحي والبلدان والأقاليم والرساتيق من أرض العراق وخراسان ، وعقد الألوية والرايات . وقرر الإمارة والولايات ، وجعل يجلس للناس غدوة وعشية يحكم بينهم فلما طال ذلك عليه استقضى شريحا ، فتكلم في شريح طائفة من الشيعة ، وقالوا إنه شهد على حجر بن عدي ، وإنه لم يبلغ عن هانئ بن عروة ما أرسله به ، وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء ، فلما بلغ شريحا ذلك تمارض ولزم بيته ، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود ، ثم عزله وجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي قاضيا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية