وثب المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب بالكوفة ؛ ليأخذ بثأر الحسين بن علي - فيما يزعم - وأخرج عنها عاملها عبد الله بن مطيع ، وكان سبب ذلك أنه لما رجع أصحاب سليمان بن صرد مغلوبين إلى الكوفة وجدوا المختار بن أبي عبيد الكذاب مسجونا ، فكتب إليهم يعزيهم ويعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ، وقال لهم فيما كتب به إليهم خفية : أبشروا ، فإني لو قد خرجت إليكم جردت فيما بين المشرق والمغرب من أعدائكم السيف ، فجعلتهم بإذن الله ركاما ، وقتلتهم فذا وتوأما ، فرحب الله بمن قارب منكم واهتدى ، ولا يبعد الله إلا من أبى وعصى . فلما وصلهم الكتاب قرءوه سرا وردوا إليه : إنا كما تحب ، فمتى أحببت أخرجناك من محبسك . فكره أن يخرجوه من مكانه على وجه القهر لنواب الكوفة ، فتلطف فكتب إلى زوج أخته صفية - وكانت امرأة صالحة - وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب يسأله أن يشفع في خروجه من محبسه عند نائبي الكوفة عبد الله بن يزيد ، و إبراهيم بن محمد بن طلحة ، فكتب ابن عمر إليهما يشفع عندهما فيه فلم يمكنهما رده ، وكان فيما كتب إليهما ابن عمر : قد علمتما ما بيني وبينكما من الود وما بيني وبين المختار من القرابة والصهر ، وأنا أقسم عليكما لما خليتما سبيله ، والسلام . فاستدعيا به فضمنه جماعة من أصحابه ، واستحلفه عبد الله بن يزيد إن هو بغى للمسلمين غائلة فعليه ألف بدنة ينحرها تجاه الكعبة ، وكل مملوك له - من عبد وأمة - حر ، فالتزم لهما بذلك ، ولزم منزله ، وجعل يقول : قاتلهما الله ، أما حلفي بالله ، فإني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ، وأما إهدائي ألف بدنة فيسير ، وأما عتقي مماليكي فوددت أنه قد استتم لي هذا الأمر ولا أملك مملوكا واحدا .
اجتماع الشيعة على المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب ومبايعتهم له واجتمعت الشيعة عليه ، وكثر أصحابه وبايعوه في السر . وكان الذي يأخذ البيعة له ويحرض الناس عليه خمسة وهم السائب بن مالك الأشعري ، و يزيد بن أنس ، و أحمر بن شميط ; ورفاعة بن شداد ، و عبد الله بن شداد الجشمي ، ولم يزل أمره يقوى ويشتد ويستفحل ويرتفع ، حتى عزل عبد الله بن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد ، و إبراهيم بن محمد بن طلحة ، وبعث عبد الله بن مطيع نائبا عليها ، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة نائبا على البصرة .
ولقي بحير بن ريسان الحميري عبد الله بن مطيع عند مسيره إلى الكوفة فقال له : لا تسر الليلة فإن القمر بالناطح فلا تسر ، فقال له : وهل نطلب إلا النطح ! فلقي نطحا كما يريد ، فكان البلاء موكلا بمنطقه ، وكان شجاعا .
وسار إبراهيم إلى المدينة وكسر الخوارج وقال : كانت فتنة ، فسكت عنه ابن الزبير .
وكان قدوم ابن مطيع في رمضان لخمس بقين منه ، وجعل على شرطته إياس بن مضارب العجلي ، وأمره بحسن السيرة والشدة على المريب ، ولما قدم صعد المنبر فخطبهم وقال : أما بعد فإن أمير المؤمنين بعثني على مصركم وثغوركم ، وأمرني بجباية فيئكم وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلا برضى منكم ، وأن أتبع وصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته ، وسيرة عثمان بن عفان ، فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا وخذوا على أيدي سفهائكم ، فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم [ ولا تلوموني ] فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي ، ولأقيمن درء الأصعر المرتاب .
فقام إليه السائب بن مالك الأشعري فقال : أما حمل فيئنا برضانا فإنا نشهد أنا لا نرضى أن يحمل عنا فضله وأن لا يقسم إلا فينا ، وأن لا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك ، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا ، ولا في سيرة عمر بن الخطاب فينا ، وإن كانت أهون السيرتين علينا ، وقد كان يفعل بالناس خيرا .
فقال يزيد بن أنس : صدق السائب وبر .
فقال ابن مطيع : نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها . ثم نزل . وجاء صاحب الشرطة ، وهو إياس بن مضارب العجلي إلى ابن مطيع فقال له : إن هذا الذي رد عليك من رءوس أصحاب المختار ، ولست آمن المختار ، فابعث إليه فاردده إلى السجن ، فإن عيوني قد أخبروني أن أمره قد استجمع له ، وكأنك به وقد وثب بالمصر . فبعث إليه عبد الله بن مطيع زائدة بن قدامة ، وأميرا آخر معه ، فدخلا على المختار فقالا له : أجب الأمير . فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته ، وتهيأ للذهاب معهما ، فقرأ زائدة بن قدامة وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك الآية . فألقى المختار نفسه وأمر بقطيفة أن تلقى عليه ، وأظهر أنه مريض ، وقال : أخبرا الأمير بحالي ، فرجعا إلى ابن مطيع فاعتذرا عنه ، فصدقهما ولها عنه .
خروج المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب ليأخذ بثأر الحسين بن علي رض الله عنه فلما كان المحرم من هذه السنة عزم المختار على الخروج لطلب ثأر الحسين - فيما يزعم - فلما صمم على ذلك اجتمعت عليه الشيعة وثبطوه عن الخروج الآن إلى وقت آخر وجاء رجل من أصحاب شبام ، وشبام حي من همدان ، وكان شريفا اسمه عبد الرحمن بن شريح ، فلقي سعيد بن منقذ الثوري وسعر بن أبي سعر الحنفي والأسود بن جراد الكندي وقدامة بن مالك الجشمي فقال لهم : إن المختار يريد أن يخرج بنا ولا ندري أرسله ابن الحنفية أم لا ، فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية نخبره بما قدم علينا به المختار ، فإن رخص لنا في اتباعه تبعناه وإن نهانا عنه اجتنبناه ، فوالله ما ينبغي أن يكون شيء من الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا . قالوا له : أصبت .
فخرجوا إلى ابن الحنفية ، فلما قدموا عليه سألهم عن حال الناس فأخبروه عن حالهم وما هم عليه وأعلموه حال المختار وما دعاهم إليه واستأذنوه في اتباعه .
فلما فرغوا من كلامهم قال لهم بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر فضيلة أهل البيت والمصيبة بقتل الحسين ، ثم قال لهم : وأما ما ذكرتم ممن دعاكم إلى الطلب بدمائنا فوالله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه ، ولو كره لقال لا تفعلوا .
فعادوا وناس من الشيعة ينتظرونهم ممن أعلموه بحالهم وقد كان المختار بلغه مخرجهم إلى محمد ابن الحنفية ، فكره ذلك ، وخشي أن يكذبه فيما أخبر به عنه ، فإنه لم يكن بإذن محمد ابن الحنفية ، وهم بالخروج قبل رجوع أولئك ، وجعل يسجع لهم سجعا من سجع الكهان بذلك ، ثم كان الأمر على ما سجع به . فلما قدموا الكوفة دخلوا على المختار قبل دخولهم إلى بيوتهم ، فقال لهم : ما وراء كم فقد فتنتم وارتبتم ! فقالوا له : إنا قد أمرنا بنصرك . فقال : الله أكبر ، اجمعوا إلي الشيعة ، فجمع من كان قريبا منهم ، فقال لهم : إن نفرا قد أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به فرحلوا إلى الإمام المهدي ، فسألوه عما قدمت به عليكم ، فنبأهم أني وزيره وظهيره ورسوله وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين والطلب بدماء أهل بيت نبيكم المصطفين .
فقام عبد الرحمن بن شريح وأخبرهم بحالهم ومسيرهم وأن ابن الحنفية أمرهم بمظاهرته ومؤازرته ، وقال لهم : ليبلغ الشاهد الغائب واستعدوا وتأهبوا .
وقام جماعة من أصحابه فقالوا نحوا من كلامه .
فاستجمعت له الشيعة ، وكان من جملتهم الشعبي وأبوه شراحيل ، فلما تهيأ أمره للخروج قال له بعض أصحابه : إن أشراف أهل الكوفة مجمعون على قتالكم مع ابن مطيع ، فإن أجابنا إلى أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوة على عدونا ، فإنه فتى رئيس ، وابن رجل شريف ، له عشيرة ذات عز وعدد . فبعث إليه المختار جماعة من أصحابه يدعونه إلى الدخول معهم في الأخذ بثأر الحسين ، وذكروه سابقة أبيه مع علي رضي الله عنه ، فقال : قد أجبتكم إلى ما سألتم ، على أن أكون أنا ولي أمركم . فقالوا : إن هذا لا يمكن ؛ لأن المهدي قد بعث المختار إلينا وزيرا له وداعيا إليه . فسكت عنهم إبراهيم بن الأشتر ، فرجعوا إلى المختار فأخبروه ، فمكث ثلاثا ثم خرج في جماعة من رءوس أصحابه إليه ، فدخل على ابن الأشتر فقام إليه واحترمه وأكرمه وجلس إليه فدعاه المختار إلى الدخول معهم ، وأخرج له كتابا على لسان ابن الحنفية يدعوه إلى الدخول مع أصحابه من الشيعة ، فيما قاموا فيه من نصرة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، والأخذ بثأر الحسين . قال الشعبي : وكان الكتاب معي ، فلما قضى كلامه قال لي : ادفع الكتاب إليه ، فدفعه إليه الشعبي ، فقرأه فإذا فيه : من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر ، سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإني قد بعثت إليكم وزيري وأميني الذي ارتضيته لنفسي وأمرته بقتال عدوي ، والطلب بدماء أهل بيتي ، فانهض معهم بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك فإنك إن نصرتني وأجبت دعوتي ، كانت لك بذلك عندي فضيلة ، ولك أعنة الخيل وكل جيش غاز وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام .
فلما فرغ من قراءة الكتاب قال : قد كتب إلي ابن الحنفية قبل اليوم وكتبت فلم يكتب إلي باسمه واسم أبيه . قال المختار : إن ذلك زمان وهذا زمان . قال : فمن يعلم أن هذا كتابه [ إلي ] ؟ فشهد جماعة ممن معه ، منهم : زيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم إلا الشعبي .
فلما شهدوا تأخر إبراهيم عن صدر الفراش وقام من مجلسه وأجلس المختار فيه وبايعه ، ودعا لهم بفاكهة وشراب من عسل .
قال الشعبي - وكان حاضرا ذلك من أمرهم هو وأبوه - : فلما انصرف المختار ، قال لي إبراهيم بن الأشتر : يا شعبي ، وماذا ترى فيما شهد به هؤلاء ؟ فقلت : إنهم قراء وأمراء ووجوه الناس ، ولا أراهم يشهدون إلا بما يعلمون . قال : وكتمته ما في نفسي من اتهامهم ، ولكني كنت أحب أن يخرجوا للأخذ بثأر الحسين ، وكنت على رأي القوم .
ثم جعل إبراهيم يختلف إلى المختار في منزله هو ومن أطاعه من قومه ، ثم اتفق رأي الشيعة على أن يكون خروجهم ليلة الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة ; سنة ست وستين .
وقد بلغ ابن مطيع أمر القوم وما اشتوروا عليه ، فبعث الشرط في كل جانب من جوانب الكوفة ، وألزم كل أمير بحفظ ناحيته من أن يخرج منها أحد ، فلما كان ليلة الثلاثاء خرج إبراهيم بن الأشتر قاصدا إلى دار المختار في مائة رجل من قومه وعليهم الدروع تحت الأقبية ، فلقيه إياس بن مضارب فقال له : أين تريد يا ابن الأشتر في هذه الساعة ؟ إن أمرك لمريب ، فوالله لا أدعك حتى أحضرك إلى الأمير فيرى فيك رأيه . فتناول إبراهيم بن الأشتر رمحا من يد رجل فطعنه في ثغرة نحره ، فسقط وأمر رجلا فاحتز رأسه ، وذهب به إلى المختار فألقاه بين يديه ، فقال له المختار بشرك الله بخير ، فهذا طائر صالح . ثم طلب إبراهيم من المختار أن يخرج في هذه الليلة ، فأمر المختار بالنار أن ترفع ، وأن ينادى بشعار أصحابه : يا منصور أمت ، يا ثارات الحسين . ثم نهض المختار فجعل يلبس درعه وسلاحه وهو يقول :
قد علمت بيضاء حسناء الطلل واضحة الخدين عجزاء الكفل أني غداة الروع مقدام بطل
فرجع شبث إلى ابن مطيع ، وأشار عليه بأن يجمع الأمراء إليه ، وأن ينهض بنفسه ، فإن أمر المختار قد قوي واستفحل ، وجاءت الشيعة من كل فج عميق إلى المختار ، فاجتمع إليه في أثناء الليل قريب من أربعة آلاف ، فأصبح وقد عبى جيشه وصلى بهم الصبح ، فقرأ فيها : والنازعات غرقا و عبس وتولى في الثانية . قال بعض من سمعه : فما سمعت إماما أفصح لهجة منه . تجهيز ابن مطيع جيشا لقتال المختار بن أبي عبيد الثقفي وقد جهز ابن مطيع جيشا ؛ ثلاثة آلاف عليهم شبث بن ربعي ، وأربعة آلاف أخرى مع راشد بن إياس بن مضارب ، فوجه المختار إبراهيم بن الأشتر في ستمائة فارس وستمائة راجل إلى راشد بن إياس ، وبعث نعيم بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل إلى شبث بن ربعي . فأما إبراهيم بن الأشتر فإنه هزم قرنه راشد بن إياس وقتله وأرسل إلى المختار يبشره ، وأما نعيم بن هبيرة فإنه لقي شبث بن ربعي فهزمه شبث بن ربعي وقتله وجاء فأحاط بالمختار بن أبي عبيد وحصره ، وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحو المختار بن أبي عبيد ، فاعترض له حسان بن فائد العبسي في نحو من ألفي فارس من جهة ابن مطيع ، فاقتتلوا ساعة ، فهزمه إبراهيم ، ثم أقبل نحو المختار ، فوجد شبث بن ربعي قد حصر المختار وجيشه ، فما زال حتى طردهم عنه ، وكروا راجعين . وخلص إبراهيم إلى المختار ، وارتحلوا من مكانهم ذلك إلى غيره في ظاهر الكوفة فقال له إبراهيم بن الأشتر : اعمد بنا إلى قصر الإمارة ، فليس دونه أحد يرد عنه . فوضعوا ما معهم من الأثقال وأجلسوا هنالك ضعفة المشايخ والرجال .
واستخلف المختار على من هنالك أبا عثمان النهدي ، وبعث بين يديه إبراهيم بن الأشتر ، وعبأ المختار جيشه كما كان ، وسار نحو القصر ، فبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل ، فبعث إليه المختار يزيد بن أنس ، وسار هو وابن الأشتر أمامه حتى دخل الكوفة من باب الكناسة ، وأرسل ابن مطيع شمر بن ذي الجوشن - الذي قتل الحسين - في ألفين آخرين ، فبعث إليه المختار سعيد بن منقذ الهمذاني ، وسار المختار حتى انتهى إلى سكة شبث ، وإذا نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في خمسة آلاف ، وخرج ابن مطيع من القصر في الناس ، واستخلف عليه شبث بن ربعي ، فتقدم إبراهيم بن الأشتر إلى الجيش الذي مع نوفل بن مساحق . فهزمهم وأخذ بلجام دابة ابن مساحق فمت إليه بالقرابة ، فأطلقه ، فكان لا ينساها بعد لابن الأشتر .
ثم تقدم المختار بجيشه إلى الكناسة وحصروا ابن مطيع بقصره ثلاثا ، ومعه أشراف الناس سوى عمرو بن حريث ، فإنه لزم داره ، فلما ضاق الحال على ابن مطيع وأصحابه استشارهم فأشار عليه شبث بن ربعي أن يأخذ له ولهم من المختار أمانا ، فقال : ما كنت لأفعل هذا وأمير المؤمنين مطاع بالحجاز وبالبصرة . فقال له : فإن رأيت أن تذهب بنفسك مختفيا حتى تلحق بصاحبك فتخبره بما كان من الأمر ، وبما كان منا في نصره وإقامة دولته . فلما كان الليل خرج ابن مطيع مختفيا حتى دخل دار أبي موسى الأشعري ، مبايعة المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب فلما أصبح الناس أخذ الأمراء لهم أمانا من أميرهم ابن الأشتر فأمنهم ، فخرجوا من القصر وجاءوا إلى المختار فبايعوه ، وجاء المختار فدخل القصر فبات فيه ، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر ، فخرج المختار إلى المسجد فصعد المنبر وخطب الناس خطبة بليغة ، فحمد الله وأثنى عليه فقال :
الحمد لله الذي وعد وليه النصر وعدوه الخسر ، وجعله فيه إلى آخر الدهر وعدا مفعولا وقضاء مقضيا ، وقد خاب من افترى ، أيها الناس إنا رفعت لنا راية ومدت لنا غاية ، فقيل لنا في الراية أن ارفعوها وفي الغاية أن اجروا إليها ولا تعدوها ، فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي ، فكم من ناع وناعية لقتلى في الواعية ، وبعدا لمن طغى وأدبر وعصى وكذب وتولى ، ألا فادخلوا أيها الناس وبايعوا بيعة هدى ، فلا والذي جعل السماء سقفا مكفوفا ، والأرض فجاجا سبلا ، ما بايعتم بعد بيعة علي بن أبي طالب وآل علي أهدى منها !
ثم نزل ودخل عليه أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والطلب بدماء أهل البيت ، وجهاد المحلين ، والدفع عن الضعفاء ، وقتال من قاتلنا ، وسلم من سالمنا .
وكان ممن بايعه المنذر بن حسان وابنه حسان ، فلما خرجا من عنده استقبله سعيد بن منقذ الثوري في جماعة من الشيعة ، فلما رأوهما قالوا : هذان والله من رءوس الجبارين ، فقتلوا المنذر وابنه حسان ، فنهاهم سعيد حتى يأخذوا أمر المختار ، فلم ينتهوا ، فلما سمع المختار ذلك كرهه ، وأقبل المختار يمني الناس ، ويستجر مودة الأشراف ، ويحسن السيرة . وجاء رجل إلى المختار فأخبره أن ابن مطيع في دار أبي موسى ، فأراه أنه لا يسمع قوله ، حتى كرر ذلك ثلاثا ، كل ذلك يريه أنه لا يسمع قوله . فسكت الرجل ، فلما كان الليل بعث المختار إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم وقال له : اذهب فقد أخبرت بمكانك ، - وكان له صديقا قبل ذلك - فذهب ابن مطيع إلى البصرة وكره أن يرجع إلى عبد الله بن الزبير وهو مغلوب . وشرع المختار يتحبب إلى الناس بحسن السيرة ووجد في بيت المال تسعة آلاف ألف ، فأعطى الجيش الذين حضروا معه القتال نفقات كثيرة . واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري ، وقرب أشراف الناس فكانوا جلساءه ، فشق ذلك على الموالي الذين قاموا بنصره ، وقالوا لأبي عمرة كيسان مولى عرينة ، وكان على حرسه : قدم والله أبو إسحاق العرب وتركنا ، فأنهى ذلك أبو عمرة إليه ، فقال : بل هم مني وأنا منهم ، ثم قال إنا من المجرمين منتقمون [ السجدة : 22 ] فقال لهم أبو عمرة : أبشروا فإنه سيقتلهم ويقربكم فأعجبهم ذلك وسكتوا .
ثم إن المختار بعث الأمراء إلى النواحي والبلدان والأقاليم والرساتيق من أرض العراق وخراسان ، وعقد الألوية والرايات . وقرر الإمارة والولايات ، وجعل يجلس للناس غدوة وعشية يحكم بينهم فلما طال ذلك عليه استقضى شريحا ، فتكلم في شريح طائفة من الشيعة ، وقالوا إنه شهد على حجر بن عدي ، وإنه لم يبلغ عن هانئ بن عروة ما أرسله به ، وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء ، فلما بلغ شريحا ذلك تمارض ولزم بيته ، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود ، ثم عزله وجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي قاضيا .