الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ثم دخلت سنة ست وتسعين

            فتح قتيبة مدينة كاشغر وفي سنة ست وتسعين

            فتح قتيبة بن مسلم ، رحمه الله تعالى ، كاشغر من أرض الصين ، وبعث إلى ملك الصين رسلا يتهدده ويتوعده ، ويقسم بالله لا يرجع حتى يطأ بلاده ، ويختم ملوكهم وأشرافهم ، ويأخذ الجزية منهم ، أو يدخلوا في الإسلام ، فدخل الرسل على الملك الأعظم فيها وهو في مدينة عظيمة يقال : إن عليها تسعين بابا في سورها المحيط بها يقال لها : خان بالق . من أعظم المدن ، وأكثرها ريعا ، ومعاملات وأموالا ، حتى قيل : إن بلاد الهند مع اتساعها كالشامة في ملك الصين . والصين لا يحتاجون إلى أن يسافروا في ملك غيرهم; لكثرة أموالهم ومتاعهم ، وغيرهم محتاج إليهم; لما عندهم من المتاع والدنيا المتسعة ، وسائر ملوك تلك البلاد تؤدي إلى ملك الصين الخراج; لقهره وكثرة جنده وعدده .

            والمقصود أن الرسل لما دخلوا على ملك الصين وجدوا مملكة عظيمة ، وجندا كثيرا ، ومدينة حصينة ذات أنهار وأسواق ، وحسن وبهاء ، فدخلوا عليه في قلعة عظيمة حصينة ، بقدر مدينة كبيرة ، فقال لهم ملك الصين : ما أنتم؟ وكانوا ثلاثمائة رسول عليهم هبيرة فقال الملك لترجمانه : قل لهم : ما أنتم وما تريدون؟ فقالوا : نحن رسل قتيبة بن مسلم ، وهو يدعوك إلى الإسلام ، فإن لم تفعل فالجزية ، فإن لم تفعل فالحرب . فغضب الملك ، وأمر بهم إلى دار ، فلما كان الغد دعاهم فقال لهم : كيف تكونون في عبادة إلهكم؟ فصلوا الصلاة على عادتهم ، فلما ركعوا وسجدوا ضحك منهم ، فقال : كيف تكونون في بيوتكم؟ فلبسوا ثياب مهنهم ، فأمرهم بالانصراف . فلما كان من الغد أرسل إليهم ، فقال : كيف تدخلون على ملوككم؟ فلبسوا الوشي والعمائم والمطارف ، ودخلوا على الملك فقال لهم : ارجعوا . فرجعوا فقال الملك لأصحابه : كيف رأيتم هؤلاء؟ فقالوا : هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك المرة الأولى ، وهم أولئك .

            فلما كان اليوم الثالث ، أرسل إليهم ، فقال لهم : كيف تلقون عدوكم ؟ فشدوا عليهم سلاحهم ولبسوا المغافر والبيض ، وتقلدوا السيوف ، وتنكبوا القسي ، وأخذوا الرماح ، وركبوا خيولهم ومضوا ، فنظر إليهم ملك الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة ، فلما قربوا منه ركزوا رماحهم ، ثم أقبلوا نحوه مشمرين ، فقيل لهم : ارجعوا وذلك لما دخل قلوب أهل الصين من الخوف منهم فانصرفوا فركبوا خيولهم ، واختلجوا رماحهم ، ثم ساقوا خيولهم ، كأنهم يتطاردون بها ، فقال الملك لأصحابه : كيف ترونهم ؟ فقالوا : ما رأينا مثل هؤلاء قط .

            فلما أمسوا بعث إليهم الملك; أن ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم . فبعثوا إليه هبيرة ، فقال له الملك حين دخل عليه : قد رأيتم عظم ملكي ، وليس أحد يمنعكم مني وأنتم بمنزلة البيضة في كفي ، وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتك . فقال : سل . فقال الملك : لم صنعتم ما صنعتم من زي أول يوم والثاني والثالث؟ فقال : أما زينا أول يوم فهو لباسنا في أهلنا ونسائنا ، وطيبنا عندهم ، وأما ما فعلنا ثاني يوم فهو زينا إذا دخلنا على ملوكنا ، وأما زينا ثالث يوم فهو إذا لقينا عدونا ، فقال الملك : ما أحسن ما دبرتم دهركم! انصرفوا إلى صاحبكم يعني قتيبة وقولوا له : ينصرف راجعا عن بلادي; فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه ، وإلا بعثت إليكم من يهلككم عن آخركم . فقال له هبيرة : تقول لقتيبة هذا؟ فكيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟! وكيف يكون حريصا من خلف الدنيا قادرا عليها ، وغزاك في بلادك؟! وأما تخويفك إيانا بالقتل فإنا نعلم أن لنا أجلا إذا حضر ، فأكرمها عندنا القتل فلسنا نكرهه ولا نخافه . فقال الملك : فما الذي يرضي صاحبكم؟ فقال : قد حلف أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضك ، ويختم ملوكك ، ويجبي الجزية من بلادك . فقال الملك : أنا أبر يمينه وأخرجه منها; أرسل إليه بتراب من أرضي ، وأربع غلمان من أبناء الملوك ، وأرسل إليه ذهبا كثيرا ، وحريرا وثيابا صينية لا تقوم ، ولا يدري أحد قدرها ، ثم جرت لهم معه مقاولات كثيرة ، ثم شرع يتهددهم فتهددوه ، ويتوعدهم فتوعدوه ، ثم اتفق الحال على أن بعث صحافا من ذهب متسعة ، فيها تراب من أرضه ليطأه قتيبة ، وبعث بجماعة من أولاده وأولاد الملوك ليختم رقابهم ، وبعث بمال جزيل ليبر بيمين قتيبة ، وقيل : إنه بعث أربعمائة من أولاده وأولاد الملوك .

            فلما انتهى إلى قتيبة ما أرسله ملك الصين قبل ذلك منه; وذلك لأنه كان قد انتهى إليه خبر موت الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين ، فانكسرت همته لذلك.

            فقبل قتيبة الجزية ، وختم الغلمان وردهم ، ووطئ التراب . فقال سوادة بن عبد الملك السلولي :


            لا عيب في الوفد الذين بعثتهم للصين إن سلكوا طريق المنهج     كسروا الجفون على القذى خوف الردى
            حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج     أدى رسالتك التي استرعيته
            فأتاك من حنث اليمين بمخرج

            فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد ، فمات بقرية من فارس ، فرثاه سوادة فقال :


            لله در هبيرة بن مشمرج     ماذا تضمن من ندى وجمال
            وبديهة يعيا بها أبناؤها     عند احتفال مشاهد الأقوال
            كان الربيع إذا السيوف تتابعت     والليث عند تكعكع الأبطال
            فسقى بقرية حيث أمسى قبره     غر يرحن بمسبل هطال
            بكت الجياد الصافنات لفقده     وبكاه كل مثقف عسال
            وبكته شعث لم يجدن مواسيا     في العام ذي السنوات والإمحال

            ووصل الخبر إلى قتيبة في هذه الغزاة بموت الوليد .

            وكان قتيبة إذا رجع من غزاته كل سنة اشترى اثني عشر فرسا واثني عشر هجينا ، فتحدر إلى وقت الغزو ، فإذا تأهب للغزو ضمرها وحمل عليها الطلائع ، وكان يجعل الطلائع فرسان الناس وأشرافهم ومعهم من العجم من يستنصحه ، وإذا بعث طليعة أمر بلوح فنقش ، ثم شقه بنصفين ، وجعل شقة عنده ، ويعطي نصفه الطليعة ، ويأمرهم أن يدفنوه في موضع يصفه لهم من شجرة أو مخاضة أو غيرهما ، ثم يبعث بعد الطليعة من يستخرجه ليعلم أصدقت الطليعة أم لا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية