الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            خلافة سليمان بن عبد الملك وبيعته



            بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الوليد يوم مات ، وكان يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ، وكان سليمان بالرملة ، وكان ولي العهد من بعد أخيه عن وصية أبيهما عبد الملك .

            وقد كان الوليد قد عزم قبل موته على خلع أخيه سليمان ، وأن يجعل ولاية العهد من بعده لولده عبد العزيز بن الوليد ، وقد كان الحجاج طاوعه على ذلك ، وكذلك قتيبة بن مسلم ، وجماعة من أهل الشام وقد أنشد في ذلك جرير وغيره من الشعراء قصائد فلم ينتظم ذلك له حتى مات ، وانعقدت البيعة إلى سليمان ، فخافه قتيبة بن مسلم وعزم على أن لا يبايعه ، فعزله سليمان ، وولى على إمرة العراق ثم خراسان يزيد بن المهلب; فأعاده إلى إمرتها بعد عشر سنين ، وأمره بمعاقبة آل الحجاج بن يوسف ، وكان الحجاج هو الذي عزل يزيد عن خراسان .

            ولسبع بقين من رمضان من هذه السنة عزل سليمان عن إمرة المدينة عثمان بن حيان ، وولى عليها أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وكان أحد العلماء .

            وقد كان قتيبة بن مسلم حين بلغه ولاية سليمان الخلافة كتب إليه كتابا يعزيه في أخيه ، ويهنئه بولايته ، ويذكر فيه بلاءه وعناءه وقتاله وهيبته في صدور الأعداء ، وما فتح الله من البلاد والمدن والأقاليم الكبار على يديه ، وأنه له على مثل ما كان للوليد من قبله من الطاعة والنصيحة ، إن لم يعزله عن خراسان ونال في هذا الكتاب من يزيد بن المهلب ، ثم كتب كتابا ثانيا يذكر فيه ما فعل من القتال والفتوحات وهيبته في صدور الملوك والأعاجم ، ويذم يزيد بن المهلب أيضا ، ويقسم فيه لئن عزله وولى يزيد ليخلعن سليمان عن الخلافة ، وكتب كتابا ثالثا فيه خلع سليمان بالكلية ، وبعث بها مع البريد ، وقال له : ادفع إليه الكتاب الأول فإن قرأه ودفعه إلى يزيد بن المهلب فادفع إليه الثاني ، فإن قرأه ودفعه إلى يزيد ، فادفع إليه الثالث ، فلما قرأ سليمان الكتاب الأول واتفق حضور يزيد عند سليمان دفعه إلى يزيد ، فقرأه ، فناوله البريد الكتاب الثاني ، فقرأه ودفعه إلى يزيد ، فناوله البريد الكتاب الثالث فقرأه فإذا فيه التصريح بعزله وخلعه ، فتغير وجهه ثم ختمه وأمسكه بيده ولم يدفعه إلى يزيد ، وأمر بإنزال البريد في دار الضيافة ، فلما كان من الليل بعث إلى البريد فأحضره ، ودفع إليه ذهبا وكتابا فيه ولاية قتيبة على خراسان ، وأرسل مع ذلك البريد بريدا آخر من جهته ليقرره عليها ، فلما وصلا بلاد خراسان بلغهما أن قتيبة قد خلع الخليفة ، فدفع بريد سليمان الكتاب الذي معه إلى بريد قتيبة ، ثم بلغهما مقتل قتيبة قبل أن يرجع بريد سليمان . وجاء سليمان إلى دمشق ، فورد على فاقة من الناس إليه لما كانوا فيه من جور الوليد وعسفه ، فأحسن السيرة ، ورد المظالم ، وفك الأسرى ، وأطلق أهل السجون ، واتخذ عمر بن عبد العزيز وزيرا ، ثم عهد إليه .

            وكان طويلا أسمرا أعرج أكولا ، نشأ بالبادية عند أخواله ، فلما قدم صعد المنبر ، فخنقته العبرة ، ثم قال:


            ركب تخب به المطي فغافل عن سيره ومشمر لم يغفل     لا بد أن يرد المقصر والذي
            حب النجاء محله لم تحلل

            يا أيها الناس ، رحم الله من ذكر فاذكر ، فإن العظة تجلو العمى ، إنكم أوطنتم أنفسكم دار الرحلة ، واطمأننتم إلى دار الغرور فألهاكم الأمل وغرتكم الأماني ، فأنتم سفر وإن أقمتم ، ومرتحلون وإن وطنتم ، لا تشتكي مطاياكم ألم الكلال ، ولا يتعبها دأب السير ، ليل يدلج بكم وأنتم نائمون ، ونهار يجد بكم وأنتم غافلون ، لكم في كل يوم مشيع لا يستقبل ، ومودع لا يؤوب . أولا ترون - رحمكم الله - إلى ما أنتم فيه منافسون ، وعليه مواظبون ، وله مؤثرون ، من كثير يفنى ، وجديد يبلى ، كيف أخذ به المخلفون له ، وحوسبوا عليه دون المتنعم به ، فأصبح كل منهم رهنا بما كسبت يداه . وما الله بظلام للعبيد .

            فيا أيها اللبيب المستبصر فيهم تذهب أيامك ضياعا؟ وعما قليل يقع محذورك ، وينزل بك ما اطرحته وراء ظهرك ، فأسلمك عشيرك ، وفر منك قريبك ، فنبذت بالعراء ، وانفضت عنك الدنيا .

            فامهد لنفسك أيها المغرور ، واعمل قبل ركوب المضيق وسد الطريق ، فكأني بك قد أدرجت في أطمارك ، وأودعت ملحدك ، وتصدع عنك أقربوك ، واقتسم مالك بنوك ، ورجع القوم يرعون في زهرات موبق دنياك التي كدحت لها وارتحلت عنها ، فأنت كما قال الشاعر:


            سترحل عن دنيا قليل بقاؤها     عليك ، وإن تبقى فإنك فان

            إن لله عبادا فروا منه إليه فجالت فكرتهم في ملكوت العظمة ، فعزفت عن الدنيا نفوسهم .

            أيها الناس ، أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد خلفاء الله ، وأمراء المؤمنين ، وساسة الرعية؟ أسمعهم الداعي ، وقبض العارية معيرها ، فاضمحل ما كان كأن لم يكن ، وأتى ما كأنه لم يزل ، وبلغوا الأمد ، وانقضت بهم المدة ، ورفضتهم الأيام وشمرتهم الحادثات ، فسلبوا عن السلطنة ، ونفضوا لدة الملك ، وذهب عنهم طيب الحياة ، فارقوا والله القصور وسكنوا القبور ، واستبدلوا بلينة الوطاء خشونة الثرى ، فهم رهائن التراب إلى يوم الحساب . فرحم الله عبدا مهد لنفسه ، واجتهد لدينه ، وأخذ بحظه ، وعمل في حياته ، وسعى لصلاحه ، وعمل ليوم ( تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه أيها الناس ، إن الله عز وجل جعل الموت حتما سبق به حكمه ، ونفذ به قدره ، لئلا يطمع أحد في الخلود ، ولا يطغي المعمر عمره ، وليعلم المخلف بعد المقدم أنه غير مخلد . وقد جعل الله الدنيا دارا لا تقوم إلا بأئمة العدل ، ودعاة الحق ، وإن لله عبادا يملكهم أرضه ، ويسوس بهم عباده ، ويقيم بهم حدوده ، ويجعلهم رعاة عباده ، وقد أصبحت في هذا المقام الذي أنا به غير راغب فيه ، ولا منافس عليه ، ولكنها إحدى الربق أعلقها الواهق مساغ المزدرد ومخرج النفس ، ولولا أن الخلافة تحفة من الله كفر بالله [خلفها] لتمنيت أني كأحد المسلمين يضرب لي بسهمي .

            فعلى رسلكم بني الوليد ، فإني شبل عبد الملك ، وناب مروان ، لا تظلعني حمل النائبة ، ولا يفزعني صريف الأجفر . وقد وليت من أمركم ما كنت له مكفيا ، وأصبحت خليفة وأميرا ، وما هو إلا العدل أو النار ، وليجدني الممارس لي أخشن من مضرس الكذاب ، فمن سلك المحجة حذى نعل السلامة ، ومن عدل عن الطريق وقع في وادي الهلكة والضلالة . ألا فإن الله سائل كلا عن كل ، فمن صحت نيته ولزم طاعته كان الله له بصراط التوفيق ، وبرصد المعونة ، وكتب له بسبيل الشكر والمكافأة ، فاقبلوا العافية فقد رزقتموها ، والزموا السلامة فقد وجدتموها ، فمن سلمنا منه سلم منا ، ومن تاركنا تاركناه ، ومن نازعنا نازعناه .

            فارغبوا إلى الله في صلاح نياتكم وقبول أعمالكم ، وطاعة سلطانكم ، فإني والله غير مبطل حدا ، ولا تارك له حقا حتى أنكثها عثمانية عمرية ، وقد عزلت كل أمير كرهته رعيته ، ووليت أهل كل بلد من أجمع عليه خيارهم واتفقت عليه كلمتهم ، وقد جعلت الغزو أربعة أشهر ، وفرضت لذرية الغازين سهم المقيمين ، وأمرت بقسمة صدقة كل مصر في أهله إلا سهم العامل عليها ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، فإن ذلك لي وأنا أولى بالنظر فيه ، فرحم الله امرأ عرف منا سهو المغفل عن مفروض حق أو واجب فأعان برأي ، وأنا أسأل الله العون على صلاحكم فإنه مجيب السائلين ، جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بموعظته ، ويوفي بعهده فإنه سميع الدعاء ، وأستغفر الله لي ولكم . ذكر طرف من أخباره وسيرته

            عن سليمان بن عبد الله ، عن أبيه عبد الله بن عبد الله بن الحارث ، قال:

            كان سليمان بن عبد الملك أكولا ، وكانت بينه وبين عبد الله بن عبد الله وصلة .

            قال: قال لنا سليمان يوما: إني قد أمرت قيم بستان لي أن يحبس علي الفاكهة ولا يجني منها شيئا حتى يدرك ، فاغدوا علي مع الفجر - يقول لأصحابه الذين كان يأنس بهم - لنأكل الفاكهة في برد النهار . فغدونا في ذلك الوقت ، وصلى الصبح وصلينا ، فدخلنا معه فإذا الفاكهة متهدلة على أغصانها ، وإذا كل فاكهة مختارة قد أدركت كلها ، فقال:

            كلوا . ثم أقبل عليها وأكلنا بمقدار الطاقة ، وأقبلنا نقول: يا أمير المؤمنين ، هذا العنقود ، فيخرطه في فيه ، يا أمير المؤمنين هذه التفاحة ، وكلما رأينا شيئا نضيجا أومأنا إليه فيأخذه فيأكله حتى ارتفع الضحى وارتفع النهار ثم أقبل على قيم البستان ، فقال:

            ويحك يا فلان إني قد استجعت فهل عندك شيء تطعمنيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين عناق حولية حمراء ، قال: آتني بها ، ولا تأتني معها بخبز . فجاء بها على خوان لا قوائم له وقد ملأت الخوان ، فأقبل يأخذ العضو فيجيء معه فيخرطه في فيه ويلقي العظم حتى أتى عليها ، ثم عاد لأكل الفاكهة ، فأكل فأكثر ، ثم قال للقيم: ويحك ما عندك شيء تطعمنيه؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين دجاجتان بحريتان قد عميتا شحما ، قال: ائتني بهما ، فأتى بهما ففعل بهما كما فعل بالعناق ، ثم عاد لأكل الفاكهة ، فأكل مليا ، ثم قال للقيم: هل عندك شيء تطعمنيه فإني قد جعت؟ قال: عندي سويق [كأنه قطع الأوتار] ، وسمن ، وسكر . قال: أفلا أعلمتني قبل هذا به ، ائتني به وأكثر ، فأتاه بقعب يقعد فيه الرجل وقد ملأه من السويق وقد خلطه بالسكر وصب عليه السمن ، وأتى بجرة من ماء بارد وكوز ، فأخذ القعب على كفه وأقبل القيم يصب عليه الماء [فيحركه ويأكله - أو قال] - ويشربه حتى كفاه على وجهه فارغا ، ثم عاد للفاكهة ، فأكل مليا حتى علت الشمس ، ودخل وأمرنا أن ندخل إلى مجلسه ، فدخلنا وجلسنا ، فما مكث أن خرج علينا ، فلما جلس قام كبير الطباخين حياله يؤذنه بالغداء ، فأومأ إليه أن ائت بالغداء ، فأتاه به فوضع يده فأكل ، فما فقدنا من أكله شيئا .

            وعن معن بن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال:

            كان سليمان بن عبد الملك في نادية له ، فسمر ليلة على ظهر سطح ، ثم تفرق عنه جلساؤه ، فدعا بوضوء ، فجاءت به جارية له ، فبينا هي تصب عليه إذ استمدها بيده وأشار إليها فإذا هي ساهية مصغية بسمعها مائلة بجسدها كله إلى صوت غناء تسمعه في ناحية العسكر ، فأمرها فتنحت واستمع هو الصوت ، فإذا صوت رجل يغني ، فأنصت له حتى [إذا] فهم ما يغني به من الشعر ، ثم دعا جارية من جواريه غيرها ، فتوضأ .

            فلما أصبح أذن للناس إذنا عاما ، فلما أخذوا مجالسهم أجرى ذكر الغناء ومن كان يسمعه ولين فيه حتى ظن القوم أنه يشتهيه ، فأفاضوا في ذلك في التليين والتحليل والتسهيل ، وذكروا من كان يسمعه من أهل المروءات وسروات الناس ، ثم قال: هل بقي أحد يسمع منه؟ فقال رجل من القوم: عندي رجلان من أهل أيلة حاذقان ، فقال:

            أين منزلك من العسكر ، فأومأ إلى الناحية التي كان فيها الغناء . فقال سليمان: يبعث إليهما ، فوجد الرسول أحدهما فأقبل به حتى أدخله على سليمان ، فقال له: ما اسمك؟

            قال: سمير ، قال: فسأله عن الغناء كيف هو فيه؟ قال: حاذق محكم ، قال: فمتى عهدك به؟ قال: في ليلتي هذه الماضية ، قال: وفي أي نواحي العسكر كنت؟ فذكر له الناحية التي سمع فيها الصوت ، قال: فما غنيت؟ قال: فذكر الشعر الذي سمع سليمان ، فأقبل سليمان ، يقول: هدر الجمل فضبعت الناقة ، وهب التيس فشكرت الشاة ، وهدر الحمام فرافت ، وغنى الرجل فطربت المرأة . ثم أمر به فخصي . وسأل عن الغناء أين أصله ، وأكثر ما يكون؟ قالوا: بالمدينة وهو في المخنثين وهم الحذاق به والأئمة فيه ، فكتب إلى عامله بالمدينة وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن اخص من قبلك من المخنثين .

            قال الزبير:

            وكان ابن أبي عبلة وسليمان بن حرب يقصان عند سليمان بن عبد الملك . [مشادة بين مروان وسليمان وتدخل عمر بن عبد العزيز]

            يروى: (أن مروان بن عبد الملك وقع بينه وبين سليمان في خلافته كلام، فقال له سليمان: يابن اللخناء، ففتح مروان فاه ليجيبه، فأمسك عمر بن عبد العزيز بفيه وقال: أنشدك الله؛ إمامك وأخوك وله السن! فسكت، وقال: قتلتني والله؛ لقد زدت في جوفي أحر من النار، فما أمسى حتى مات).

            وأخرج ابن أبي الدنيا، عن زياد بن عثمان: أنه دخل على سليمان بن عبد الملك لما مات ابنه أيوب، فقال: (يا أمير المؤمنين؛ إن عبد الرحمن بن أبي بكرة كان يقول: من أحب البقاء... فليوطن نفسه على المصائب).

            التالي السابق


            الخدمات العلمية