الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            محاصرة القسطنطينية

            وفي سنة ثمان وتسعين سار سليمان بن عبد الملك إلى دابق ، وجهز جيشا مع أخيه مسلمة بن عبد الملك ليسير إلى القسطنطينية ، ومات ملك الروم ، فأتاه أليون من أذربيجان فأخبره ، فضمن له فتح الروم ، فوجه مسلمة معه ، فسارا إلى القسطنطينية ، فلما دنا منها أمر كل فارس أن يحمل معه مدين من طعام على عجز فرسه إلى القسطنطينية ، ففعلوا ، فلما أتاها أمر بالطعام فألقي أمثال الجبال ، وقال للمسلمين : لا تأكلوا منه شيئا ، وأغيروا في أرضهم وازرعوا . وعمل بيوتا من خشب ، فشتى فيها وصاف ، وزرع الناس ، وبقي الطعام في الصحراء والناس يأكلون ما أصابوا من الغارات ومن الزرع ، وأقام مسلمة قاهرا للروم معه أعيان الناس خالد بن معدان ، ومجاهد بن جبر ، وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي ، وغيرهم .

            فأرسل الروم إلى مسلمة يعطونه عن كل رأس دينارا ، فلم يقبل . فقالت الروم لأليون : إن صرفت عنا المسلمين ملكناك . فاستوثق منهم ، فأتى مسلمة فقال له : إن الروم قد علموا أنك لا تصدقهم القتال ، وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك ، فلو أحرقته أعطوا الطاعة بأيديهم ، فأمر به فأحرق ، فقوي الروم وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون ، وبقوا على ذلك حتى مات سليمان .

            وقيل : إنما خدع أليون مسلمة بأن يسأله أن يدخل الطعام إلى الروم بمقدار ما يعيشون به ليلة واحدة ، ليصدقوه أن أمره وأمر مسلمة واحد ، وأنهم في أمان من السبي والخروج من بلادهم ، فأذن له ، وكان أليون قد اعد السفن والرجال ، فنقلوا تلك الليلة الطعام ، فلم يتركوا في تلك الحظائر إلا ما لا يذكر ، وأصبح أليون محاربا ، وقد خدع خديعة لو كانت امرأة لعيبت بها ، ولقي الجند ما لم يلقه جيش آخر ، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده ، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق ، وكل شيء غير التراب ، فلم يزل ذلك دأبهم حتى جاءتهم وفاة سليمان بن عبد الملك وتولية عمر بن عبد العزيز ، على ما سيأتي ، فكروا راجعين إلى الشام وقد جهدوا جهدا شديدا ، لكن لم يرجع مسلمة حتى بنى مسجدا بالقسطنطينية شديد البناء محكما ، رحب الفناء ، شاهقا في السماء .

            وقال الواقدي : لما ولي سليمان بن عبد الملك أراد الإقامة ببيت المقدس ، ثم أرسل العساكر إلى القسطنطينية فأشار عليه موسى بن نصير بأن يفتح ما دونها من المدن والرساتيق والحصون ، حتى يبلغ المدينة فلا يأتيها إلا وقد هدمت حصونها ووهنت قوتها ، فإذا فعلت ذلك لم يبق بينك وبينها مانع ، فيعطوا بأيديهم ويسلموا لك البلد ، ثم استشار أخاه مسلمة فأشار عليه بأن يدع ما دونها من البلاد ويفتحها عنوة ، فمتى ما فتحت فإن باقي ما دونها من البلاد والحصون بيدك . فقال سليمان : هذا هو الرأي . ثم أخذ في تجهيز الجيوش من الشام والجزيرة فجهز في البر مائة وعشرين ألفا ، وفي البحر مائة وعشرين ألفا من المقاتلة وأخرج لهم الأعطية وأنفق فيهم الأموال الكثيرة وأعلمهم بغزو القسطنطينية والإقامة عليها إلى أن يفتحوها ، ثم سار سليمان من بيت المقدس فدخل دمشق وقد اجتمعت له العساكر فأمر عليهم أخاه مسلمة ، ثم قال : سيروا على بركة الله ، وعليكم بتقوى الله والصبر والتناصح والتناصف . ثم سار سليمان حتى نزل مرج دابق فاجتمع إليه الناس أيضا من المطوعة المحتسبين أجورهم على الله ، فاجتمع له جند عظيم لم ير مثله ، ثم أمر مسلمة أن يرحل بالجيوش وأخذ معه إليون الرومي المرعشي ، ثم ساروا حتى نزلوا على القسطنطينية فحاصرها إلى أن برح بهم ، وعرض أهلها الجزية على مسلمة ، فأبى إلا أن يفتحها عنوة ، قالوا : فابعث إلينا إليون نشاوره . فأرسله إليهم ، فقالوا له : رد هذه العساكر عنا ونحن نعطيك ونملكك علينا . فرجع إلى مسلمة ، فقال له : قد أجابوا إلى فتحها غير أنهم لا يفتحونها ما لم تنح عنهم . فقال مسلمة : إني أخشى غدرك ، فحلف له أن يدفع إليه مفاتيحها وما فيها ، فلما تنحى عنهم أخذوا في ترميم ما تهدم من أسوارها واستعدوا للحصار . وغدر إليون بالمسلمين ، قبحه الله .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية