الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فتح جرجان الفتح الثاني

            قد ذكرنا فتح جرجان وقهستان وغدر أهل جرجان ، فلما صالح يزيد أصبهبذ طبرستان سار إلى جرجان ، وعاهد الله تعالى لئن ظفر بهم لا يرفع السيف حتى يطحن بدمائهم ، ويأكل من ذلك الطحين . فأتاها وحصر أهلها بحصن فجاه ومن يكون بها لا يحتاج إلى عدة من طعام وشراب ، فحصرهم يزيد فيها سبعة أشهر ، وهم يخرجون إليه في الأيام فيقاتلونه ويرجعون .

            فبينا هم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان يتصيد ، وقيل : رجل من طيء ، فأبصر وعلا في الجبل ، ولم يشعر حتى هجم على عسكرهم ، فرجع كأنه يريد أصحابه ، وجعل يخرق قباءه ويعقد على الشجر علامات ، فأتى يزيد فأخبره ، فضمن له يزيد دية إن دلهم على الحصن ، فانتخب معه ثلاثمائة رجل ، واستعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد ، وقال له : إن غلبت على الحياة فلا تغلبن على الموت ، وإياك أن أراك عندي مهزوما . وضم إليه جهم بن زحر ، وقال للرجل : متى تصلون ؟ قال : غدا العصر . قال يزيد : سأجهد على مناهضتهم عند الظهر .

            فساروا فلما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيد كل حطب كان عندهم ، فصار مثل الجبال من النيران ، فنظر العدو إلى النيران فهالهم ذلك فخرجوا إليهم ، وتقدم يزيد إليهم فاقتتلوا ، وهجم أصحاب يزيد الذين ساروا على عسكر الترك قبل العصر وهم آمنون من ذلك الوجه ، ويزيد يقاتلهم من هذا الوجه ، فما شعروا إلا بالتكبير من ورائهم ، فانقطعوا جميعا إلى حصنهم ، وركبهم المسلمون فأعطوا بأيديهم ، ونزلوا على حكم يزيد ، فسبى ذراريهم وقتل مقاتلتهم ، وصلبهم فرسخين إلى يمين الطريق ويساره ، وقاد منهم اثني عشر ألفا إلى وادي جرجان وقال : من طلبهم بثأر فليقتل . فكان الرجل من المسلمين يقتل الأربعة والخمسة ، وأجرى الماء على الدم وعليه أرحاء ليطحن بدمائهم ليبر يمينه ، فطحن وخبز وأكل ، وقيل : قتل منهم أربعين ألفا .

            وبنى مدينة جرجان ، ولم تكن بنيت قبل ذلك مدينة ، ورجع إلى خراسان ، واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفي ، وقيل : بل قال يزيد لأصحابه لما ساروا : إذا وصلتم إلى المدينة انتظروا ، فإذا كان السحر كبروا واقصدوا الباب ، فستجدوني قد نهضت بالناس إليه . فلما دخل ابن زحر المدينة أمهل حتى كانت الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها ، فكبر ، ففزع أهل الحصن ، وكان أصحاب يزيد لا يلقون أحدا إلا قتلوه ، ودهش الترك ، فبقوا لا يدرون أين يتوجهون ، وسمع يزيد التكبير ، فسار في الناس إلى الباب ، فلم يجد عنده أحدا يمنعه وهم مشغولون بالمسلمين ، فدخل الحصن من ساعته وأخرج من فيه وصلبهم فرسخين من يمين الطريق ويساره ، فصلبهم أربعة فراسخ ، وسبى أهلها وغنم ما فيها ، وكتب يزيد إلى سليمان :

            بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد ، فإن الله تعالى ذكره قد فتح لأمير المؤمنين فتحا عظيما ، وصنع للمسلمين أحسن الصنع ، فلربنا الحمد على نعمه وإحسانه ، وأظهر في خلافة أمير المؤمنين على جرجان وطبرستان ، وقد أعيا ذلك سابور ذا الأكتاف ، وكسرى بن قباد ، وكسرى بن هرمز ، وأعيا الفاروق عمر بن الخطاب ، وذا النورين ومن بعدهما ، حتى فتح الله سبحانه ذلك لأمير المؤمنين ، كرامة من الله عز وجل له ، وزيادة في نعمه عليه ، وقد صار عندي من خمس ما أفاء الله عز وجل على المسلمين بعد أن صار إلى كل ذي حق حقه من الفيء والغنيمة سبعة آلاف ألف ، وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله . وقال له كاتبه المغيرة بن أبي قرة مولى بني سدوس : لا تكتب تسمية المال ، فإنك من ذلك بين أمرين ، إما استكثره فأمرك بحمله ، وإما سمحت نفسه لك به فأعطاكه ، فتكلف الهدية ، فلا يأتيه من قبلك شيء إلا استقله ، فكأني بك قد استغرقت ما سميت ولم يقع منه موقعا ، ويبقى المال الذي سميت مخلدا في دواوينهم ، فإن ولي وال بعده أخذك به ، وإن ولي من يتحامل عليك لم يرض بأضعافه ، ولكن اكتب فسله القدوم ، وشافهه بما أحببت فهو أسلم . فلم يقبل منه وأمضى الكتاب ، وقيل : كان المبلغ أربعة آلاف ألف .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية