الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            من توفي في هذه السنة من الأكابر  

            إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي ، أبو عتبة إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي ، أبو عتبة .

            من أهل حمص ، ولد سنة اثنتين ومائة . وقيل : سنة ست . وسمع من الأكابر من أبي بكر بن أبي مريم ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وسهل بن أبي صالح ، وغيرهم .

            وروى عنه : الأعمش وابن المبارك ويزيد بن هارون وقدم بغداد على المنصور فولاه خزانة الكسوة ، وكان يقول : ورثت عن أبي أربعة آلاف دينار فأنفقها في طلب العلم .

            قال يحيى بن معين : إسماعيل ثقة ، والعراقيون يكرهون حديثه . وقال البخاري : إذا حدث عن أهل بلده فصحيح ، وإذا حدث عن غير أهل بلده ففيه نظر .

            توفي في هذه السنة وبعضهم يقول : في سنة إحدى وثمانين .

            عمار بن محمد ، أبو اليقظان الكوفي عمار بن محمد ، أبو اليقظان الكوفي .

            ابن أخت سفيان الثوري ، سكن بغداد وحدث عن الأعمش . روى عنه : أحمد بن حنبل ، والحسن بن عرفة . وقد وثقه قوم .

            وقال ابن حبان : كان ممن فحش خطؤه وكثر وهمه فاستحق الترك .

            توفي في محرم هذه السنة .

            محمد بن أبي شيبة بن إبراهيم بن عثمان [العبسي ] الكوفي محمد بن أبي شيبة بن إبراهيم بن عثمان [العبسي ] الكوفي .

            والد أبي بكر وعثمان وغيرهما .

            قال أبو زكريا [ يحيى بن معين ] كان رجلا جميلا ثقة كيسا ، وكان على قضاء فارس ، ومات بفارس في هذه السنة وهو ابن سبع وسبعين سنة .

            محمد بن حميد ، أبو سفيان اليشكري يعرف بالمعمري محمد بن حميد ، أبو سفيان اليشكري يعرف بالمعمري .

            [لقي ] معمر بن راشد ، ولرحلته [إليه ] سمي المعمري . وسمع سفيان الثوري وغيره . وكان ثقة صدوقا فاضلا .

            توفي في هذه السنة .

            مروان بن سليمان [بن يحيى ] بن أبي حفصة ، أبو الهيذام مروان بن سليمان [بن يحيى ] بن أبي حفصة ، أبو الهيذام . وقيل : أبو السمط .

            واسم أبي حفصة : يزيد ، وكان من سبي إصطخر ، سبي غلاما فاشتراه عثمان بن عفان ، فوهبه لمروان [بن الحكم ] فأعتقه يوم الدار ، لأنه أبلى يومئذ بلاء حسنا .

            وقيل : إن أبا حفصة كان طبيبا يهوديا أسلم على يد عثمان بن عفان . وقيل : على يد مروان بن الحكم .

            كان مروان بن سليمان شاعرا مجيدا ، ومدح المهدي والرشيد ومعن بن زائدة .

            وقال الكسائي : إنما الشعر سقاء تمخض ، فدفعت الزبدة إلى مروان بن أبي حفصة .

            وعن الفضل بن بزيع قال : رأيت مروان بن أبي حفصة قد دخل على المهدي بعد موت معن [بن زائدة ] فمدحه بأبيات ، فقال : من أنت ؟ قال : شاعرك مروان بن أبي حفصة . فقال له : ألست تقول :


            أقمنا باليمامة بعد معن مقاما ما نريد به زيالا     وقلنا أين نرحل بعد معن
            وقد ذهب النوال فلا نوالا



            قد جئت تطلب نوالنا ، وقد ذهب النوال فلا شيء لك عندنا ، جروا برجله . فجر برجله حتى أخرج . فلما كان في العام المقبل تلطف حتى دخل مع الشعراء . وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء في كل عام مرة ، فمثل بين يديه فأنشده :


            طرقتك زائرة فحي خيالها



            إلى أن بلغ [منها ]


            شهدت من الأنفال آخر آية     بتراثهم فأردتم أبطالها



            فجعل المهدي يتزاحف عن مصلاه إعجابا بقوله ، ثم قال : كم هي بيتا ؟ قال : مائة بيت . فأمر له بمائة ألف درهم ، فلما أفضت الخلافة إلى الرشيد أنشده فقال : ألست القائل في معن كذا وكذا ؟ وذكر البيتين ، ثم أمر بإخراجه ، فتلطف حتى عاد ودخل بعد يومين ، فأنشده قصيدة ، فأمر له بعدد أبياتها ألوفا .

            وعن عبد الله بن إسحاق بن سلام قال : خرج مروان من دار المهدي ومعه ثمانون ألف درهم ، فمر بزمن ، فسأله فأعطاه ثلثي درهم ، فقيل له : هلا أعطيته درهما ؟ فقال : لو أعطيت مائة ألف لأتممت له درهما .

            قال : وكان مروان يبخل فلا يسرج له في داره ، فإذا أراد أن ينام أضاءت له الجارية بقصبة إلى أن ينام .

            وعن علي بن محمد النوفلي قال : سمعت أبي يقول : كان المهدي يعطي ابن أبي حفصة وسلما الخاسر عطية واحدة ، وكان سلم يأتي باب المهدي على برذون قيمته عشرة آلاف درهم ، ولباسه الخز والوشي والطيب يفوح منه ، ويجيء مروان وعليه فرو وكل وقميص كرابيس ، وكساء غليظ ، وكان لا يأكل اللحم بخلا حتى يقدم إليه ، فإذا قدم [إليه ] أرسل غلامه فاشترى له رأسا فأكله ، فقيل له : نراك لا تأكل إلا الرءوس . فقال : الرأس أعرف شعره فآمن خيانة الغلام ، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل منه ، وآكل منه ألوانا : آكل عينيه لونا ، وأذنيه لونا ، وغلصمته لونا ، ودماغه لونا ، وأكفى مئونة طبخه ، فقد اجتمعت لي فيه مرافق .

            قال المرزباني : بسنده عن أبو العيناء قال : كان مروان بن أبي حفصة من أبخل الناس ، خرج يريد المهدي ، فقالت له امرأة من أهله : ما لي عليك إن رجعت بالجائزة ؟ قال : إن أعطيت مائة ألف درهم أعطيتك درهما ، فأعطي ستين ألفا ، فدفع إليها أربعة دوانيق .

            توفي مروان في هذه السنة ودفن ببغداد في مقبرة نصر بن مالك . القاضي أبو يوسف والقاضي أبو يوسف وهو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة ،  وهي أمه ، وأبوه بحير بن معاوية ، وسعد هذا له صحبة ، استصغر يوم أحد ، وأبو يوسف القاضي هذا كان أكبر أصحاب أبي حنيفة ، رحمه الله ، وروى الحديث عن الأعمش ، وهشام بن عروة ، ومحمد بن إسحاق ، ويحيى بن سعيد ، وغيرهم . وعنه محمد بن الحسن ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين .

            قال علي بن الجعد : سمعته يقول : توفي أبي وأنا صغير ، فأسلمتني أمي إلى قصار ، فكنت أمر على حلقة أبي حنيفة ، فأجلس فيها ، فكانت أمي تتبعني ، فتأخذ بيدي من الحلقة وتذهب بي إلى القصار ، ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة ، فلما طال ذلك قالت أمي لأبي حنيفة : إن هذا صبي يتيم ، ليس له شيء إلا ما أطعمه من مغزلي ، وإنك قد أفسدته علي . فقال لها : اسكتي يا رعناء ، ها هو ذا يتعلم العلم ، وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق . فقالت له : إنك شيخ قد خرفت . قال أبو يوسف : فلما وليت القضاء - وكان أول من ولاه القضاء الهادي ، وهو أول من لقب بقاضي القضاة ، وكان يقال له : قاضي قضاة الدنيا . لأنه كان يستنيب في سائر الأقاليم التي يحكم فيها الخليفة - قال أبو يوسف : فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد إذ أتي بفالوذج وكنت لا أعرفها ، فقال لي : كل من هذا; فإنه لا يصنع لنا كل وقت . فقلت : وما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال : هذا الفالوذج . قال : فتبسمت ، فقال : ما لك تتبسم؟ فقلت : لا شيء ، أبقى الله أمير المؤمنين . فقال : لتخبرني : فقصصت عليه القصة من أولها ، فقال : إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة . ثم قال : رحم الله أبا حنيفة ، فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه .

            وكان أبو حنيفة يقول عن أبي يوسف : إنه أعلم أصحابه .

            وقال المزني : كان أبو يوسف أتبعهم للحديث .

            وقال ابن المديني : كان صدوقا . وقال ابن معين : كان ثقة . وقال أبو زرعة : كان سليما من التجهم .

            وقال بشار الخفاف : سمعت أبا يوسف يقول : من قال : القرآن مخلوق . فحرام كلامه ، وفرض مباينته .

            ومن كلامه الذي ينبغي كتابته بماء الذهب قوله : من طلب المال بالكيمياء أفلس ، ومن تتبع غرائب الحديث كذب ، ومن طلب العلم بالكلام تزندق .

            ولما تناظر هو ومالك بالمدينة بحضرة الرشيد في مسألة الصاع وزكاة الخضراوات احتج مالك بما استدعى به من تلك الصيعان المنقولة عن آبائهم وأسلافهم ، وبأنه لم تكن الخضراوات في زمن الخلفاء الراشدين . فقال : لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت . وهذا إنصاف .

            وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم ، حتى إن أحمد بن حنبل كان شابا ، وكان يحضر مجلسه في أثناء الناس ، فيتناظرون ويتباحثون فيه ، وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضا .

            وقال : وليت هذا الحكم ، وأرجو الله أن لا يسألني عن جور ولا ميل إلى أحد إلا يوما واحدا; جاءني رجل فذكر أن له بستانا ، وأنه في يد أمير المؤمنين ، فدخلت إلى أمير المؤمنين فأعلمته ، فقال : البستان لي ، اشتراه لي المهدي . فقلت : إن رأى أمير المؤمنين أن يحضره لأسمع دعواه . فأحضره فادعى بالبستان ، فقلت : ما تقول يا أمير المؤمنين؟ فقال : هو بستاني . فقلت للرجل : قد سمعت ما أجاب . فقال الرجل : يحلف . فقلت : أتحلف يا أمير المؤمنين؟ فقال : لا . فقلت : سأعرض عليك اليمين ثلاثا ، فإن حلفت وإلا حكمت عليك . فعرضتها عليه ثلاثا فامتنع ، فحكمت بالبستان للمدعي . قال : فكنت في أثناء الخصومة أود أن ننفصل ، ولم يمكني أن أجلس الرجل مع الخليفة . وبعث القاضي أبو يوسف في تسليم البستان إلى الرجل .

            وروى المعافى بن زكريا الجريري ، بسنده عن بشر بن الوليد ، عن أبي يوسف قال : بينا أنا ذات ليلة قد نمت في الفراش ، إذا رسول الخليفة يطرق الباب ، فخرجت منزعجا فقال : أمير المؤمنين يدعوك . فذهبت فإذا هو جالس ومعه عيسى بن جعفر ، فقال لي الرشيد : إن هذا قد طلبت منه جارية يهبنيها ، فلم يفعل ، أو يبيعنيها فلم يفعل ، وإني أشهدك إن لم يجبني إلى ذلك قتلته . فقلت لعيسى : لم لم تفعل؟ فقال : إني حالف بالطلاق والعتاق وصدقة مالي كله أن لا أبيعها ولا أهبها . فقال لي الرشيد : فهل له من مخلص؟ فقلت : نعم ، يبيعك نصفها ، ويهبك نصفها . فوهبه النصف ، وباعه النصف بمائة ألف دينار ، فقبل منه ذلك ، وأحضرت الجارية ، فلما رآها الرشيد قال : هل لي من سبيل عليها الليلة؟ قلت : إنها مملوكة ، ولا بد من استبرائها ، إلا أن تعتقها وتتزوجها ، فإن الحرة لا تستبرأ . قال : فأعتقها وزوجتها منه بعشرين ألف دينار ، وأمر لي بمائتي ألف درهم وعشرين تختا من ثياب ، وأرسلت إلي الجارية بعشرة آلاف دينار .

            قال يحيى بن معين : كنت عند أبي يوسف ، فجاءته هدية من ثياب دبيقي وطيب وتماثيل ند وغير ذلك ، فذاكرني رجل في إسناد حديث : " من أهديت له هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه " . فقال أبو يوسف : إنما ذاك في الأقط والتمر والزبيب ، ولم تكن الهدايا ما ترون ، يا غلام ، شل إلى الخزائن .

            وقال بشر بن غياث المريسي : سمعت أبا يوسف يقول : صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ، ثم انصبت علي الدنيا سبع عشرة سنة ، وما أظن أجلي إلا قد اقترب . فما كان شهور حتى مات .

            وقد مات أبو يوسف في ربيع الأول من هذه السنة عن تسع وستين سنة ، وقد مكث في القضاء ست عشرة سنة ، وولي القضاء من بعده ولده يوسف . وقد كان نائبه على الجانب الغربي من بغداد . ومن زعم من الرواة أن الشافعي اجتمع بأبي يوسف كما يقوله عبد الله بن محمد البلوي الكذاب في الرحلة التي ساقها الشافعي ، فقد أخطأ في ذلك ، فإن الشافعي إنما ورد بغداد في أول قدمة قدمها إليها في سنة أربع وثمانين . وإنما اجتمع بمحمد بن الحسن الشيباني ، فأحسن إليه وأقبل عليه ، ولم يكن بينهما شنآن ، كما قد يذكره بعض من لا خبرة له بهذا الشأن . والله أعلم .

            يعقوب بن داود بن طهمان أبو عبد الله ، مولى عبد الله بن خازم السلمي وفيها توفي يعقوب بن داود بن طهمان أبو عبد الله ، مولى عبد الله بن خازم السلمي ،  استوزره المهدي ، وسلم إليه أزمة الأمور ، وحظي عنده جدا ، ثم لما أمره بقتل ذلك العلوي فأرسله ، ونمت عليه الجارية ، وتحقق أنه لم يفعل ، سجنه في بئر ، وبنيت عليه قبة ، ونبت عليه شعر كما ينبت شعر الأنعام ، وعمي ، ويقال : عشي بصره ، ومكث نحوا من خمس عشر سنة في ذلك المكان لا يرى شيئا ، ولا يسمع صوتا إلا حين الصلوات يعلم به ، ويدلى إليه في كل يوم رغيف وكوز ماء ، حتى انقضت أيام المهدي وأيام الهادي وصدر من خلافة الرشيد ، قال يعقوب : فأتاني آت في منامي فقال :


            عسى الكرب الذي أمسيت فيه     يكون وراءه فرج قريب
            فيأمن خائف ويفك عان     ويأتي أهله النائي الغريب

            فلما أصبحت نوديت فظننت أني أعلم بوقت الصلاة ، ودلي إلي حبل ، وقيل لي : اربط هذا الحبل في وسطك . فأخرجوني ، فلما نظرت إلى الضياء لم أبصر شيئا ، وأوقفت بين يدي الخليفة . فظننته المهدي ، فسلمت عليه أنه المهدي ، فقال : لست به . قلت : فالهادي؟ فقال : لست به . فقلت : السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد . فقال : نعم . ثم قال : والله إنه لم يشفع فيك عندي أحد ، ولكني البارحة حملت جارية لي صغيرة على عنقي ، فذكرت حملك إياي على عنقك ، فرحمت ما أنت فيه من الضيق ، فأخرجتك . ثم أنعم عليه وأحسن إليه . فغار منه يحيي بن خالد بن برمك ، وخشي أن يعيده إلى المنزلة التي كان فيها أيام المهدي ، وفهم ذلك يعقوب ، فاستأذن الخليفة في الذهاب إلى مكة ، فأذن له ، فكان بها حتى مات في هذه السنة ، رحمه الله .

            يزيد بن زريع أبو معاوية العيشي ويزيد بن زريع أبو معاوية العيشي ،  كان ثقة عالما عابدا ورعا ، توفي أبوه وكان والي البصرة ، وترك من المال خمسمائة ألف درهم ، فلم يأخذ منها يزيد درهما واحدا ، وكان يعمل الخوص ، ويأكل منه . وتوفي بالبصرة في هذه السنة ، وقيل قبل ذلك . فالله أعلم . وفي هذه السنة مات محمد بن جعفر الطيالسي المحدث .

            وعبد العزيز بن محمد بن أبي عبيد الدراوردي ، مولى جهينة ، وكان أبوه من دارابجرد ، فاستثقلوا نسبته إليها فقالوا دراوردي .

            وفيها توفي دراج أبو السمح ، ( واسمه عبد الله بن السمح ، وقيل : عبد الرحمن بن السمح بن ) أسامة التجيبي ، المصري ، وكان مولده سنة خمس وعشرين ومائة .

            وعفيف بن سالم الموصلي .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية