الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            مهلك البرامكة

            وفي سنة سبع وثمانين ومائة كان مقتل الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي ، ودمار ديارهم واندثار آثارهم ، وذهاب صغارهم وكبارهم ، وقد اختلف في سبب ذلك على أقوال

            فقال بختيشوع : إني لقاعد في مجلس الرشيد إذ طلع يحيى بن خالد ، وكان يدخل بلا إذن ، فلما صار بالقرب من الرشيد وسلم عليه رد عليه ردا ضعيفا ، فعلم يحيى أن أمرهم قد تغير ، ثم أقبل علي الرشيد فقال : يا بختيشوع ، يدخل عليك في منزلك أحد بلا إذنك ؟ فقلت : لا ، ولا يطمع في ذلك ، فقال : ما بالنا يدخل علينا بلا إذن . فقام يحيى فقال : يا أمير المؤمنين قدمني الله قبلك ، والله ما ابتدأت ذلك الساعة ، وما هو إلا شيء خصني به أمير المؤمنين ، ورفع به ذكري حتى إن كنت لأدخل وهو في فراشه ، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب ، وإذ علمت فإني أكون في الطبقة الثانية من أهل الإذن والثالثة إن أمرني سيدي بذلك . قال : فاستحى ، وكان من أرق الخلفاء وجها ، وعيناه في الأرض ، ما يرفع طرفه . ثم قال : ما أردت ما تكره ، ولكن الناس يقولون . وخرج يحيى .

            وقال ثمامة بن أشرس : رفع محمد بن الليث رسالة إلى الرشيد يعظه فيها ويقول : إن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئا ، وقد جعلته فيما بينك وبين الله ، فكيف أنت إذا وقفت بين يدي الله فسألك عما عملت في عباده وبلاده ، فقلت : استكفيت يحيى أمور عبادك . أتراك تحتج بحجة يرضاها . مع كلام فيه توبيخ وتقريع ، فدعى الرشيد يحيى وقد تقدم إليه خبر الرسالة ، فقال : تعرف محمد بن الليث ؟ قال : نعم . قال : فأي الرجال هو ؟ قال : متهم على الإسلام . فأمر به ، فوضع في الحبس دهرا ، فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه ، فأحضر فقال له بعد مخاطبة طويلة : يا محمد ، أتحبني ؟ قال : لا والله يا أمير المؤمنين . قال : تقول هذا ! ؟ قال : نعم ، وضعت رجلي في الأكبال ، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت ، ولا حدث أحدثت ، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله ، ويحب الإلحاد وأهله ، فكيف أحبك ؟ قال : صدقت . وأمر بإطلاقه ، ثم قال : يا محمد ، أتحبني ؟ قال : لا والله يا أمير المؤمنين ، ولكن قد ذهب ما في قلبي . فأمر أن يعطى مائة ألف درهم ، فأحضرت فقال : يا محمد ، أتحبني ؟ قال : أما الآن فنعم ، قد أنعمت علي ، وأحسنت إلي . قال : انتقم الله ممن ظلمك ، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك . قال : فقال الناس في البرامكة ، فأكثروا ، وكان ذلك أول ما ظهر من تغير حالهم .

            وقال محمد بن الفضل مولى سليمان بن أبي جعفر : دخل يحيى بن خالد بعد ذلك إلى الرشيد ، فقام الغلمان إليه فقال الرشيد لمسرور [الخادم ] : مر الغلمان أن لا يقوموا إليه إذا دخل . فدخل فلم يقم إليه أحد ، فاربد لونه ، وكان الغلمان والحجاب بعد ذلك إذا رأوه أعرضوا عنه ، فكان ربما استسقى الشربة فلا يسقونه .

            وقال أبو محمد اليزيدي : من قال إن الرشيد قتل جعفر بن يحيى بغير سبب يحيى بن عبد الله بن حسن فلا تصدقه ، وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه ، ثم دعى به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره فأجابه إلى أن قال له : اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون خصمك غدا محمد صلى الله عليه وسلم ، فوالله ما أحدثت حدثا ، ولا آويت محدثا . فرق له وقال : اذهب حيث شئت من بلاد الله . قال : وكيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ بعد قليل . فأرد إليك أو على غيرك . فوجه إليه من أداه إلى مأمنه . وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له عليه من خاص خدمه ، فدخل على الرشيد فأخبره ، فأراه أنه لا يعبأ بخبره وقال : ما أنت وهذا ، لا أم لك ، فلعل ذلك عن أمري . فانكسر الفضل ، وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا ، وجعل يلقمه ويحادثه ، إلى أن كان آخر ما كان بينهما أن قال : ما فعل يحيى بن عبد الله ؟ قال : بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال الثقيلة . فقال : بحياتي ! فأحجم جعفر ، وكان من أرق الخلق ذهنا ، وأصحهم فكرا ، فهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره ، فقال : لا وحياتك يا سيدي ، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ، ولا مكروه عنده . قال : نعم ما فعلت ، ما عدوت ما كان في نفسي . فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد يتوارى عن وجهه ، ثم قال : قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك . فكان من أمره ما كان .

            وقال إدريس بن بدر : عرض رجل للرشيد فقال : نصيحة ، فقال لهرثمة : خذ إليك الرجل وسله عن نصيحته . فسأله فأبى أن يخبره وقال : هي سر من أسرار الخليفة . فأخبر هرثمة الرشيد فقال له : لا تبرح بالباب حتى أفرغ له . فلما كان في الهاجرة ، وانصرف من كان عنده ، دعا به ، فقال : أخلني . فالتفت هارون إلى بنيه فقال : انصرفوا يا فتيان . فوثبوا ، وبقي خاقان وحسين على رأسه ، فنظر إليهما الرجل فقال : تنحيا عنا . ففعلا ، ثم أقبل على الرجل فقال : هات ما عندك . فقال : على أن تؤمنني . قال : على أن أؤمنك وأحسن إليك . قال : كنت بحلوان في خان من خاناتها ، فإذا أنا بيحيى بن عبد الله في دراعة صوف غليظة وكساء صوف أخضر غليظ ، وإذا معه جماعة ينزلون إذا نزل ، ويرحلون إذا رحل ، ويكونون منه برصد ، يوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه وهم أعوانه ، ومع [كل ] واحد منهم منشور يأمن له إن عرض له . قال : تعرف يحيى بن عبد الله ؟ قال : أعرفه قديما ، وذلك الذي حقق معرفتي به بالأمس . قال : فصفه . قال : مربوع ، أسمر ، رقيق البشرة ، أجلح ، حسن العينين ، عظيم البطن . قال : صدقت هو ذلك . قال : فما سمعته يقول ؟ قال : ما سمعته يقول شيئا غير أني رأيته يصلي ، ورأيت غلاما من غلمانه أعرفه قديما جالسا على باب بالخان ، فلما فرغ من صلاته أتاه بثوب غسيل ، فألقاه في عنقه ، ونزع الجبة الصوف ، فقال له : أحسن الله جزاءك ، وشكر سعيك ، فمن أنت ؟ قال : رجل من أبناء هذه الدولة ، وأصلي من مرو ، ومولدي مدينة السلام . قال : فمنزلك بها ؟ قال : نعم . فأطرق مليا ، ثم قال : كيف احتمالك لمكروه تمتحن به في طاعتي ؟ قال : أبلغ من ذلك حيث أحب أمير المؤمنين . قال : كن بمكانك حتى أرجع . فدخل حجرة كانت خلف ظهره ، فأخرج كيسا فيه ألفا دينار ، فقال : خذ هذه ودعني وما أدبر فيك . فأخذها وضم عليها ثيابه ، ثم قال : يا غلام . فأجابه خاقان وحسين ، فقال : اصفعا ابن اللخناء ، فصفعاه نحوا من مائة صفعة ، ثم قال : أخرجاه إلى من بقي في الدار وعمامته في عنقه ، فقولا : هذا جزاء من يسعى ببطانة أمير المؤمنين وأوليائه ! ففعلا ذلك وتحدثوا بخبره ، ولم يعلم بحال الرجل أحد ، ولا بما ألقى إلى الرشيد حتى كان من أمر البرامكة ما كان . وقيل : إن البرامكة كانوا يريدون إبطال خلافة الرشيد وإظهار الزندقة . وقيل : بسبب العباسة . ومن العلماء من أنكر ذلك . وإن كان ابن جرير قد ذكره .

            روى ابن الجوزي أن الرشيد سئل عن السبب الذي من أجله أهلك البرامكة فقال : لو أعلم أن قميصي يعلم ذلك لأحرقته . وقد كان جعفر يدخل على الرشيد بغير إذن حتى كان ربما دخل عليه وهو في الفراش مع حظاياه ، وهذه وجاهة عظيمة ومنزلة عالية ، وكان من أحظى العشراء على الشراب - فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر ملكه المسكر ، وكأنه المختلف فيه - وكان أحب أهله إليه أخته العباسة بنت المهدي ، وكان يحضرها معه ، وجعفر البرمكي حاضر أيضا ، فزوجه بها ليحل له النظر إليها ، واشترط عليه أن لا يطأها ، فكان الرشيد ربما قام وتركهما وهما ثملان من الشراب ، فربما واقعها جعفر فاتفق حملها منه فولدت ولدا ، وبعثته مع بعض جواريها إلى مكة ، فكان يربى بها .

            سبب آخر في مقتل جعفر البرمكي وذكر القاضي ابن خلكان في " الوفيات " صفة أخرى في مقتل جعفر ، وذلك أنه لما زوج الرشيد جعفرا من العباسة أحبته حبا شديدا ، فراودته عن نفسه فامتنع أشد الامتناع من خشية أمير المؤمنين ، فاحتالت عليه ، وكانت أمه تهدي إليه في كل ليلة جمعة جارية حسناء بكرا فقالت لأمه : أدخليني عليه في صفة جارية من تلك الجواري فهابت من تلك ، فتهددتها حتى فعلت ، فلما دخلت عليه وكان لا يتحقق وجهها من مهابة الرشيد ، فواقعها فقالت له : كيف رأيت خديعة بنات الملوك . فقال : ومن أنت؟ فقالت : أنا العباسة . وحملت من تلك الليلة ، فدخل على أمه فقال لها . بعتيني والله برخيص . ثم إن والده يحيى بن خالد جعل يضيق على عيال الرشيد في النفقة ، حتى شكته إلى الرشيد زبيدة مرات ، ثم أفشت له سر العباسة ، فاستشاط غضبا ، ولما أخبرته أن الولد قد أرسلت به إلى مكة حج عامه ذلك حتى تحقق الأمر . ويقال : إن بعض الجواري نمت عليها إلى الرشيد ، وأخبرته بما وقع من الأمر ، وأن الولد بمكة ، وعنده جوار ومعه أموال وحلي كثير ، فلم يصدق حتى حج في السنة الحالية ، فكشف عن الحال ، فإذا هو كما ذكرت تلك الجارية .

            وقد حج في هذه السنة يحيى بن خالد الوزير ، وقد استشعر الغضب من الرشيد عليه ، فجعل يدعو عند الكعبة : اللهم إن كان يرضيك عني سلب مالي وولدي وأهلي فافعل ذلك بي ، وأبق علي منهم الفضل . ثم خرج ، فلما كان عند باب المسجد رجع فقال : اللهم والفضل معهم ، فإني راض برضاك عني ولا تستثن منهم أحدا .

            وسمع أيضا يقول في ذلك المقام : اللهم إن ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك . اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي بذلك في الدنيا ، وإن أحاط ( ذلك بسمعي ) وبصري وولدي ومالي ، حتى يبلغ رضاك ، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة . فاستجيب له . فلما قفل الرشيد من الحج صار إلى الحيرة ، ثم ركب في السفن إلى العمر من أرض الأنبار ، فلما كانت ليلة السبت سلخ المحرم من هذه السنة أعني سنة سبع وثمانين أرسل مسرورا الخادم ، ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند فأطافوا بجعفر بن يحيى ليلا ، فدخل عليه مسرور الخادم ، وعنده بختيشوع المتطبب ، وأبو زكار الأعمى المغني الكلوذاني ، وهو في أمره ، وأبو زكار يغنيه :


            فلا تبعد فكل فتى سيأتي عليه الموت يطرق أو يغادي

            فقال الخادم له : يا أبا الفضل ، هذا الموت قد طرقك ، أجب أمير المؤمنين . فقام إليه ، فقبل قدميه ، ودخل عليه ، أن يدخل إلى أهله ، فيوصي إليهم ، فقال : أما الدخول فلا سبيل إليه ، فأوصى جعفر وأعتق جماعة من مماليكه ، وجاءت رسل الرشيد تستحث الخادم ، فأخرجه إخراجا عنيفا يقوده ، حتى أتى المنزل الذي كان فيه الرشيد فحبسه وقيده بقيد حمار ، وأعلم الرشيد بما كان فعل ، فأمره بضرب عنقه ، فجاء إلى جعفر فقال : إن أمير المؤمنين قد أمرني أن آتيه برأسك ، فقال : يا أبا هاشم ، لعل أمير المؤمنين سكران ، فإذا صحا عاتبك على ذلك ، فعاوده . فرجع إليه فقال : يا أمير المؤمنين ، لعلك مشغول . فقال : ويحك يا ماص بظر أمه ! ائتني برأسه . فكرر عليه جعفر المعاودة ، فقال له : برئت من المهدي لئن لم تأتني برأسه لأبعثن من يأتيني برأسك ورأسه . فرجع إلى جعفر ، فحز رأسه ، وجاء به إلى الرشيد ، فألقاه بين يديه ، وأرسل الرشيد من ليلته البرد في الاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها ، ومن كان منهم بسبيل فأخذوا كلهم عن آخرهم ، فلم يفلت منهم أحد ، وحبس يحيى بن خالد في منزله ، وحبس الفضل بن يحيى في منزل آخر ، وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الأموال ، والموالي ، والحشم ، والخدم ، واحتيط على أملاكهم ، وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته ، ثم قطعت باثنين ، فنصب الرأس عند الجسر الأعلى ، وشق الجثة عند الجسر الأسفل ، وشقها الآخر عند الجسر الآخر ، ثم أحرقت بعد ذلك ، ونودي في بغداد أن لا أمان للبرامكة ولا لمن آواهم ، إلا محمد بن يحيى بن خالد ، فإنه استثناه من بين البرامكة لنصحه للخليفة .

            مقتل أنس بن أبي شيخ وأتى الرشيد بأنس بن أبي شيخ - وكان يتهم بالزندقة ، وكان مصاحبا لجعفر البرمكي - وذلك ليلة قتل جعفر ، فدار بينه وبينه كلام ، فأخرج الرشيد سيفا من تحت فراشه ، وأمر بضرب عنقه به ، وجعل يتمثل ببيت قيل في أنس قبل ذلك :


            تلمظ السيف من شوق إلى أنس     فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر

            فضربت عنق أنس ، فسبق السيف الدم ، فقال الرشيد : رحم الله عبد الله بن مصعب . فقال الناس : إن السيف كان سيف الزبير بن العوام . وشحنت السجون بالبرامكة ، واستلبت أموالهم كلها .

            وقد كان الرشيد في اليوم الذي قتل في آخره جعفرا ، هو وإياه راكبين في الصيد ، وقد خلا به دون ولاة العهود ، وطيبه في ذلك اليوم بالغالية بيده ، ولما كان وقت المغرب وودعه الرشيد ، ضمه إليه وقال : لولا أن الليلة ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك ، فاذهب إلى منزلك واشرب واطرب لتكون على مثل حالي . فقال : والله يا أمير المؤمنين لا أشتهي ذلك إلا معك . فانصرف عنه جعفر ، فما هو إلا أن ذهب من الليل بعضه حتى أوقع به من البأس والنكال ما تقدم ذكره ، وكان ذلك ليلة السبت آخر ليلة من المحرم ، وقيل : إنها مستهل صفر سنة سبع وثمانين . وكان عمر جعفر إذ ذاك سبعا وثلاثين سنة .

            ولما جاء الخبر إلى أبيه يحيى بن خالد بقتله قال : قتل الله ابنه . ولما قيل له : قد خربت دارك . قال : خرب الله دوره . ويقال : إنه لما نظر إلى داره وقد هتكت ستورها ، واستبيحت قصورها ، وانتهب ما فيها ، قال : هكذا تقوم الساعة .

            وقد كتب إليه بعض أصحابه يعزيه فيما وقع ، فكتب جواب التعزية : أنا بقضاء الله راض ، وبالخيار عالم ، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم ، وما الله بظلام للعبيد ، وما يغفر الله أكثر ، ولله الحمد .

            الحزن على مقتل البرامكة وعن علي بن أبي علي البصري ، عن أبيه ، أن مسرورا قال : استدعاني المأمون فقال لي : قد أكثر علي أخبار السر بأن شيخا يأتي خراب البرامكة فيبكي وينتحب طويلا ثم ينشد شعرا يرثيهم به وينصرف ، فاركب أنت ودينار بن عبد الله واستتر بالجدران ، فإذا جاء وشاهدتما ما فعل وسمعتما ما قال فأتياني به ، فركبنا مغلسين ، فأتينا الموضع فاختفينا فيه وأبعدنا الدواب ، فلما أصبحنا إذا بخادم أسود قد أقبل ومعه كرسي حديد ، فطرحه وجاء على أثره كهل فجلس على الكرسي وتلفت فلم ير أحدا ، فبكى وانتحب حتى قلت قد فارق الدنيا ، ثم أنشأ يقول :


            ولما رأيت السيف خلل جعفرا     ونادى مناد للخليفة في يحيى



            وذكر أبياتا قد تقدمت ، فلما قام قبضنا عليه ، فقال : ما تريدان مني . قلت : هذا دينار بن عبد الله وأنا مسرور خادم أمير المؤمنين وهو يستدعيك فالبس ، ثم قال : إني لا آمنه على نفسي ، فأمهلني حتى أوصي . قلت : شأنك . فسرنا معه فوقف على دكان رجل واستدعى دواة وبيضاء ، فكتب فيها وصيته ، ودفعها إلى خادمه ، وسرنا به ، فلما مثل بين يدي الخليفة زبره وقال : من أنت ؟ وبم استحق منك البرامكة ما تصنع . فقال غير هائب ولا محتشم : يا أمير المؤمنين ، إن للبرامكة عندي أيادي خضراء ، فإن أمر أمير المؤمنين حدثته ببعضها . فقال : هات . فقال : أنا المنذر بن المغيرة الدمشقي ، نشأت في نعمة فزالت حتى أفضت إلى بيع داري ، وأملقت إلى [غير ] غاية ، فأشير علي بقصد البرامكة ، فخرجت إلى بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة وصبيا ، فدخلت بهم إلى [مسجد ] ببغداد ، ثم خرجت وتركتهم جياعا لا نفقة لهم ، فمررت بمسجد فيه جماعة عليهم أحسن زي ، فجلست معهم أردد في صدري ما أخاطبهم به فتحيد نفسي عن ذل السؤال ، فإذا خادم قد أزعج القوم ، فقاموا فقمت معهم ، فدخلوا دارا كبيرة ، فدخلت معهم ، فإذا يحيى بن خالد على دكة وسط بستان ، فجلسوا وجلست ، وكنا مائة رجل ورجل ، فخرج مائة خادم وخادم ، في يد كل واحد منهم مجمرة ذهب ، فيها قطعة عنبر ، فسجروا العود ، وأقبل يحيى على القاضي فقال زوج ابن عمي هذا بابنتي عائشة فخطب وعقد النكاح ، فأخذنا النثار من فتات المسك وبنادق العنبر وتماثيل الند ، فالتقط الناس والتقط ، ثم جاءنا الخدم في يد كل واحد منهم صينية فضة ، فيها ألف دينار ، مخلوط بالمسك ، فوضع بين يدي كل واحد واحدة ، فأقبل كل واحد يأخذ الدنانير في كمه ، والصينية تحت إبطه ، ويخرج ، فبقيت وحدي ، لا أجسر أفعل ذلك ، فغمزني بعض الخدم وقال : خذها [ وقم ] ، فأخذتها وقمت ، وجعلت أمشي ، وألتفت [خوفا من أن يؤخذ مني ، ] ويحيى يلاحظني من حيث لا أفطن ، فلما قاربت الستر رددت فيئست من الصينية ، فجئت فأمرني بالجلوس ، فجلست فسألني عن حالي فحدثته بقصتي ، فبكى ، ثم قال : علي بموسى . فجاءه ، فقال : يا بني ، هذا رجل من أولاد النعم ، قد رمته الأيام بصرفها ، فخذه واخلطه بنفسك ، فأخذني فخلع علي وأمر لي بحفظ الصينية فكنت في العيش يومي وليلتي ، ثم استدعى [أخاه ] العباس وقال : إن الوزير سلم إلي هذا ، وأريد الركوب إلى دار أمير المؤمنين ، فليكن عندك اليوم . فكان يومي مثل أمسي ، وأقبلوا يتداولوني وأنا قلق بأمر عيالي ، ولا أتجاسر أن أذكرهم ، فلما كان اليوم العاشر أدخلت إلى الفضل بن يحيى ، فأقمت عنده يومي وليلتي ، فلما أصبحت جاءني خادم فقال : قم إلى عيالك وصبيانك . فقلت : إنا لله ، ذهبت الصينية وما فيها ، فيا ليت هذا كان من أول يوم . فقمت والخادم يمشي بين يدي ، فأخرجني من الدار ، فازداد يأسي ، ثم أدخلني إلى دار كأن الشمس تطلع من جوانبها ، وفيها من صنوف الآلات والفرش ، فلما توسطتها رأيت عيالي يرتعون فيها في الديباج والستور ، وقد حمل إليهم مائة ألف درهم ، وعشرة آلاف دينار ، وسلم إلي الخادم صكا بضيعتين جليلتين ، وقال : هذه الدار وما فيها والضياع لك . فأقمت مع البرامكة في أخفض عيش إلى الآن .

            ثم قصدني عمرو بن مسعدة في الضيعتين ، فألزمني من خراجهما ما لا يفي به دخلهما ، فكلما لحقتني نائبة قصدت دورهم فبكيتهم ، فاستدعى المأمون عمرو بن مسعدة ، فأمره أن يرد على الرجل ما استخرج منه ، ويقرر خراجه على ما كان في أيام البرامكة . فبكى الرجل بكاء شديدا ، فقال له المأمون : ألم أستأنف لك جميلا ؟ قال : بلى ، ولكن هذا من بركة البرامكة . فقال : امض ، فإن الوفاء مبارك ، وحسن العهد من الإيمان . مراثي في البرامكة وقد أكثر الشعراء من المراثي في البرامكة ، فمن ذلك قول الرقاشي - ويذكر أنها لأبي نواس - :


            ألان استرحنا واستراحت ركابنا     وأمسك من يجدي ومن كان يجتدي
            فقل للمطايا قد أمنت من السرى     وطي الفيافي فدفدا بعد فدفد
            وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر     ولن تظفري من بعده بمسود
            وقل للعطايا بعد فضل تعطلي     وقل للرزايا كل يوم تجددي
            ودونك سيفا برمكيا مهندا     أصيب بسيف هاشمي مهند

            وقال الرقاشي وقد نظر إلى جعفر وهو على جذعه مصلوب :


            أما والله لولا خوف واش     وعين للخليفة لا تنام
            لطفنا حول جذعك واستلمنا     كما للناس بالحجر استلام
            فما أبصرت قبلك يابن يحيى     حساما فله السيف الحسام
            على اللذات والدنيا جميعا     ودولة آل برمك السلام

            قال : فاستدعى به الرشيد وقال له : ويحك! كم كان يعطيك جعفر كل عام؟ قال : ألف دينار . فأمر له بألفي دينار .

            وقال الزبير بن بكار عن عمه مصعب الزبيري قال : لما قتل جعفر بن يحيى وقفت امرأة على حمار فاره ، فقالت بلسان فصيح : والله لئن صرت اليوم آية فلقد كنت في المكارم غاية . ثم أنشأت تقول :


            ولما رأيت السيف خالط جعفرا     ونادى مناد للخليفة في يحيى
            بكيت على الدنيا وأيقنت أنما     قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا
            وما هي إلا دولة بعد دولة     تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى
            إذا أنزلت هذا منازل رفعة     من الملك حطت ذا إلى الغاية القصوى

            قال ثم حركت حمارها ، فذهبت فكأنها كانت ريحا لا أثر لها ، ولا يعرف أين ذهبت

            وذكر الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه " المنتظم " أن جعفرا كانت له جارية يقال لها : فنفنة . مغنية لم يكن لها في الدنيا نظير ، كان مشتراها عليه بمن معها من الجواري مائة ألف دينار ، فطلبها منه الرشيد ، فامتنع من ذلك ، فلما قتله الرشيد اصطفى تلك الجارية ، فأحضرها ليلة في مجلس شرابه ، وعنده جماعة من جلسائه وسماره وأحبابه ، فأمر من معها أن يغنين ، فاندفعت كل واحدة تغني ، حتى انتهت النوبة إلى فنفنة ، فأمرها بالغناء ، فأسبلت دمعها وقالت : أما بعد السادة فلا . فغضب الرشيد من ذلك غضبا شديدا ، وأمر بعض الحاضرين أن يأخذها إليه فقد وهبها له ، ثم لما أراد الانصراف قال له فيما بينه وبينه : لا تطأها . ففهموا أنه يريد بذلك كسرها . فلما كان بعد ذلك أحضرها ، وأظهر أنه قد رضي عنها وأمرها بالغناء ، فامتنعت وأرسلت دموعها وقالت : أما بعد السادة فلا . فغضب الرشيد أشد من الأول ، وقال : النطع والسيف . وجاء السياف ، فوقف على رأسها ، وقال له : إذا أمرتك ثلاثا وعقدت أصابعي ثلاثا فاضرب . ثم قال لها : غني . فبكت وقالت : أما بعد السادة فلا . فعقد أصبعه الخنصر ، ثم أمرها الثانية فامتنعت ، فعقد اثنتين ، فارتعد الحاضرون ، وأشفقوا غاية الإشفاق ، وأقبلوا عليها يسألونها أن لا تقتل نفسها ، وأن تجيب أمير المؤمنين إلى ما يريد منها . ثم أمرها الثالثة ، فاندفعت تغني :


            لما رأيت الديار قد درست     أيقنت أن النعيم لم يعد

            قال : فوثب إليها الرشيد ، وأخذ العود من يدها ، وأقبل يضرب به وجهها ، ورأسها حتى تكسر ، وأقبلت الدماء ، وتطايرنا من حولها ، وحملت الجارية من بين يديه فماتت بعد ثلاث .

            وروي أن الرشيد كان يقول : لعن الله من أغراني بالبرامكة ، فما وجدت بعدهم لذة ولا راحة ولا رخاء ، ووددت والله أني شوطرت نصف عمري وملكي وأني تركتهم على أمرهم .

            بعض من أخبار جعفر البرمكي وحكى ابن خلكان أن جعفرا اشترى جارية من رجل بأربعين ألف دينار ، فالتفتت إلى بائعها وقالت له : اذكر العهد الذي بيني وبينك أن لا تأكل من ثمني شيئا . فبكى سيدها وقال : اشهدوا أنها حرة ، وأني قد تزوجتها . فقال جعفر : اشهدوا أن الثمن له أيضا .

            قال : وكتب إلى نائب له : أما بعد; فقد كثر شاكوك ، وقل شاكروك ، فإما أن تعدل وإما أن تعتزل .

            ومن أحسن ما وقع منه من التلطف في إزالة هم الرشيد وقد دخل عليه منجم يهودي ، فأخبر أنه سيموت في هذه السنة ، فحمل الرشيد هما عظيما ، فدخل جعفر فسأل : ما الخبر؟ فأخبر بقول اليهودي للخليفة : أنه سيموت من عامه هذا ، فاستدعى جعفر اليهودي ، فقال له : كم وجدت بقي لك من العمر؟ فذكر مدة طويلة ، فأقبل على الرشيد وقال : يا أمير المؤمنين ، اقتله حتى تعلم كذبه فيما أخبر به عن موتك ، كما علمت كذبه فيما أخبر عن عمره . فأمر الرشيد باليهودي فقتل ، وسري عن الرشيد همه الذي كان يجده ، ولله الحمد .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية