الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            من توفي في سنة سبع وثمانين ومائة من الأعيان

            جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك أبو الفضل البرمكي جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك أبو الفضل البرمكي الوزير ابن الوزير ، وقد ولاه الرشيد الشام وغيرها من البلاد ، وذكر ابن عساكر أن الرشيد بعثه إلى دمشق لما ثارت الفتنة بين العشرين بحوران بين قيس ويمن ، وكان ذلك أول ما أنشئوه في الإسلام ، كان خامدا فأثاروه في هذا الأوان ، فلما قدم جعفر بجيشه خمدت الشرور وظهر السرور ، وقيلت في ذلك أشعار حسان قد ذكرها في ترجمته من " تاريخه " فمنها :


            لقد أوقدت في الشام نيران فتنة فهذا أوان الشام تخمد نارها     إذا جاش موج البحر من آل برمك
            عليها خبت شهبانها وشرارها     رماها أمير المؤمنين بجعفر
            وفيه تلاقى صدعها وانجبارها     رماها بميمون النقيبة ماجد
            تراضى به قحطانها ونزارها     هو الملك المأمول للبر والتقى
            وصولاته لا يستطاع خطارها     وزير أمير المؤمنين وسيفه
            ومديته والحرب تدمى شفارها     ومن تطو أسرار الخليفة دونه
            فعندك مأواها وأنت قرارها     إذا ما ابن يحيى جعفر قصدت له
            ملمات خطب لم ترعه كبارها     لقد نشأت بالشام منك غمامة
            يؤمل جدواها ويخشى دمارها

            وهي قصيدة طويلة ، اقتصرنا منها على هذا القدر ، وكانت له فصاحة وبلاغة وكرم زائد ، كان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف ، فتفقه عليه ، وصار له اختصاص بالرشيد ، وقد وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع فلم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه .

            وقد روى الحديث عن أبيه بسنده عن زيد بن ثابت كاتب الوحي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبين السين فيه " . رواه الخطيب وابن عساكر

            وقال عمرو بن بحر الجاحظ : قال جعفر بن يحيى للرشيد : يا أمير المؤمنين ، قال لي أبي يحيى : إذا أقبلت الدنيا عليك فأعط ; فإنها لا تفنى ، وإذا أدبرت عنك فأعط ; فإنها لا تبقى . قال جعفر : وأنشدنا أبي :


            لا تبخلن لدنيا وهي مقبلة     فليس ينقصها التبذير والسرف
            فإن تولت فأحرى أن تجود بها     فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف

            مكانة جعفر البرمكي عند الرشيد قال الخطيب البغدادي : وقد كان جعفر من علو القدر ونفاذ الأمر وعظم المحل وجلالة المنزلة عند الرشيد بحالة انفرد بها ، ولم يشارك فيها ، وكان سمح الأخلاق ، طلق الوجه ، ظاهر البشر . فأما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فأشهر من أن يذكر وأبين من أن يظهر ، وكان أيضا من ذوي الفصاحة المذكورين والبلاغة .

            وقد روى ابن عساكر ، عن مهذب حاجب العباس بن محمد ، صاحب قطيعة العباس والعباسية ، أنه أصابته ضائقة ، وألح عليه المطالبون ، وعنده سفط فيه جوهر شراؤه عليه ألف ألف درهم ، فحمله إلى جعفر ليبيعه منه ، فاشتراه بثمنه ووزن له ألف ألف ، وقبض منه السفط وأجلسه معه في تلك الليلة ، فلما رجع إلى منزله إذا السفط قد سبقه إلى منزله ، فلما أصبح غدا إليه ليشكره ، فوجده مع أخيه الفضل على باب الرشيد يستأذنان عليه ، فقال له جعفر : إني قد ذكرت أمرك للفضل ، وقد أمر لك بألف ألف ، وما أظنها إلا قد سبقتك إلى أهلك ، وسأفاوض فيك أمير المؤمنين . فلما دخل ذكر أمره وما لحقه من الديون ، فأمر له بثلاثمائة ألف دينار .

            وكان جعفر ليلة في سمره وعنده رجل من أصحابه ، فجاءت الخنفساء ، حتى ركبت ثياب الرجل ، فألقاها عنه جعفر . وقال : إن الناس يقولون : إن من قصدته الخنفساء يبشر بمال يصيبه . فأمر له جعفر بألف دينار . ثم عادت الخنفساء ، فرجعت إلى الرجل ، فأمر له بألف دينار أخرى .

            وحج مرة مع الرشيد ، فلما كانوا بالمدينة قال لرجل من أصحابه : انظر جارية أشتريها تكون فائقة في جمالها وغنائها وذكائها . ففتش الرجل فوجد جارية على النعت ، فطلب سيدها فيها مالا كثيرا على أن يراها جعفر ، فذهب جعفر إلى منزل سيدها ، فلما رآها أعجب بها ، فلما غنته أعجبته أكثر ، فساوم صاحبها فيها ، وقال : قد أحضرنا مالا فإن أعجبك وإلا زدناك . فقال لها سيدها : إني كنت في نعمة ، وكنت عندي في غاية السرور والسعة ، وإنه قد انقبض علي حالي ، وقد أحببت أن أبيعك لهذا الملك ، لتكوني عنده كما كنت عندي . فقالت : يا سيدي ، والله لو ملكت منك ما ملكت مني لم أبعك بالدنيا وما فيها ، وأين ما كنت عاهدتني أن لا تبيعني ، ولا تأكل ثمني؟! فقال سيدها لجعفر وأصحابه : أشهدكم أنها حرة لوجه الله تعالى ، وأني قد تزوجتها . فلما قال ذلك نهض جعفر ، وقام أصحابه ، وأمروا الحمال أن يحمل الدراهم ، فقال جعفر : والله لا تتبعني . وقال للرجل : قد ملكتكها . فأنفقها على أهلك . وذهب وتركه .

            هذا وقد كان يبخل بالنسبة إلى أخيه الفضل ، إلا أن الفضل كان أكثر منه مالا .

            وروى ابن عساكر من طريق الدارقطني بسنده أنه لما أصيب جعفر وجدوا له في جرة ألف دينار ، زنة كل دينار مائة دينار ، مكتوب على صفحة الدينار الواحدة جعفر ، والأخرى :


            وأصفر من ضرب دار الملوك     يلوح على وجهه جعفر
            يزيد على مائة واحدا     متى تعطه معسرا يوسر

            وقال أحمد بن المعلى الراوية : كتبت عنان جارية الناطفي إلى جعفر تطلب منه أن يقول لأبيه يحيى أن يشير على الرشيد بشرائها ، وكتبت إليه بهذه الأبيات من شعرها في جعفر :


            يا لائمي جهلا ألا تقصر     من ذا على حر الهوى يصبر
            لا تلحني إذا شربت الهوى     صرفا فممزوج الهوى سكر
            أحاط بي الحب فخلفي له     بحر وقدامي له أبحر
            تخفق رايات الهوى بالردى     فوقي وحولي للهوى عسكر
            سيان عندي في الهوى لائم     أقل فيه والذي يكثر
            أنت المصفى من بني برمك     يا جعفر الخيرات يا جعفر
            لا يبلغ الواصف في وصفه     ما فيك من فضل ولا يعشر
            من وفر المال بأعراضه     فجعفر أعراضه أوفر
            ديباجة الملك على وجهه     وفي يديه العارض الممطر
            سحت علينا منهما ديمة     ينهل منها الذهب الأحمر
            لو مسحت كفاه جلمودة     أنضر فيها الورق الأخضر
            لا يستتم المجد إلا فتى     يصبر للبذل كما يصبر
            يهتز تاج الملك من فوقه     فخرا ويزهي تحته المنبر
            أشبهه البدر إذا ما بدا     أو غرة في وجهه تزهر
            والله ما أدري أبدر الدجى     في وجهه أم وجهه أنور
            يستمطر الزوار منك الندى     وأنت بالزوار تستبشر

            وكتبت تحت أبياتها حاجتها ، فركب من فوره إلى أبيه ، فأدخله على الخليفة ، فأشار عليه بشرائها ، فقال : لا والله لا أشتريها وقد قال فيها الشعراء فأكثروا ، واشتهر أمرها ، وهي التي يقول فيها أبو نواس :


            إن عنان النطاف جارية     أصبح حرها للنيك ميدانا
            لا يشتريها إلا ابن زانية     أو قلطبان يكون من كانا

            وعن ثمامة بن أشرس قال : بت ليلة مع جعفر بن يحيى بن خالد ، فانتبه من منامه يبكي مذعورا ، فقلت : ما شأنك؟ قال : رأيت شيخا جاء فأخذ بعضادتي هذا الباب وقال :


            كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا     أنيس ولم يسمر بمكة سامر

            قال فأجبته :


            بلى نحن كنا أهلها فأبادنا     صروف الليالي والجدود العواثر

            قال ثمامة بن أشرس : فلما كانت الليلة المقبلة قتله الرشيد ، ونصب رأسه على الجسر ، ثم خرج الرشيد ينظر إليه ، فتأمله ثم أنشأ يقول :


            تقاضاك دهرك ما أسلفا     وكدر عيشك بعد الصفا
            فلا تعجبن فإن الزمان     رهين بتفريق ما ألفا

            قال : فنظرت إلى جعفر ، وقلت : أما لئن أصبحت آية ، فلقد كنت في الخير غاية . قال : فنظر إلي الرشيد كأنه جمل صئول ، ثم أنشأ يقول :


            ما يعجب العالم من جعفر     ما عاينوه فبنا كانا
            من جعفر أو من أبوه ومن     كانت بنو برمك لولانا

            ثم حول وجه فرسه وانصرف .

            وعن علي بن الحسين الإسكافي قال : كان أحمد بن الجنيد الإسكافي وكان أخص الناس بجعفر بن يحيى البرمكي ، وكان الناس يقصدونه في حوائجهم إلى جعفر ، وإن رقاع الناس كثرت في خف أحمد بن الجنيد ، فلم يزل كذلك إلى أن تهيأت له الخلوة بجعفر فقال له : جعلني الله فداك ، قد كثرت رقاع الناس معي وأشغالك كثيرة ، وأنت اليوم خال ، فإن رأيت أن تنظر فيها . فقال له جعفر : على أن تقيم عندي اليوم . فقال : نعم . فصرف دوابه وأقام ، فلما تغدوا جاءه بالرقاع ، فقال له جعفر : هذا وقت ذا دعنا اليوم ، فأمسك عنه وانصرف ولم ينظر في الرقاع ، فلما كان بعد أيام خلا به ، فأذكره [الرقاع ] ، فقال : نعم ، على أن تقيم عندي اليوم . فأقام عنده ، ففعل به مثل الفعل الأول ، حتى فعل به ذلك ثلاثا ، فلما كان ذلك في آخر يوم أذكره فقال : دعني الساعة . وناما ، فانتبه جعفر قبل أحمد ، فقال لخادم له : اذهب إلى خف أحمد بن الجنيد فجئني بكل رقعة فيه ، وانظر لا يعلم أحمد . فذهب الغلام ، وجاء بالرقاع ، فوقع فيها جعفر عن آخرها بخطه بما أحب أصحابها ، ووكد ذلك ، ثم أمر الغلام أن يردها إلى الخف ، فردها ، فانتبه أحمد ولم يقل فيها شيئا ، وانصرف أحمد ، فركب يعلل أصحاب الرقاع بها أياما ، ثم قال لكاتب له :

            ويحك هذه الرقاع قد أخلقت في خفي ، وهذا ليس ينظر فيها ، فخذها فتصفحها ، وجدد ما أخلق منها . فأخذها الكاتب ، فنظر فيها ، فوجد الرقاع موقعا فيها بما سأل أصحابها ، فتعجب من كرمه ونبل أخلاقه ، ومن أنه قضى حاجته ولم يعلمه بها لئلا يظن أنه اعتد بها عليه . وفاة جعفر البرمكي وقد كان مقتل جعفر في ليلة السبت مستهل صفر من سنة سبع وثمانين ومائة ، وكان عمره سبعا وثلاثين سنة ، وكان لهم في الوزارة سبع عشرة سنة .

            وقد دخلت عبادة أم جعفر على أناس في يوم عيد أضحى تستمنح منهم جلد شاة تتدفأ به ، وسألوها عن أمرهم : فقالت : أذكر أصبحت في مثل هذا اليوم وإن على رأسي أربعمائة وصيفة ، وإني لأقول : إن ابني جعفرا عاق بي .

            وروى الخطيب البغدادي أن سفيان بن عيينة لما بلغه قتل الرشيد جعفرا ، وما أحل بالبرامكة من النقمة استقبل القبلة وقال : اللهم إن جعفرا كان قد كفاني مئونة الدنيا فاكفه مئونة الآخرة . وقال أبو يزيد الرياحي : كنت قاعدا عند خشبة جعفر بن يحيى البرمكي أتفكر في زوال ملكه ، وحاله التي صار إليها إذ أقبلت امرأة راكبة لها رواء وهيئة ، فوقفت على جعفر فبكت فأحزنت ، وتكلمت فأبلغت ، وقالت : أما والله لئن أصبحت في الناس آية ، لقد بلغت فيهم الغاية ، ولئن زال ملكك ، وخانك دهرك ، ولم يطل بك عمرك ، لقد كنت المغبوط حالا ، الناعم بالا ، يحسن بك الملك ، فاستعظم الناس فقدك إذ لم يستخلفوا ملكا بعدك ، فنسأل الله الصبر على عظيم الفجيعة وجليل الرزية التي لا تستعاض بغيرك ، والسلام عليك وداع غير قال ولا ناس لذكرك ، ثم أنشأت تقول :


            العيش بعدك مر غير محبوب     ومذ صلبت ومقنا كل مصلوب
            أرجو لك الله ذا الإحسان إن له     فضلا علينا وعفوا غير محسوب



            ثم سكتت ساعة وتأملته ، ثم أنشأت تقول :


            عليك من الأحبة كل يوم     سلام الله ، ما ذكر السلام
            لئن أمسى صداك برأي عين     على خشب حباك بها الإمام
            فمن ملك إلى ملك برغم     من الأملاك أسلمك الحمام

            الفضيل بن عياض وممن توفي فيها من الأعيان :

            الفضيل بن عياض ،

            أبو علي التميمي ، أحد أئمة العباد ، وعلم الزهاد ، وواحد العلماء الأولياء ، ولد بخراسان بكورة أبيورد ، وقدم الكوفة وهو كبير ، فسمع الأعمش ، ومنصور بن المعتمر وعطاء بن السائب ، وحصين بن عبد الرحمن ، وغيرهم ، ثم انتقل إلى مكة فتعبد بها ، وكان حسن تلاوة القرآن ، كثير الصلاة والصيام ، وكان سيدا كبير الشأن ، ثقة من أئمة الرواية ، رحمه الله ، ورضي عنه ، وله مع الرشيد قصة موعظته له ، وقد روينا ذلك مطولا في كيفية دخول الرشيد عليه منزله ، وما قال له الفضيل ، وعرض الرشيد عليه المال ، فأبى ذلك ولم يقبل منه شيئا ، وكانت وفاته بمكة في هذا العام ، في المحرم منه .

            وذكروا أنه كان شاطرا يقطع الطريق ، وكان يتعشق جارية ، فبينما هو ذات ليلة يتسور عليها جدارا إذ سمع قارئا يقرأ : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله [ الحديد : 61 ] . فقال : بلى يا رب . وأقلع عما هو فيه ، ورجع إلى خربة ، فبات بها فسمع سفارا يقولون : إن فضيلا أمامكم يقطع الطريق . فأمنهم ، واستمر على توبته ، حتى كان منه ما كان من السيادة والعبادة والزهادة ، ثم صار علما يقتدى به ويهتدى بكلامه وفعاله ، رحمه الله . قال الفضيل : لو أن الدنيا كلها حلال لا أحاسب بها ، لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه .

            وقال : العمل لأجل الناس شرك ، وترك العمل لأجل الناس رياء ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما .

            وقال له الرشيد يوما : ما أزهدك! فقال : أنت أزهد مني ; لأني زهدت في الدنيا الفانية ، وأنت زهدت في الآخرة الباقية .

            ومن كلامه : لو أن لي دعوة مستجابة لدعوت بها لإمام عامة ; فإنه إذا صلح أمنت البلاد والعباد .

            وقال : إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي .

            وقال في قوله تعالى : ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] . قال : يعني أخلصه وأصوبه ;إن العمل يجب أن يكون خالصا لله ، وصوابا على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم .

            وعن إسحاق بن إبراهيم قال : كانت قراءة الفضيل حزينة شهية بطيئة مترسلة ، كأنه يخاطب إنسانا ، وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة تردد فيها وسأل ، وكان يلقى له حصير بالليل في مسجده ، فيصلي من أول الليل ساعة حتى تغلبه عيناه فينام على الحصير ، فينام قليلا ، ثم يقوم ، فإذا غلبه النوم نام ، ثم يقوم ، هكذا حتى يصبح .

            وسمعته يقول : إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل ، كبلتك خطيئتك .

            وعن الفضيل بن الربيع قال : حج أمير المؤمنين ، فأتاني فخرجت مسرعا ، فقلت : يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك . فقال : ويحك ! قد حك في نفسي شيء ، فانظر لي رجلا أسأله . فقلت : هنا سفيان بن عيينة . فقال : امض بنا إليه . فأتيناه فقرعت الباب ، فقال : من ذا ؟ قلت : أجب أمير المؤمنين . فخرج مسرعا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لو أرسلت إلي أتيتك ، فقال له : خذ لما جئناك له رحمك الله . فحدثه ساعة ، ثم قال له : عليك دين ؟ قال : نعم . قال : أبا العباس ، اقض دينه .

            فلما خرجنا قال : ما أغنى عني صاحبك شيئا ، انظر لي رجلا أسأله . قلت : هنا عبد الرزاق بن همام . قال : امض بنا إليه . فأتيناه ، فقرعت الباب فقال : من هذا ؟ قلت : أجب أمير المؤمنين . فخرج مسرعا فقال : يا أمير المؤمنين ، لو أرسلت إلي أتيتك . قال : خذ لما جئناك له . فحادثه ساعة ، ثم قال : هل عليك دين ؟ قال : نعم . قال : أبا عباس ، اقض دينه .

            فلما خرجنا قال : ما أغنى عني صاحبك شيئا ، انظر لي رجلا أسأله . قلت : هنا الفضيل بن عياض . قال : مر بنا إليه . فأتيناه ، فإذا هو قائم يصلي ، يتلو آية من القرآن ، يرددها ، فقال : اقرع الباب . فقرعت الباب . فقال : من هذا ؟ فقلت : أجب أمير المؤمنين . فقال : ما لي ولأمير المؤمنين . فقلت : سبحان الله ، أما عليك طاعة ، أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ليس للمؤمن أن يذل نفسه " ؟ فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة ، فأطفأ المصباح ، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت ، فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا ، فسبقت كف هارون قبلي إليه ، فقال : يا لها من كف ، ما ألينها ، إن نجت غدا من عذاب الله تعالى . فقلت في نفسي : ليكلمنه الليلة بكلام من قلب نقي . فقال له : خذ لما جئناك له رحمك الله .

            قال : إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ، ومحمد بن كعب القرظي ، ورجاء بن حيوة . فقال لهم : إني قد ابتليت بهذا الأمر فأشيروا علي .

            فقال سالم بن عبد الله : إن أردت النجاة غدا من عذاب الله عز وجل فصم [عن ] الدنيا ، وليكن إفطارك فيها الموت .

            وقال محمد بن كعب : إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبا ، وأوسطهم أخا ، وأصغرهم عندك ولدا ، فوقر أباك ، وأكرم أخاك ، وتحنن على ولدك .

            وقال له رجاء بن حيوة : إن أردت النجاة غدا من عذاب الله عز وجل فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك ، واكره لهم ما تكره لنفسك ، ثم مت إذا شئت ، وإني أقول لك إني أخاف عليك أشد الخوف ، يوما تزل فيه الأقدام ، فهل معك - رحمك الله - من يشير عليك بمثل هذا ؟

            فبكى بكاء شديدا حتى غشي عليه ، فقلت : ارفق بأمير المؤمنين يا بن أم الربيع ، تقتله أنت وأصحابك وأرفق أنا به ، ثم أفاق فقال له : زدني رحمك الله . فقال : يا أمير المؤمنين ، بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكى إليه ، فكتب إليه عمر :

            يا أخي ، أذكرك الله طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد ، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد منك وانقطاع الرجاء .

            فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال : ما أقدمك ؟ قال : خلعت قلبي بكتابك ، لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل قال : فبكى هارون بكاء شديدا ، ثم قال : زدني رحمك الله .

            فقال : يا أمير المؤمنين ، إن العباس عم المصطفى صلى الله عليه وسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أمرني على إمارة . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة ، فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل " .

            قال : فبكى هارون بكاء شديدا ، وقال له : زدني رحمك الله .

            قال : يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة ، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أصبح غاشا لرعيته لم يرح رائحة الجنة " . فبكى هارون وقال له : عليك دين ؟ قال : نعم ، دين لربي لم يحاسبني عليه ، فالويل لي إن سألني ، والويل لي إن ناقشني ، والويل لي إن لم ألهم حجتي . قال : أعني من دين العباد . قال : إن ربي لم يأمرني بهذا ، أمرني أن أوحده وأطيع أمره ، فقال عز وجل : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين .

            فقال له : هذه ألف دينار خذها أنفقها على عيالك ، وتقو بها على عبادتك . فقال : سبحان الله ، أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا ؟ سلمك الله ووفقك . ثم صمت ، فلم يكلمنا ، فخرجنا من عنده ، فلما صرنا على الباب قال : أبا العباس ، إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا ، هذا سيد المسلمين .

            فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت له : يا هذا ، قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال ، فلو قبلت هذا المال فانفرجنا به . فقال لها : مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه ، فلما كثر نحروه فأكلوا لحمه .

            فلما سمع هارون هذا الكلام قال : تدخل فعسى يقبل المال ، فلما علم الفضيل خرج فجلس على السطح على باب الغرفة ، فجلس هارون إلى جنبه ، فجعل يكلمه فلا يجيبه ، فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت : يا هذا ، قد أذيت الشيخ منذ الليلة ، فانصرف رحمك الله . فانصرفنا . وفيها توفي بشر بن المفضل ، وعبد السلام بن حرب ، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي ، وعبد العزيز العمي ، وعلي بن عيسى الأمير ببلاد الروم مع القاسم ابن الرشيد في الصائفة ، ومعتمر بن سليمان ، أبو شعيب البراثي أبو شعيب البراثي العابد .

            عن محمد بن إبراهيم قال : سمعت الجنيد بن محمد يقول : كان أبو شعيب البراثي أول من سكن براثا في كوخ يتعبد فيه ، فمرت بكوخه جارية من بنات الكبار من أبناء الدنيا كانت ربيت في قصور الملوك ، فنظرت إلى أبي شعيب فاستحسنت حاله ، فصارت كالأسير له ، فعزمت على التجرد عن الدنيا والاتصال بأبي شعيب ، فجاءت إليه وقالت : أريد أن أكون لك خادمة . فقال لها : إن أردت ذلك فغيري من هيئتك وتجردي عما أنت فيه حتى تصلحي لما أردت . فتجردت عن كل ما تملكه ولبست لبسة النساك وحضرته فتزوجها ، فلما دخلت الكوخ رأت قطعة خصاف وكان يجلس عليها أبو شعيب تقيه من الندى ، فقالت : ما أنا بمقيمة فيها حتى تخرج ما تحتك ، لأني سمعتك تقول : إن الأرض تقول لابن آدم : تجعل بيني وبينك حجابا وأنت غدا في بطني ، فما كنت لأجعل بيني وبينها حجابا ، فأخذ أبو شعيب الخصاف فرمى به ، فمكثت معه سنين كثيرة يتعبدان أحسن عبادة ، وتوفيا على ذلك متعاونين .

            [قال المصنف : ] وقد ذكرنا فيما تقدم أن جوهرة زوجة عبد الله البراثي جرى لها نحو هذا .

            وعمر بن عبيد الطنافسي الكوفي .

            وفيها توفي أبو مسلم معاذ الهراء النحوي ، وقيل : كنيته أبو علي . وعنه أخذ الكسائي النحو ، ( وولد أيام يزيد بن عبد الملك ) .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية