وفي سنة تسع وثمانين ومائة سار الرشيد إلى الري ، وسبب ذلك أن الرشيد لما استعمل علي بن عيسى بن ماهان على خراسان ظلم أهلها ، وأساء السيرة فيهم ، فكتب كبراء أهلها وأشرافها إلى الرشيد يشكون سوء سيرته وظلمه ، واستخفافه بهم ، وأخذ أموالهم . وقيل للرشيد : إن علي بن عيسى قد أجمع على الخلاف . فسار إلى الري في جمادى الأولى ، ومعه ابناه عبد الله المأمون ، والقاسم ، وكان قد جعله ولي عهد بعد المأمون ، وجعل أمره إلى المأمون إن شاء أقره ، وإن شاء خلعه ، وأحضر القضاة والشهود وأشهدهم أن جميع [ ما ] في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون ، وليس له فيه شيء .
وأقام الرشيد بالري أربعة أشهر حتى أتاه علي بن عيسى من خراسان ، فلما قدم عليه أهدى له الهدايا الكثيرة ، والأموال العظيمة ، وأهدى لجميع من معه من أهل بيته ، وولده ، وكتابه ، وقواده ، من الطرف والجواهر وغير ذلك ، وكان إلى جانبه يحيى بن خالد ، فقال له : يا أبا علي ، هذا الذي أشرت علينا أن لا نوليه هذا الثغر فخالفناك فيه ، وكان في خلافك البركة . وهو كالمازح معه إذ ذاك فقال : يا أمير المؤمنين ، جعلني الله فداك ، أنا وإن كنت أحب أن أصيب في رأيي وأوافق في مشورتي ، فأنا أحب أن يكون رأي أمير المؤمنين أعلى ، وفراسته أثقب ، وما أحسن هذا وأكثره إن لم يكن وراءه ما تكره . قال : وما ذاك ؟ قال : إني أحسب أن أكثر هذا أخذ ظلما . فوقر ذلك في نفس الرشيد ، فلما عاث علي بن عيسى بخراسان ووتر أشرافها ، وأخذ أموالهم ، واستخف برجالهم شكى الناس سوء سيرته ، وسألوا أمير المؤمنين أن يبدلهم من أحب من كفاءته ، فدعا يحيى بن خالد فشاوره في أمر علي بن عيسى وفي صرفه ، وقال : أشر علي برجل ترضاه لذلك الثغر ، يصلح ما أفسد ذلك الفاسق ويرتق ما فتق . فأشار عليه بيزيد بن مزيد ، فلم يقبل .
ولما أقام الرشيد بالري سير حسينا الخادم إلى طبرستان ، وكتب معه أمانا لشروين بن أبي قارن ، وأمانا لوندا هرمز ، جد مازيار ، وأمانا لمرزبان بن جستان ، ( صاحب الديلم ، فقدم جستان ) ووندا هرمز فأكرمهما ، وأحسن إليهما ، وضمن وندا هرمز السمع والطاعة ، وأداء الخراج عن شروين . ثم عاد إلى بغداد فأدركه عيد الأضحى بقصر اللصوص ، فضحى عنده ، ودخل بغداد لثلاث بقين من ذي الحجة ، فلما اجتاز بالجسر أمر بجثة جعفر بن يحيى البرمكي ، فأحرقت ، وكانت مصلوبة منذ قتله إلى هذا اليوم ، ثم ارتحل الرشيد من بغداد إلى الرقة وهو متأسف على بغداد وطيبها ، وإنما مراده بمقامه بالرقة ردع المفسدين بها ، وقد قال العباس بن الأحنف في سرعة خروجهم من بغداد مع الرشيد :
ما أنخنا حتى ارتحلنا فما ن فرق بين المناخ والإرتحال ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا
فقرنا وداعهم بالسؤال