الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وفي هذه السنة : جعل المأمون علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده ، وسماه الرضي من آل محمد صلى الله عليه وسلم وأمر جنده أن يطرح السواد ولبس ثياب الخضرة ، وكتب بذلك إلى الآفاق ، وذلك يوم الإثنين لليلتين خلتا من رمضان هذه السنة . فكتب الحسن بن سهل إلى عيسى بن محمد يخبره أن أمير المؤمنين قد جعل علي بن موسى الرضي ولي عهده ، وذلك أنه نظر في بني العباس وبني علي فلم يجد أحدا أفضل ولا أورع ولا أعلم منه ، وأنه سماه الرضي من آل محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمر أن يطرح السواد ولبس الخضرة ، وأن يأمر من قبله من الجند والقواد وبني هاشم بالبيعة له ، ويأخذهم بلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم ، ويأخذ أهل بغداد جميعا بذلك ، فوصل الكتاب إلى عيسى يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة ، فدعا أهل بغداد إلى ذلك ، فاختلفوا ، فقال قوم : نبايع ، وقال قوم : لا نخرج الأمر من ولد العباس ، وإنما هذا دسيس من قبل الفضل بن سهل ، وغضب ولد العباس من ذلك ، واجتمع بعض إلى بعض ، وتكلموا فيه وقالوا : نولي بعضنا ونخلع المأمون . وكان المتكلم في هذا والمختلف فيه والمتقلد له : إبراهيم ومنصور بن المهدي .

            ذكر العهد الذي كتبه المأمون بخطه لعلي ابن موسى الرضا [عليهما السلام ]

            بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين بيده لعلي بن موسى بن جعفر ولي عهده .

            أما بعد : فإن الله اصطفى الإسلام دينا ، واصطفى له عباده رسلا دالين عليه ، وهادين إليه ، يبشر أولهم بآخرهم ، ويصدق تاليهم ماضيهم ، حتى انتهت نبوة الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل ، ودروس من العلم ، وانقطاع من الوحي ، واقتراب من الساعة ، فختم الله به النبيين ، وجعله شاهدا لهم ، ومهيمنا عليهم ، وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد بما أحل وحرم ، ووعد وأوعد ، وحذر وأنذر ، ليكون له الحجة البالغة على خلقه ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم . فبلغ عن الله رسالته ، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، ثم الجهاد والغلظة حتى قبضه الله إليه ، واختار له ما عنده صلى الله عليه وسلم ، فلما انقضت النبوة ، وختم الله بمحمد الوحي والرسالة ، جعل قوام الدين ونظام أمر المسلمين بالخلافة ، وإتمامها وعزها ، والقيام بحق الله فيها بالطاعة التي بها تقام فرائض الله وحدوده وشرائع الإسلام وسننه ، ويجاهد بها عدوه ، فعلى خلفاء الله طاعته فيما استخلفهم ، واسترعاهم من أمر دينه وعباده ، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله ، وأمن السبل ، وحقن الدماء ، وإصلاح ذات البين ، وجمع الألفة ، وفي خلاف ذلك اضطراب أمر المسلمين ، واختلاف ملتهم ، وقهر دينهم ، واستعلاء عدوهم ، وتفرق الكلمة ، وخسران الدنيا والآخرة ، فحق على من استخلفه في أرضه ، وائتمنه على خلقه أن يجهد لله نفسه ، ويؤثر على ما فيه رضا الله وطاعته ، ويعمل لما الله واقفه عليه ، وسائله عنه ، ويحكم بالحق ، ويعمل بالعدل فيما حمله الله وقلده ، فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود عليه السلام : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق وقال تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون - 93 .

            وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال : لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوفت أن يسألني الله عنها ، وأيم الله إن المسئول عن خاصة نفسه على عمله فيما بين الله وبينه ليعرض أمر كبير على خطر عظيم ، فكيف بالمسئول عن رعاية الأمة ، وبالله الثقة ، وإليه المفزع والرغبة في التوفيق ، والعصمة والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة ، والفوز من الله ، والرضوان والرحمة ، وأنظر الأئمة لنفسه وأنصحهم لله في دينه وعباده ، وخلافته في أرضه من عمل بطاعته ودينه وسنة نبيه عليه السلام في [مدة ] أيامه وبعدها ، فأجهد رأيه ونظره فيمن يوليه عهده ، ويختاره لإمارة المسلمين ورعايتهم بعده ، وينصبه علما لهم ، ومفزعا في جمع ألفتهم ، ولم شعثهم ، وحقن دمائهم ، والأمن بإذن الله من فرقتهم ، وفساد ذات بينهم ، واختلافهم ، ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم ، وإن الله عز وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام أمر الإسلام وكماله وعزه وصلاح أهله ، وأنهم خلفاؤه من توكيده لمن يختارونه لهم من بعدهم ما عظمت به النعمة ، وسلمت فيه العاقبة ، وينقض الله بذلك الشقاق والعداوة ، والسعي في الفرقة ، والتربص للفتنة ، ولم يزل أمير المؤمنين مذ أفضت إليه الخلافة ، فاختبر بشاعة مذاقها ، وثقل محملها ، وشدة مئونتها ، وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ومراقبته فيما حمله فيها وأنصب بدنه ، وأسهر عينه ، وأطال فكره فيما فيه عز الدين ، وقمع المشركين ، وصلاح الأمة ، ونشر العدل ، وإقامة الكتاب والسنة ، ومنع ذلك من الخفض ، والدعة ، ومهنأ العيش ، علما بما الله سائله عنه ، ومحبته أن يلقى الله مناصحا في دينه وعباده ، ومختارا لولاية عهده ورعاية الأمة من بعده أفضل ما يقدر عليه في دينه وورعه ، وأرجاهم للقيام بأمر الله وحقه ، مناجيا لله بالاستخارة في ذلك ، ومسألته إلهامه ما فيه رضاه وطاعته في آناء ليله ونهاره ، معملا في طلبه ، والتماسه في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس وعلي بن أبي طالب ، فكره ونظره ، مقتصرا فيمن علم حاله ، ومذهبه منهم على الحق علما بالغا في المسألة فيمن خفي عليه أمره ، وجهده وطاقته ، حتى استقضى أمورهم معرفة ، وابتلى أخبارهم مشاهدة ، وكشف ما عندهم مساءلة ، فكانت خيرته بعد استخارته لله ، وإجهاد نفسه في قضاء حقه في عباده من البيتين جميعا :

            علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، لما رأى من فضله البارع ، وعلمه الناصع ، وورعه الظاهر ، وزهده الخالص ، وتخلية من الدنيا ، ومسلمته من الناس ، فقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة ، والألسن متفقة ، والكلمة فيه جامعة ، وما لم يزل يعرفه [به ] من الفضل ، يافعا وناشئا ، وحدثا ومكتهلا ، فعقد له العهد والولاية من بعده ، واثقا بخيرة الله في ذلك ، إذ علم الله من فعله إيثارا له وللدين ، ونظرا للمسلمين ، وطلبا للسلامة ، وثبات الحجة ، والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين ، ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وجنده ، فبايعوه مسارعين مسرورين عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم ممن هو أشبك رحما ، وأقرب قرابة ، وسماه الرضي ، إذ كان رضا عند أمير المؤمنين ، فبايعوه معشر بيت أمير المؤمنين ، ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده وعامة المسلمين لأمير المؤمنين والرضي من بعده على اسم الله وبركته وحسن قضائه لدينه وعباده ، بيعة مبسوطة إليها أيديكم ، منشرحة لها صدروكم ، عالمين ما أراد أمير المؤمنين بها ، وأثر طاعة الله ، والنظر لنفسه ولكم فيها ، شاكرين لله على ما ألهم أمير المؤمنين من قضاء حقه في رعايتكم ، وحرصه على رشدكم وصلاحكم ، راجين عائدة الله في جمع ألفتكم ، وحقن دمائكم ، ولم شعثكم ، وسد ثغوركم ، وقوة دينكم ، وقمع عدوكم ، واستقامة أموركم ، فسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين ، فإنه الأمر إن سارعتم إليه ، وحمدتم الله عليه ، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله ، وكتب بيده لسبع خلون من شهر رمضان المعظم قدره سنة إحدى ومائتين .

            وكتب الرضي [عليه السلام ] كلمات منها أنه كتب عند قوله : اختار من البيتين جميعا علي بن موسى بن جعفر ، كتب تحته : وصلتك رحم وجزيت خيرا .

            وكتب تحت مدحه إياه بقوله وورعه وزهده : أثنى الله عليك فأجمل ، وأجزل لك الثواب فأكمل .

            وكتب تحت قوله : فعقد له العهد بعده : بل جعلت فداك وكتب تحت قوله : وسماه الرضي : رضي الله عنك وأرضاك وأحسن في الدارين جزاك .

            ثم كتب الرضي على ظهر العهد ما نسخته :

            بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، الفعال لما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وصلواته على نبيه وعلى آله الطيبين الطاهرين .

            أقول وأنا علي بن موسى بن جعفر إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد ، ووفقه للرشاد عرف من حقنا ما جهله غيره ، فوصل أرحاما قطعت ، وأمن أنفسا فزعت ، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها وقد افتقرت ، مبتغيا رضا رب العالمين ، لا يرضى جزاء من غيره ، وسيجزي الله الشاكرين ، ولا يضيع أجر المحسنين ، وإنه جعل إلي عهده والإمرة الكبرى إن بقيت من بعده ، فمن حل عقدة أمرها ، وفصم عروة [أحب ] إيثاقها ، فقد أباح حريمه وأحل محرمه ، إذ كان بذلك زاريا على الإمام ، منتهكا حرمة الإسلام وقد جعلت لله على نفسي إن استرعاني أمير المؤمنين وقلدني خلافته العمل فيهم عامة ، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة ، بطاعته وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن لا أسفك دما حراما ، ولا أبيح فرجا ولا مالا إلا ما سفكته حدوده ، وأباحته فرائضه ، وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي ، وقد جعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا ، يسألني الله عنه ، فإنه عز وجل يقول : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا فإن حدت أو غيرت أو بدلت كنت للتغيير مستحقا ، وللنكال متعرضا ، فأعوذ بالله من سخطه وإليه أرغب في التوفيق لطاعته والحول بيني وبين معصيته في عافيته لي وللمسلمين . وقد امتثلت أمر أمير المؤمنين ، وآثرت رضاه ، والله يعصمني وإياه ، وأشهدت الله على نفسي ، وكفى بالله شهيدا .

            وكتبت خطي بحضرة أمير المؤمنين ، أطال الله بقاءه ، والفضل بن سهل ، ويحيى بن أكثم ، وعبد الله بن طاهر ، وثمامة بن أشرس ، وبشر بن المعتمر ، وحماد بن النعمان . في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين .

            نسخة الشهادات

            رسم أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه وكبت أعداءه - قراءة مضمون هذه الصحيفة ، ظهرها وبطنها بحرم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروضة والمنبر ، على رءوس الأشهاد ، وبمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم وسائر الأولياء والأجناد ، بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على سائر المسلمين ، وأبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين ، و ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه . وكتب الفضل بن سهل بحضرة أمير المؤمنين في التاريخ المذكور :

            عبد الله بن طاهر بن الحسين أثبت شهادته في تاريخه .

            شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذا المكتوب ، ظهره وبطنه ، وهو يسأل الله عز وجل أن يعرف أمير المؤمنين وكافة المسلمين بركات هذا العهد ، والميثاق ، وكتب بخطه في التاريخ المبين .

            شهد حماد بن النعمان على مضمون ظهره وبطنه ، وكتب بيده في تاريخه .

            بشر بن المعتمر يشهد بذلك ، وكتب بيده في التاريخ .

            ثمامة بن أشرس حضر وكتب خطه .

            قال هبة الله بن الفضل بن صاعد الكاتب : هذا العهد ، رأيته بخط المأمون ، ابتاعه خالي يحيى بن صاعد بمائتي دينار ، وحمله إلى سيف الدولة صدقة بن منصور ، وكان فيه خطوط جماعة من الكتاب ، مثل : الصولي عبد الله بن العباس ، والوزير المغربي .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية