ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة
ذكر ملك أتابك عماد الدين زنكي مدينة حلب
في هذه السنة ، أول محرم ، ملك عماد الدين زنكي بن آقسنقر مدينة حلب وقلعتها ، ونحن نذكر كيف كان سبب ملكها ، فنقول :
قد ذكرنا ملك البرسقي لمدينة حلب ، وقلعتها سنة ثماني عشرة [ وخمسمائة ] واستخلافه بها ابنه مسعودا ، ولما قتل البرسقي سار مسعود عنها إلى الموصل وملكها ، واستناب بحلب أميرا اسمه قومان ، ثم إنه ولى عليها أميرا اسمه قتلغ أبه ، وسيره بتوقيع إلى قومان لتسليمها ، فقال :
بيني وبين عز الدين علامة لم أرها ولا أسلم إلا بها ، وكانت العلامة بينهما صورة غزال ، وكان مسعود بن البرسقي حسن التصوير ، فعاد قتلغ أبه إلى مسعود وهو يحاصر الرحبة فوجده قد مات ، فعاد إلى حلب مسرعا .
وعرف الناس موته ، فسلم الرئيس فضائل بن بديع البلد ، وأطاعه المقدمون به ، واستنزلوا قومان من القلعة بعد أن صح عنده وفاة صاحبه مسعود ، وأعطوه ألف دينار ، فتسلم قتلغ القلعة في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين [ وخمسمائة ] ، فظهر منه بعد أيام جور شديد ، وظلم عظيم ، ومد يده إلى أموال الناس لا سيما التركات فإنه أخذها ، وتقرب إليه الأشرار ، فنفرت قلوب الناس منه .
وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق الذي كان قديما صاحبها ، فأطاعه أهلها ، وقاموا ليلة الثلاثاء ثاني شوال فقبضوا على كل من كان بالبلد من أصحاب قتلغ أبه ، وكان أكثرهم يشربون في البلد صبحة العيد ، وزحفوا إلى القلعة ، فتحصن قتلغ أبه فيها بمن معه ، فحصروه ، ووصل إلى حلب حسان صاحب منبج وحسن صاحب بزاعة ; لإصلاح الأمر فلم ينصلح .
وسمع الفرنج بذلك ، فتقدم جوسلين بعسكره إلى المدينة ، فصونع بمال ، فعاد عنها ، ثم وصل بعده صاحب أنطاكية في جمع من الفرنج ، فخندق الحلبيون حول القلعة ، فمنع الداخل والخارج إليها من ظاهر البلد ، وأشرف الناس على الخطر العظيم إلى منتصف ذي الحجة من السنة .
وكان عماد الدولة قد ملك الموصل والجزيرة ، فسير إلى حلب الأمير سنقر دراز ، والأمير حسن قراقوش ، وهما من أكابر أمراء البرسقي ، وقد صاروا معه في عسكر قوي ، ومعه التوقيع من السلطان بالموصل والجزيرة والشام ، فاستقر الأمر أن يسير بدر الدولة بن عبد الجبار وقتلغ أبه إلى الموصل إلى عماد الدين ، فساروا إليه ، وأقام حسن قراقوش بحلب واليا عليها ولاية مستعارة ، فلما وصل بدر الدولة وقتلغ أبه إلى عماد الدين أصلح بينهما ، ولم يرد واحدا منهما إلى حلب ، وسير حاجبه صلاح الدين محمدا الياغسياني إليها في عسكر ، فصعد إلى القلعة ، ورتب الأمور ، وجعل فيها واليا .
وسار عماد الدين زنكي إلى الشام في جيوشه وعساكره ، فملك في طريقه مدينة منبج وبزاعة ، وخرج أهل حلب إليه ، فالتقوه ، واستبشروا بقدومه ، ودخل البلد واستولى عليه ، ورتب أموره ، وأقطع أعماله الأجناد والأمراء ، فلما فرغ من الذي أراده قبض على قتلغ أبه ، وسلمه إلى ابن بديع ، فكحله بداره بحلب ، فمات قتلغ أبه ، واستوحش ابن بديع ، فهرب إلى قلعة جعبر ، واستجار بصاحبها فأجاره .
وجعل عماد الدين في رئاسة حلب أبا الحسن علي بن عبد الرزاق ، ولولا أن الله تعالى من على المسلمين بملك أتابك ببلاد الشام ، ( لملكها الفرنج ; لأنهم كانوا يحصرون بعض البلاد الشامية ، وإذا ) علم ظهير الدين طغتكين بذلك جمع عساكره ، وقصد بلادهم وحصرها ، وأغار عليها ، فيضطر الفرنج إلى الرحيل لدفعه عن بلادهم ، فقدر الله تعالى أنه توفي هذه السنة ، فخلا لهم الشام من جميع جهاته من رجل يقوم بنصرة أهله ، فلطف الله بالمسلمين بولاية عماد الدين ، ففعل بالفرنج ما نذكره إن شاء الله تعالى .