الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة

            ذكر ملك أتابك عماد الدين زنكي مدينة حلب

            في هذه السنة ، أول محرم ، ملك عماد الدين زنكي بن آقسنقر مدينة حلب وقلعتها ، ونحن نذكر كيف كان سبب ملكها ، فنقول :

            قد ذكرنا ملك البرسقي لمدينة حلب ، وقلعتها سنة ثماني عشرة [ وخمسمائة ] واستخلافه بها ابنه مسعودا ، ولما قتل البرسقي سار مسعود عنها إلى الموصل وملكها ، واستناب بحلب أميرا اسمه قومان ، ثم إنه ولى عليها أميرا اسمه قتلغ أبه ، وسيره بتوقيع إلى قومان لتسليمها ، فقال :

            بيني وبين عز الدين علامة لم أرها ولا أسلم إلا بها ، وكانت العلامة بينهما صورة غزال ، وكان مسعود بن البرسقي حسن التصوير ، فعاد قتلغ أبه إلى مسعود وهو يحاصر الرحبة فوجده قد مات ، فعاد إلى حلب مسرعا .

            وعرف الناس موته ، فسلم الرئيس فضائل بن بديع البلد ، وأطاعه المقدمون به ، واستنزلوا قومان من القلعة بعد أن صح عنده وفاة صاحبه مسعود ، وأعطوه ألف دينار ، فتسلم قتلغ القلعة في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين [ وخمسمائة ] ، فظهر منه بعد أيام جور شديد ، وظلم عظيم ، ومد يده إلى أموال الناس لا سيما التركات فإنه أخذها ، وتقرب إليه الأشرار ، فنفرت قلوب الناس منه .

            وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق الذي كان قديما صاحبها ، فأطاعه أهلها ، وقاموا ليلة الثلاثاء ثاني شوال فقبضوا على كل من كان بالبلد من أصحاب قتلغ أبه ، وكان أكثرهم يشربون في البلد صبحة العيد ، وزحفوا إلى القلعة ، فتحصن قتلغ أبه فيها بمن معه ، فحصروه ، ووصل إلى حلب حسان صاحب منبج وحسن صاحب بزاعة ; لإصلاح الأمر فلم ينصلح .

            وسمع الفرنج بذلك ، فتقدم جوسلين بعسكره إلى المدينة ، فصونع بمال ، فعاد عنها ، ثم وصل بعده صاحب أنطاكية في جمع من الفرنج ، فخندق الحلبيون حول القلعة ، فمنع الداخل والخارج إليها من ظاهر البلد ، وأشرف الناس على الخطر العظيم إلى منتصف ذي الحجة من السنة .

            وكان عماد الدولة قد ملك الموصل والجزيرة ، فسير إلى حلب الأمير سنقر دراز ، والأمير حسن قراقوش ، وهما من أكابر أمراء البرسقي ، وقد صاروا معه في عسكر قوي ، ومعه التوقيع من السلطان بالموصل والجزيرة والشام ، فاستقر الأمر أن يسير بدر الدولة بن عبد الجبار وقتلغ أبه إلى الموصل إلى عماد الدين ، فساروا إليه ، وأقام حسن قراقوش بحلب واليا عليها ولاية مستعارة ، فلما وصل بدر الدولة وقتلغ أبه إلى عماد الدين أصلح بينهما ، ولم يرد واحدا منهما إلى حلب ، وسير حاجبه صلاح الدين محمدا الياغسياني إليها في عسكر ، فصعد إلى القلعة ، ورتب الأمور ، وجعل فيها واليا .

            وسار عماد الدين زنكي إلى الشام في جيوشه وعساكره ، فملك في طريقه مدينة منبج وبزاعة ، وخرج أهل حلب إليه ، فالتقوه ، واستبشروا بقدومه ، ودخل البلد واستولى عليه ، ورتب أموره ، وأقطع أعماله الأجناد والأمراء ، فلما فرغ من الذي أراده قبض على قتلغ أبه ، وسلمه إلى ابن بديع ، فكحله بداره بحلب ، فمات قتلغ أبه ، واستوحش ابن بديع ، فهرب إلى قلعة جعبر ، واستجار بصاحبها فأجاره .

            وجعل عماد الدين في رئاسة حلب أبا الحسن علي بن عبد الرزاق ، ولولا أن الله تعالى من على المسلمين بملك أتابك ببلاد الشام ، ( لملكها الفرنج ; لأنهم كانوا يحصرون بعض البلاد الشامية ، وإذا ) علم ظهير الدين طغتكين بذلك جمع عساكره ، وقصد بلادهم وحصرها ، وأغار عليها ، فيضطر الفرنج إلى الرحيل لدفعه عن بلادهم ، فقدر الله تعالى أنه توفي هذه السنة ، فخلا لهم الشام من جميع جهاته من رجل يقوم بنصرة أهله ، فلطف الله بالمسلمين بولاية عماد الدين ، ففعل بالفرنج ما نذكره إن شاء الله تعالى .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية