الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر فتح عماد الدين زنكي حصن الأثارب وهزيمة الفرنج

            لما فرغ عماد الدين زنكي من أمر البلاد الشامية - حلب وأعمالها - ولما ملكه وقرر قواعده ، عاد إلى الموصل ، وديار الجزيرة ليستريح عسكره ، ثم أمرهم بالتجهز للغزاة ، فتجهزوا وأعدوا واستعدوا ، وعاد إلى الشام وقصد حلب ، فقوي عزمه على قصد حصن الأثارب ومحاصرته ; لشدة ضرره على المسلمين .

            وهذا الحصن بينه وبين حلب نحو ثلاثة فراسخ ، بينها وبين أنطاكية ، وكان من به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية ، حتى على رحى لأهل حلب بظاهر باب الجنان ، بينها وبين البلد عرض الطريق ، وكان أهل البلد معهم في ضر شديد وضيق ، كل يوم قد أغاروا عليهم ونهبوا أموالهم .

            فلما رأى الشهيد هذه الحال صمم العزم على حصر هذا الحصن ، فسار إليه ونازله .

            فلما علم الفرنج بذلك جمعوا فارسهم وراجلهم ، وعلموا أن هذه وقعة لها ما بعدها ، فحشدوا وجمعوا ، ولم يتركوا من طاقتهم شيئا إلا استنفدوه ، فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه ، فاستشار أصحابه فيما يفعل ، وكل أشار بالعود عن الحصن ، فإن لقاء الفرنج في بلادهم خطر لا يدرى على أي شيء تكون العاقبة ، فقال لهم : إن الفرنج متى رأونا قد عدنا من أيديهم طمعوا وساروا في أثرنا ، وخربوا بلادنا ، ولا بد من لقائهم على كل حال .

            ثم ترك الحصن وتقدم إليهم ، فالتقوا واصطفوا للقتال ، وصبر كل فريق لخصمه ، واشتد الأمر بينهم ، ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين ، فظفروا وانهزم الفرنج أقبح هزيمة ، ووقع كثير من فرسانهم في الأسر ، وقتل منهم خلق كثير ، وتقدم عماد الدين إلى عسكره بالإنجاز ، وقال : هذا أول مصاف عملناه معهم ، فلنذقهم من بأسنا ما يبقى رعبه في قلوبهم ، ففعلوا ما أمرهم ، ولقد اجتزت بتلك الأرض سنة أربع وثمانين وخمسمائة ليلا ، فقيل لي : إن كثيرا من العظام باق إلى ذلك الوقت .

            فلما فرغ المسلمون من ظفرهم عادوا إلى الحصن فتسلموه عنوة ، وقتلوا وأسروا كل من فيه ، وأخربه عماد الدين وجعله دكا ، وبقي إلى الآن خرابا ، ثم سار منه إلى قلعة حارم ، وهي بالقرب من أنطاكية ، فحصرها وهي أيضا للفرنج ، فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم وهادنوه ، فأجابهم إلى ذلك ، وعاد عنهم وقد استدار المسلمون بتلك الأعمال ، وضعفت قوى الكافرين ، وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن في حساب ، وصار قصاراهم حفظ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية