ذكر فتح عماد الدين زنكي حصن الأثارب وهزيمة الفرنج
لما فرغ عماد الدين زنكي من أمر البلاد الشامية - حلب وأعمالها - ولما ملكه وقرر قواعده ، عاد إلى الموصل ، وديار الجزيرة ليستريح عسكره ، ثم أمرهم بالتجهز للغزاة ، فتجهزوا وأعدوا واستعدوا ، وعاد إلى الشام وقصد حلب ، فقوي عزمه على قصد حصن الأثارب ومحاصرته ; لشدة ضرره على المسلمين .
وهذا الحصن بينه وبين حلب نحو ثلاثة فراسخ ، بينها وبين أنطاكية ، وكان من به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية ، حتى على رحى لأهل حلب بظاهر باب الجنان ، بينها وبين البلد عرض الطريق ، وكان أهل البلد معهم في ضر شديد وضيق ، كل يوم قد أغاروا عليهم ونهبوا أموالهم .
فلما رأى الشهيد هذه الحال صمم العزم على حصر هذا الحصن ، فسار إليه ونازله .
فلما علم الفرنج بذلك جمعوا فارسهم وراجلهم ، وعلموا أن هذه وقعة لها ما بعدها ، فحشدوا وجمعوا ، ولم يتركوا من طاقتهم شيئا إلا استنفدوه ، فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه ، فاستشار أصحابه فيما يفعل ، وكل أشار بالعود عن الحصن ، فإن لقاء الفرنج في بلادهم خطر لا يدرى على أي شيء تكون العاقبة ، فقال لهم : إن الفرنج متى رأونا قد عدنا من أيديهم طمعوا وساروا في أثرنا ، وخربوا بلادنا ، ولا بد من لقائهم على كل حال .
ثم ترك الحصن وتقدم إليهم ، فالتقوا واصطفوا للقتال ، وصبر كل فريق لخصمه ، واشتد الأمر بينهم ، ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين ، فظفروا وانهزم الفرنج أقبح هزيمة ، ووقع كثير من فرسانهم في الأسر ، وقتل منهم خلق كثير ، وتقدم عماد الدين إلى عسكره بالإنجاز ، وقال : هذا أول مصاف عملناه معهم ، فلنذقهم من بأسنا ما يبقى رعبه في قلوبهم ، ففعلوا ما أمرهم ، ولقد اجتزت بتلك الأرض سنة أربع وثمانين وخمسمائة ليلا ، فقيل لي : إن كثيرا من العظام باق إلى ذلك الوقت .
فلما فرغ المسلمون من ظفرهم عادوا إلى الحصن فتسلموه عنوة ، وقتلوا وأسروا كل من فيه ، وأخربه عماد الدين وجعله دكا ، وبقي إلى الآن خرابا ، ثم سار منه إلى قلعة حارم ، وهي بالقرب من أنطاكية ، فحصرها وهي أيضا للفرنج ، فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم وهادنوه ، فأجابهم إلى ذلك ، وعاد عنهم وقد استدار المسلمون بتلك الأعمال ، وضعفت قوى الكافرين ، وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن في حساب ، وصار قصاراهم حفظ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع .