الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            انهزام عسكر سيف الدين من صلاح الدين وحصره مدينة حلب

            ثم كر صلاح الدين راجعا إلى حلب فأناله الله في هذه الكرة ما طلب .

            وكتب إليهم القاضي الفاضل على لسان السلطان كتابا بليغا فصيحا رائقا فائقا على يدي الخطيب شمس الدين يقول فيه : فإذا قضى التسليم حق اللقاء ، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء فليعد وليعد حوادث ما كانت حديثا يفترى وجواري أمور إن قال فيها كثيرا ، فأكثر منه ما قد جرى ، وليشرح صدرا منها لعله يشرح منا صدرا ، وليوضح الأحوال المستسرة فإن الله لا يعبد سرا :


            ومن الغرائب أن تسير غرائب في الأرض لم يعلم بها المأمول     كالعيس أقتل ما يكون لها الصدى
            والماء فوق ظهورها محمول

            فإنا كنا نقتبس النار بأكفنا وغيرنا يستنير ، ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير ، ونلقى السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير ، ونصافح الصفاح بصدورنا وغيرنا يدعي التصدير ، ولابد أن نسترد بضاعتنا بموقف العدل الذي ترد به الغصوب ، وتظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسن كما أخذنا بحظ القلوب ، وكان أول أمرنا أنا كنا في الشام نفتح الفتوح مباشرين بأنفسنا ، ونجاهد الكفار متقدمين بعساكرنا ، نحن ووالدنا وعمنا ، فأي مدينة فتحت أو معقل ملك أو عسكر للعدو كسر أو مصاف للإسلام معه ضرب ولم نكن فيه ؟ فما يجهل أحد صنعنا ، ولا يجحد عدونا أنا نصطلي الجمرة ونملك الكرة ، ونتقدم الجماعة ونرتب المقاتلة ، وندبر التعبئة ، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها ، ولا يضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها . ثم ذكر ما صنعوا بمصر من كسر الكفر وإزالة المنكر وقمع الفرنج وهدم البدع التي كانت هنالك ، وما بسط من العدل ومد من الفضل ، وما أقامه من الخطب العباسية ببلاد مصر واليمن والنوبة وإفريقية ، وغير ذلك بكلام بسيط حسن .

            فلما وصلهم الكتاب أساءوا الجواب ، وقد كانوا كاتبوا صاحب الموصل سيف الدين غازي بن مودود أخي نور الدين محمود بن زنكي فبعث إليهم أخاه عز الدين في عساكره ، وأقبل عليهم في دساكره ، فانضاف إليهم الحلبيون وقصدوا حماة في غيبة الناصر واشتغاله بقلعة حمص وعمارتها ، فلما بلغه خبرهم سار إليهم في قل من الجيش فانتهى إليهم وهم في جحافل كثيرة ، فواقفوه وطمعوا فيه لقلة من معه ، وهموا بمناجزته فجعل يداريهم ويدعوهم إلى المصالحة لعل الجيش يلحقونه حتى قال لهم في جملة ما قال : أنا أقنع بدمشق وحدها ، وأقيم بها الخطبة للملك الصالح إسماعيل ، وأترك ما عداها من أرض الشام . فامتنع من المصالحة الخادم سعد الدين كمشتكين إلا أن يجعل لهم الرحبة التي هي بيد ابن عمه ناصر الدين بن أسد الدين ، فقال : ليس لي ذلك ، ولا أقدر عليه . فأبوا الصلح وأقدموا على القتال فجعل جيشه كردوسا واحدا ، وذلك يوم الأحد التاسع عشر من رمضان عند قرون حماة وصبر صبرا عظيما ، وجاءه في أثناء الحال ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه ومعه أخوه فروخشاه في طائفة من الجيش ، وقد ترجح دسته عليهم ، وخلص رعبه إليهم فولوا هنالك هاربين ، وتولوا منهزمين فأسر من أسر من رءوسهم ونادى أن لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ، ثم أطلق من وقع في أسره وسار على الفور إلى حلب وقد انعكس عليهم الحال ، وآلوا إلى شر مآل ; فبالأمس كان يطلب منهم المصالحة والمسالمة ، وهم اليوم يطلبون منه أن يكف عنهم ويرجع ، على أن المعرة وكفرطاب وبارين له زيادة على ما بيده من أراضي حماة وحمص وبعلبك مع دمشق فقبل ذلك ، وكف عنهم ، وحلف على أن لا يغزو بعدها الملك الصالح ، وأن يدعو له على سائر منابر بلاده ، وشفع في بني الداية أخوه مجد الدين أن يخرجوا من السجن ، ففعل ذلك ثم رجع مؤيدا منصورا مسلما محبورا .

            فلما كان بحماة وصلت إليه رسل الخليفة المستضيء بأمر الله ومعهم الخلع السنية والتشريفات العباسية والأعلام السود وتوقيع من الديوان بالسلطنة ببلاد مصر والشام ، وأفيضت الخلع على أهله وأقاربه وأصحابه وأصهاره وأعوانه وأنصاره ، وكان يوما مشهودا واستناب على حماة ابن خاله وصهره الأمير شهاب الدين محمودا ، ثم سار إلى حمص فأطلقها إلى ابن عمه ناصر الدين ، كما كانت من قبله لأبيه شيركوه أسد الدين ، ثم إلى بعلبك ثم إلى البقاع ورجع إلى دمشق في ذي القعدة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية