الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر عدة حوادث

            في سنة سبع وسبعين وخمسمائة كثرت المنكرات ببغداد فأقام حاجب الباب جماعة لإراقة الخمور ، وأخذ المفسدات ، فبينما امرأة منهن في موضع ، علمت بمجيء أصحاب حاجب الباب . فاضطجعت ، وأظهرت أنها مريضة ، وارتفع أنينها ، فرأوها على تلك الحال ، فتركوها وانصرفوا ، فاجتهدت بعدهم أن تقوم . فلم تقدر ، وجعلت تصيح : الكرب الكرب ، إلى أن ماتت . وهذا من أعجب ما يحكى .

            استهلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة والملك الناصر صلاح الدين مقيم بالقاهرة ، مواظب على سماع الأحاديث
            ، وجاء كتاب من نائبه بالشام عز الدين فروخشاه بما من الله تعالى به على الناس من كثرة ولادة النساء بالتوائم جبرا لما كان أصابهم في العام الماضي من الوباء والفناء ، وأن الشام مخصب بإذن الله ; جبرا لما كان أصابهم من الجدب والغلاء .

            وفي شوال توجه الملك صلاح الدين إلى الإسكندرية فشاهد ما أمر به من تحصين سورها وعمارة أبراجها وقصورها ، وسمع " موطأ الإمام مالك " على الشيخ أبي طاهر بن عوف ، عن الطرطوشي ، وسمع معه العماد الكاتب ، وأرسل القاضي الفاضل إلى السلطان رسالة يهنئه بهذا السماع ، والله تعالى أعلم . وفيها غدرت الفرنج ونقضوا عهودهم ، وقطعوا السبل على المسلمين برا وبحرا ، وسرا وجهرا ، فأمكن الله من بطسة عظيمة لهم فيها نحو من ألفين وخمسمائة نفس من رجالهم المعدودين فيهم ، ألقاها الموج إلى ثغر دمياط قبل خروج السلطان من مصر ، فأحيط بها فغرق بعضهم وحصل في الأسر نحو ألف وسبعمائة منهم ، ولله الحمد والمنة . وفيها سار قراقوش إلى بلاد إفريقية ، ففتح بلادا كثيرة ، وقاتل عسكر ابن عبد المؤمن ، واستفحل أمره هناك ، وهو من جملة مماليك تقي الدين عمر ابن أخي السلطان صلاح الدين ، ثم عاد إلى الديار المصرية ، فأمره السلطان بأن يتم السور المحيط بالقاهرة ومصر ، وذلك قبل خروجه منها في هذه السنة ، وكان ذلك آخر عهده بها حتى توفاه الله ، عز وجل ، بعد أن أراه الله مناه قبل حلول الوفاة ، فأقر عينه من أعداه ، وفتح على يده بيت المقدس وما حوله وما حواه ، ولما خيم بارزا من مصر ، أحضر أولاده حوله فجعل يشمهم ويقبلهم ويضمهم ، فأنشد بعضهم :


            تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار

            فكان الأمر كما قال ، لم يعد إلى مصر بعد هذا العام ، بل كان مقامه بالشام .

            وفي هذه السنة ولد للسلطان ولدان ; وهما المعظم تورانشاه ، والملك المحسن أحمد ، وكان بين ولادتهما سبعة أيام ، فزينت البلاد واستمر الفرح أربعة عشر يوما . في سنة سبع وسبعين: أرسل الملك الناصر يعاتب السلطان صلاح الدين في تسميته بالملك الناصر، مع علمه أن الخليفة اختار هذه التسمية لنفسه. ذكر تلبيس ينبغي أن يحتاط من مثله

            كان سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ الكناني ينوب عن شمس الدولة أخي صلاح الدين باليمن وتحكم في الأموال والبلاد بعد أن فارقها شمس الدولة ، كما ذكرنا ، وكان هواه بالشام لأنه وطنه ، فأرسل إلى شمس الدولة يطلب الإذن له في المجيء إليه ، فأذن له في المجيء ، فاستناب بزبيد أخاه حطان بن كامل بن منقذ الكناني ، وعاد إلى شمس الدولة ، وكان معه بمصر ، فمات شمس الدولة ، وبقي مع صلاح الدين فقيل عنه : إنه أخذ أموال اليمن وادخرها ، وسعى به أعداؤه ، فلم يعارضه صلاح الدين .

            فلما كان هذه السنة وصلاح الدين بمصر اصطنع سيف الدولة طعاما وعمل دعوة كبيرة . ودعا إليها أعيان الدولة الصلاحية بقرية تسمى العدوية ، وأرسل أصحابه يتجهزون من البلد ، ويشترون ما يحتاجون إليه من الأطعمة وغيرها ، فقيل لصلاح الدين إن ابن منقذ يريد الهرب ، وأصحابه يتزودون له ، ومتى دخل اليمن أخرجه عن طاعتك ، فأرسل صلاح الدين فأخذه والناس عنده وحبسه ، فلما سمع صلاح الدين جلية الحال علم أن الحيلة تمت لأعدائه في قبضه ، فخفف ما كان عنده عليه ، وسهل أمره وصانعه على ثمانين ألف دينار مصرية ، سوى ما لحقها من الحمل لإخوة صلاح الدين وأصحابه وأطلقه وأعاده إلى منزلته ، وكان أديبا شاعرا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية