الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب




            ملك صلاح الدين آمد وتسليمها إلى صاحب الحصن وذلك سنة تسع وسبعين وخمسمائة

            قد ذكرنا نزول صلاح الدين بحرزم ، تحت ماردين ، فلم ير لطمعه وجها ، وسار عنها إلى آمد ، على طريق البارعية ، وكان نور الدين محمد بن قرا أرسلان يطالبه في كل وقت بقصدها وأخذها وتسليمها إليه ، على ما استقرت القاعدة بينهما ، فوصل إلى آمد سابع عشر ذي الحجة من سنة ثمان وسبعين ونازلها ، وأقام يحاصرها .

            وكان المتولي لأمرها والحاكم فيها بهاء الدين بن نيسان ، وكان صاحبها ليس له من الأمر شيء مع ابن نيسان ، فلما نازلها صلاح الدين أساء ابن نيسان التدبير ، ولم يعط الناس من الذخائر شيئا ، ولا فرق فيهم دينارا ولا قوتا ، وقال لأهل البلد : قاتلوا عن نفوسكم . فقال له بعض أصحابه : ليس العدو بكافر حتى يقاتلوا عن نفوسهم . فلم يفعل شيئا . وقاتلهم صلاح الدين ، ونصب المجانيق ، وزحف إليها ، وهي الغاية في الحصانة والمنعة ، بها وبسورها يضرب المثل ، وابن نيسان على حاله من الشح بالمال ، وتصرفه تصرف من ولت سعادته وأدبرت دولته ، فلما رأى الناس ذلك منه تهاونوا بالقتال ، وجنحوا إلى السلامة .

            وكانت أيام ابن نيسان قد طالت ، وثقلت على أهل البلد لسوء صنيعهم وملكتهم وتضييقهم عليهم في مكاسبهم ، فالناس كارهون لها ، محبون لانقراضها . وأمر صلاح الدين أن يكتب على السهام إلى أهل البلد يعدهم الخير والإحسان إن أطاعوه ، ويتهددهم إن قاتلوه ، فزادهم ذلك تقاعدا وتخاذلا ، وأحبوا ملكه وتركوا القتال ، فوصل النقابون إلى السور ، فنقبوه وعلقوه ، فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك طمعوا في ابن نيسان واشتطوا في المطالب .

            فحين صارت الحال كذلك أخرج ابن نيسان نساءه إلى القاضي الفاضل ، وزير صلاح الدين ، يسأله أن يأخذ له الأمان ولأهله وماله ، وأن يؤخره ثلاثة أيام حتى ينقل ما له بالبلد من الأموال والذخائر ، فسعى له الفاضل في ذلك ، فأجابه صلاح الدين إليه ، فسلم البلد في العشر الأول من المحرم هذه السنة ، وأخرج خيمه إلى ظاهر البلد ، ورام نقل ماله ، فتعذر ذلك عليه لزوال حكمه عن أصحابه ، واطراحهم أمره ونهيه ، فأرسل إلى صلاح الدين يعرفه الحال ، ويسأله مساعدته على ذلك ، فأمده بالدواب والرجال ، فنقل البعض وسرق البعض وانقضت الأيام الثلاثة قبل الفراغ فمنع من الباقي .

            ولما تسلم السلطان البلد وجد فيه شيئا كثيرا من الحواصل وآلات الحرب والسلاح ، حتى إنه وجد برجا مملوءا بنصول النشاب ، وبرجا آخر فيه مائة ألف شمعة ، وأشياء يطول شرحها ، ووجد فيها خزانة كتب فيها ألف ألف مجلد ، وأربعون ألف مجلد ، فوهبها كلها للقاضي الفاضل ، فانتخب منها حمل سبعين حمارة . ثم وهب السلطان البلد بما فيه لنور الدين محمد بن قرا أرسلان - وكان قد وعده بها - فقيل له : فإن الحواصل لم تدخل في وعدك . فقال : لا أبخل بها عليه - وكان في خزانتها ثلاثة آلاف ألف دينار - وقد صار من أصحابنا وأنصارنا . فامتدحه الشعراء على هذا الصنيع الحسن الجميل ، وهو حقيق بالثناء والجزاء الجزيل ، ومن أحسن ما قاله بعضهم في ذلك من جملة قصيدة له في السلطان :


            قل للملوك تنحوا عن ممالككم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها

            التالي السابق


            الخدمات العلمية