الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فتح البيت المقدس  واستنقاذه من أيدي النصارى بعد اثنتين وتسعين سنة

            لما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها من البلاد ، على ما تقدم ، وكان قد أرسل إلى مصر أخرج الأسطول الذي بها في جمع من المقاتلة ، ومقدمهم حسام الدين لؤلؤ الحاجب ، وهو معروف بالشجاعة ، والشهامة ، ويمن النقيبة .

            فأقاموا في البحر يقطعون الطريق على الفرنج ، كلما رأوا لهم مركبا غنموه ، وشانيا أخذوه ، فحين وصل الأسطول وخلا سره من تلك الناحية سار عن عسقلان إلى البيت المقدس .

            وكان به البطرك المعظم عندهم ، وهو أعظم شأنا من ملكهم ، وبه أيضا باليان بن بيرزان ، صاحب الرملة ، وكانت مرتبته عندهم تقارب مرتبة الملك .

            وبه أيضا من خلص من فرسانهم من حطين ، وقد جمعوا وحشدوا ، واجتمع أهل تلك النواحي ، عسقلان وغيرها .

            فاجتمع به كثير من الخلق ، كلهم يرى الموت أيسر عليه من أن يملك المسلمون البيت المقدس ويأخذوه منهم ، ويرى أن بذل نفسه وماله وأولاده بعض ما يجب عليه من حفظه ، وحصنوه تلك الأيام بما وجدوا إليه سبيلا ، وصعدوا على سوره بحدهم وحديدهم ، مجمعين على حفظه والذب عنه بجهدهم وطاقتهم ، مظهرين العزم على المناضلة دونه بحسب استطاعتهم ، ونصبوا المجانيق على أسواره ليمنعوا من يريد الدنو منه والنزول عليه .

            ولما قرب صلاح الدين منه تقدم أمير في جماعة من أصحابه ، غير محتاط ولا حذر ، فلقيه جمع من الفرنج قد خرجوا من القدس ليكونوا يزكا ، فقاتلوه وقاتلهم ، فقتلوه وقتلوا جماعة ممن معه ، فأهم المسلمين قتله ، وفجعوا بفقده ، وساروا حتى نزلوا على القدس منتصف رجب .

            فلما نزلوا عليه رأى المسلمون على سوره من الرجال ما هالهم ، وسمعوا لأهله من الجلبة ، والضجيج من وسط المدينة ما استدلوا به على كثرة الجمع ، وبقي صلاح الدين خمسة أيام يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتله ، لأنه في غاية الحصانة والامتناع ، فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال ، نحو باب عمودا ، وكنيسة صهيون .

            فانتقل إلى هذه الناحية في العشرين من رجب ونزلها ، ونصب تلك الليلة المجانيق ، فأصبح من الغد وقد فرغ من نصبها ، ورمى بها .

            ونصب الفرنج على سور البلد مجانيق ورموا بها ، وقوتلوا أشد قتال رآه أحد من الناس ، كل واحد من الفريقين يرى ذلك دينا ، وحتما واجبا ، فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني بل كانوا يمنعون ولا يمتنعون ويزجرون ولا ينزجرون .

            وكان خيالة الفرنج كل يوم يخرجون إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون ، فيقتل من الفريقين ، وممن استشهد من المسلمين الأمير عز الدين عيسى بن مالك ، وهو من أكابر الأمراء وكان أبوه صاحب قلعة جعبر ، وكان يصطلي القتال بنفسه كل يوم ، فقتل إلى رحمة الله تعالى .

            وكان محبوبا إلى الخاص والعام ، فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم ذلك ، وأخذ من قلوبهم ، فحملوا حملة رجل واحد ، فأزالوا الفرنج عن مواقفهم فأدخلوهم بلدهم ، ووصل المسلمون إلى الخندق ، فجازوه والتصقوا إلى السور فنقبوه ، وزحف الرماة يحمونهم ، والمجانيق توالي الرمي لتكشف الفرنج عن الأسوار ليتمكن المسلمون من النقب ، فلما نقبوه حشوه بما جرت به العادة .

            اتفاق الفرنج على طلب الأمان وتسليم بيت المقدس فلما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين ، وتحكم المجانيق بالرمي المتدارك ، وتمكن النقابين من النقب ، وأنهم قد أشرفوا على الهلاك ، اجتمع مقدموهم يتشاورون فيما يأتون ويذرون ، فاتفق رأيهم على طلب الأمان ، وتسليم البيت المقدس إلى صلاح الدين .

            فأرسلوا جماعة من كبرائهم وأعيانهم في طلب الأمان ، فلما ذكروا ذلك للسلطان امتنع من إجابتهم ، وقال : لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ، من القتل والسبي وجزاء السيئة بمثلها .

            فلما رجع الرسل خائبين محرومين ، أرسل باليان بن بيرزان وطلب لنفسه ليحضر عند صلاح الدين في هذا الأمر وتحريره ، فأجيب إلى ذلك ، وحضر عنده ، ورغب في الأمان ، وسأل فيه ، فلم يجبه إلى ذلك ، واستعطفه فلم يعطف عليه ، واسترحمه فلم يرحمه .

            فلما أيس من ذلك قال له : أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله تعالى ، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ، ظنا منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم ، وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة .

            فإذا رأينا أن الموت لا بد منه ، فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ونحرق أموالنا وأمتعتنا ، ولا نترككم تغنمون منها دينارا واحدا ولا درهما ، ولا تسبون وتأسرون رجلا ولا امرأة .

            وإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما من المواضع ، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين ، وهم خمسة آلاف أسير ، ولا نترك لنا دابة ولا حيوانا إلا قتلناه ، ثم خرجنا إليكم كلنا فقاتلناكم قتال من يريد [ أن ] يحمي دمه ونفسه ، وحينئذ لا يقتل الرجل حتى يقتل أمثاله ، ونموت أعزاء أو نظفر كراما .

            فاستشار صلاح الدين أصحابه . فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان ، وأن لا يخرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدرى عاقبة الأمر فيه عن أي شيء تنجلي ، ونحسب أنهم أسارى بأيدينا ، فنبيعهم نفوسهم بما يستقر بيننا وبينهم ، فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج .

            فاستقر أن يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير ، ويزن الطفل من الذكور والبنات دينارين ، وتزن المرأة خمسة دنانير ، فمن أدى ذلك إلى أربعين يوما فقد نجا ، ومن انقضت الأربعون يوما عنه ولم يؤد ما عليه فقد صار مملوكا ، فبذل باليان بن بيرزان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار ، فأجيب إلى ذلك .

            وسلمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب ، وكان يوما مشهودا ، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوارها .

            ورتب صلاح الدين على أبواب البلد ، في كل باب ، أمينا من الأمراء ليأخذوا من أهله ما استقر عليهم ، فاستعملوا الخيانة ، ولم يؤدوا فيه أمانة ، واقتسم الأمناء الأموال ، وتفرقت أيدي سبا ، ولو أديت فيه الأمانة لملأ الخزائن ، وعم الناس .

            فإنه كان فيه على الضبط ستون ألف رجل ما بين فارس وراجل سوى من يتبعهم من النساء والولدان ، ولا يعجب السامع من ذلك ، فإن البلد كبير ، واجتمع إليه من تلك النواحي من عسقلان وغيرها ، والداروم ، والرملة ، وغزة وغيرها من القرى ، بحيث امتلأت الطرق والكنائس ، وكان الإنسان لا يقدر أن يمشي .

            ومن الدليل على كثرة الخلق أن أكثرهم وزن ما استقر من القطيعة ، وأطلق باليان بن بيرزان ثمانية عشر ألف رجل وزن عنهم ثلاثين ألف دينار ، وبقي بعد هذا جميعه من لم يكن معه ما يعطي ، وأخذ أسيرا ستة عشر ألف آدمي ما بين رجل وامرأة وصبي ، هذا بالضبط واليقين .

            ثم إن جماعة من الأمراء ادعى كل واحد منهم أن جماعة من رعية إقطاعه مقيمون بالبيت المقدس ، فيطلقهم ويأخذ هو قطيعتهم ، وكان جماعة من الأمراء يلبسون الفرنج زي الجند المسلمين ، ويخرجونهم ، ويأخذون منهم قطيعة قرروها ، واستوهب جماعة من صلاح الدين عددا من الفرنج ، فوهبهم لهم ، فأخذوا قطيعتهم ، وبالجملة فلم يصل إلى خزائنه إلا القليل .

            وكان بالقدس بعض نساء الملوك من الروم قد ترهبت وأقامت به ، ومعها من الحشم والعبيد والجواري خلق كثير ، ولها من الأموال والجواهر النفيسة شيء عظيم ، فطلبت الأمان لنفسها ومن معها ، فأمنها وسيرها .

            وكذلك أيضا أطلق ملكة القدس التي كان زوجها الذي أسره صلاح الدين قد ملك الفرنج بسببها ، ونيابة عنها كان يقوم بالملك ، وأطلق مالها وحشمها ، واستأذنته في المصير إلى زوجها ، وكان حينئذ محبوسا بقلعة نابلس ، فأذن لها ، فأتته وأقامت عنده .

            وأتته أيضا امرأة للبرنس أرناط صاحب الكرك ، وهو الذي قتله صلاح الدين بيده يوم المصاف بحطين ، فشفعت في ولد لها مأسور ، فقال لها صلاح الدين : إن سلمت الكرك أطلقته ، فسارت إلى الكرك ، فلم يسمع منها الفرنج الذي فيه ، ولم يسلموه فلم يطلق ولدها ، ولكنه أطلق ما لها ومن تبعها .

            وخرج البطرك الكبير الذي للفرنج ، ومعه من أموال البيع منها : الصخرة والأقصى ، وقمامة وغيرها ، ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وكان له من المال مثل ذلك ، فلم يعرض له صلاح الدين ، فقيل له ليأخذ ما معه يقوي به المسلمين ، فقال : لا أغدر به ، ولم يأخذ منه غير عشرة دنانير ، وسير الجميع ومعهم من يحميهم إلى مدينة صور .

            وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب ، فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلق جماعة منهم إلى أعلى القبة ليقلعوا الصليب ، فلما فعلوا وسقط صاح الناس كلهم صوتا واحدا من البلد ومن ظاهره المسلمون والفرنج : أما المسلمون فكبروا فرحا ، وأما الفرنج فصاحوا تفجعا وتوجعا ، فسمع الناس ضجة كادت الأرض أن تميد بهم لعظمها وشدتها .

            فلما ملك البلد وفارقه الكفار أمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم ، فإن الداوية بنوا غربي الأقصى أبنية ليسكنوها ، وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هري ومستراح وغير ذلك ، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم فأعيد إلى الأول ، وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس ، ففعل ذلك أجمع .

            نكتة غريبة نكتة غريبة

            قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في " الروضتين " : وقد تكلم شيخنا أبو الحسن علي بن محمد السخاوي في تفسيره الأول ، فقال : وقع في تفسير أبي الحكم الأندلسي - يعني ابن برجان - في أول سورة الروم إخبار عن فتح بيت المقدس وأنه ينزع من أيدي النصارى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة   . قال السخاوي : ولم أره أخذ ذلك من علم الحروف ، وإنما أخذه فيما يزعم من قوله الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين [ الروم : 1 ، 2 ] فبنى الأمر على التاريخ كما يفعل المنجمون ، ثم ذكر أنهم يغلبون في سنة كذا ، ويغلبون في سنة كذا ، على ما تقتضيه دوائر التقدير . ثم قال : وهذه نجامة وافقت إصابة ، إن صح أنه قال ذلك قبل وقوعه ، وكان في كتابه قبل حدوثه ، قال : وليس هذا من قبيل علم الحروف ، ولا من باب الكرامات ; لأنها لا تنال بحساب . قال : وقد ذكر في تفسير سورة القدر أنه لو علم الوقت الذي نزل فيه القرآن لعلم الوقت الذي يرفع فيه .

            قلت : ابن برجان ذكر هذا في تفسيره في حدود سنة ثنتين وعشرين وخمسمائة ، ويقال : إن الملك نور الدين أوقف على ذلك فطمع أن يعيش إلى سنة ثلاث وثمانين ; لأن مولده في سنة إحدى عشرة وخمسمائة ، فتهيأ لأسباب ذلك حتى إنه أعد منبرا عظيما لبيت المقدس إذا فتحه الله على يديه . والله أعلم .

            وأما الصخرة العظيمة فإن السلطان أزال ما حولها وعندها من المنكرات والصور والصلبان ، وأظهرها بعدما كانت خفية مستورة غير مرئية ، وأمر الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري أن يعمل حولها شبابيك من حديد ، ورتب لها إماما راتبا ، ووقف عليه رزقا جيدا ، وكذلك على إمام محراب الأقصى ، وعمل للشافعية المدرسة الصلاحية ويقال لها : الناصرية . أيضا ، وكان موضعها كنيسة على صند حنة أي قبر حنة أم مريم ، عليها السلام ، ووقف على الصوفية رباطا كان دارا للتبرك إلى جنب القمامة ، وأجرى على الفقهاء والفقراء الجامكيات والجرايات ، وأرصد الختمات والربعات في أرجاء المسجد الأقصى ، لمن يقرأ أو ينظر فيها من المقيمين والزائرين .

            وتنافس بنو أيوب فيما يفعلونه من الخيرات بالقدس الشريف للقادمين والظاعنين والقاطنين ، فجزاهم الله خيرا أجمعين ، وعزم السلطان على هدم قمامة وجعلها دكا لتنحسم مادة النصارى من بيت المقدس فقيل له : إن هؤلاء لا يتركون الحج إلى هذه البقعة ، ولو تركتها قاعا صفصفا ، وقد فتح هذه البلد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وترك هذه الكنيسة بأيديهم ، فلك في ذلك أسوة . فأعرض عنها وتركها على حالها تأسيا بعمر بن الخطاب أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ، وقال في ذلك محمد بن أسعد النسابة:


            أترى مناما ما بعيني أبصر القدس يفتح، والنصارى تكسر؟     وقمامة قمت من الرجس الذي
            بزواله وزوالها يتطهر     ومليكهم في القيد مصفود ولم
            ير قبل ذاك لهم مليك يؤسر     قد جاء نصر الله والفتح الذي
            وعد الرسول فسبحوا واستغفروا     يا يوسف الصديق أنت لفتحها
            فاروقها عمر الإمام الأطهر

            ولم يترك بها من النصارى سوى أربعة يخدمونها ، وحال بين النصارى وبينها ، وهدم المقابر التي كانت لهم عند باب الرحمة ، وعفى آثارها ، وهدم ما كان هناك من القباب وعجل دمارها .

            وأما أسارى المسلمين الذين كانوا بالقدس ; فإن السلطان أطلقهم ، وأطلق لهم إعطاءات هنية ، وكساهم حللا سنية ، وانطلق كل منهم إلى وطنه ، وعاد إلى أهله وسكنه ، فلله الحمد على نعمه ومننه .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية