الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            أول جمعة أقيمت ببيت المقدس بعد فتحه في الدولة الصلاحية

             لما نزه البيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس ، والرهبان والخنازير والقساقيس ، ودخله أهل الإيمان ، ونودي بالأذان وهرب الشيطان وقرئ القرآن ، وطهر المكان ، فكان إقامة أول جمعة فيه في اليوم الرابع من شعبان ، بعد يوم الفتح بثمان ، فنصب المنبر إلى جانب المحراب المطهر ، وبسطت البسط الرفيعة في تلك العراص الوسيعة ، وعلقت القناديل وتلي التنزيل عوضا عما كان يقرأ من التحريف في الإنجيل ، وجاء الحق وبطلت تلك الأباطيل ، وصفت السجادات وكثرت السجدات ، وتنوعت العبادات ، وأديمت الدعوات ، ونزلت البركات ، وانجلت الكربات ، وأقيمت الصلوات ، ونطق الأذان ، وخرس الناقوس ، وحضر المؤذنون وغاب القسوس ، وطابت الأنفاس ، واطمأنت النفوس ، وأقبلت السعود وأدبرت النحوس ، وحضر العباد والزهاد والأبدال والأقطاب والأوتاد ، وعبد الواحد ، وكثر الراكع والساجد ، والقائم والقاعد ، وامتلأ الجامع ، وسالت لرقة القلوب المدامع ، وقال الناس : هذا يوم كريم وفضل عظيم وموسم وسيم ، وهذا يوم تجاب فيه الدعوات وتصب البركات وتسيل العبرات وتقال العثرات ، فأذن المؤذنون للصلاة وقت الزوال ، وكادت القلوب تطير من الفرح بتلك الحال ، ولم يكن السلطان إلى تلك الساعة عين خطيبا ، وقد تهيأ لها خلق من العلماء خوفا أن يدعي إليها أحدهم فلا يكون نجيبا ، فبرز للخطباء المرسوم السلطاني الصلاحي ، وهو في قبة الصخرة الغراء ، أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيبا ، فلبس الخلعة السوداء وصعد المنبر ، وقد كساه الله البهاء ، وأكرمه بكلمة التقوى وأعطاه السكينة والوقار والسناء ، فخطب بالناس خطبة عظيمة سنية فصيحة بليغة ، ذكر فيها شرف البيت المقدس ، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات ، وما فيه من الدلائل والأمارات ، وما من الله به على الحاضرين من هذه النعمة التي تعدل الكثير من القربات ، وقد أوردها الشيخ شهاب الدين أبو شامة في " الروضتين " بطولها ، فكان أول ما قال حين تكلم : فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ثم أورد تحميدات القرآن كلها ، ثم قال : الحمد لله معز الإسلام بنصره ، ومذل الشرك بقهره ، ومصرف الأمور بأمره ، ومديم النعم بشكره ، ومستدرج الكافرين بمكره ، الذي قدر الأيام دولا بعدله ، وجعل العاقبة للمتقين بفضله ، وأفاء على عباده من ظله ، وأظهر دينه على الدين كله ، القاهر فوق عباده فلا يمانع ، والظاهر على خليقته فلا ينازع ، والآمر بما يشاء فلا يراجع ، والحاكم بما يريد فلا يدافع ، أحمده على إظفاره وإظهاره ، وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره ، وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره ، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد شهادة من طهر بالتوحيد قلبه ، وأرضى به ربه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، رافع الشك وداحض الشرك ، وراحض الإفك ، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى ، وعرج به منه إلى السماوات العلا ، إلى سدرة المنتهى ، عندها جنة المأوى ، إذ يغشى السدرة ما يغشى ، ما زاغ البصر وما طغى ، صلى الله عليه وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان ، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان ، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن ، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ، ومكسر الأوثان ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان .

            ثم ذكر الموعظة ، وهي مشتملة على تغبيط الحاضرين على ما يسره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس الذي من شأنه كذا وكذا ، فذكر فضائله ومآثره ، وأنه أول القبلتين ، وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه ، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام ، وصلى فيه بالملائكة المقربين والأنبياء والرسل الكرام ، ومنه كان المعراج إلى السماوات ، ثم عاد إليه ، ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق ، وهو أرض المحشر والمنشر يوم التلاق ، وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء ، وقد أسس على التقوى من أول يوم .

            قلت : ويقال : إن الذي أسسه أولا يعقوب عليه السلام بعد أن بنى الخليل عليه السلام المسجد الحرام بأربعين سنة . كما جاء في " الصحيحين " ، ثم جدد بناءه سليمان بن داود عليهما السلام ، كما ثبت به الحديث في " المسند " و " السنن " ، و " صحيح ابن خزيمة " ، وابن حبان والحاكم وغيرهم ، وسأل سليمان عليه السلام الله عند فراغه منه خلالا ثلاثا ; حكما يصادف حكمه ، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وأنه لا يأتي أحد هذا المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه .

            وذكر الخطيب تمام الخطبتين ، ودعا للخليفة العباسي ، ثم للسلطان الملك الناصر صلاح الدين ، رحمهما الله تعالى ، وبعد الصلاة جلس الشيخ زين الدين أبو الحسن علي بن نجا المصري على كرسي الوعظ بإذن السلطان ، فوعظ الناس وكان وقتا مشهودا وحالا محمودا ، فلله الحمد والمنة . واستمر القاضي محيي الدين بن الزكي يخطب بالناس في أيام الجمع أربع جمعات ، ثم قرر السلطان للقدس خطيبا وإماما برسم الصلوات الخمس .

            وأمر أن يعمل له منبر ، فقيل له : إن نور الدين محمودا كان قد عمل بحلب منبرا أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه ، وقال : هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس ، فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله ، فأمر بإحضاره ، فحمل من حلب ونصب بالقدس ، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة ، وكان هذا من كرامات نور الدين ، وحسن مقاصده ، رحمه الله .

            ولما فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعة تقدم بعمارة المسجد الأقصى واستنفاد الوسع في تحسينه وترصيفه ، وتدقيق نقوشه ، فأحضروا من الرخام الذي لا يوجد مثله ، ومن الفص المذهب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، قد ادخر على طول السنين .

            فشرعوا في عمارته ، ومحوا ما كان في تلك الأبنية من الصور ، وكان الفرنج فرشوا الرخام فوق الصخرة وغيبوها ، فأمر بكشفها .

            وكان سبب تغطيتها بالفرش أن القسيسين باعوا كثيرا منها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة ، فكانوا يشترونه بوزنه ذهبا رجاء بركتها ، وكان أحدهم إذا دخل بلاده باليسير منها بنى له الكنيسة ، ويجعل في مذبحها ، فخاف بعض ملوكهم أن تفنى ، فأمر بها ففرش فوقها حفظا لها .

            فلما كشفت نقل إليها صلاح الدين المصاحف الحسنة ، والربعات الجيدة ، ورتب القراء ، وأدر عليهم الوظائف الكثيرة ، فعاد الإسلام هناك غضا طريا ، وهذه المكرمة من فتح البيت المقدس لم يفعلها بعد عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، غير صلاح الدين ، رحمه الله ، وكفاه ذلك فخرا وشرفا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية