الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وصول الفرنج من الغرب في البحر إلى عكا

            وفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة وصلت أمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج الذين على عكا ، وقد استكمل دخول البدل إلى البلد والملك العادل مخيم إلى جانب البحر ليتكامل دخولهم ودخول ميرتهم - لطف الله بهم - وفي ليلة مستهل ربيع الأول خرج المسلمون من عكا فهجموا على مخيم الفرنج فقتلوا منهم خلقا كثيرا وسبوا ونهبوا شيئا كثيرا سبوا اثنتي عشرة امرأة وانكسر مركب عظيم للفرنج فغرق فيه خلق منهم وأسر باقيهم وأغار صاحب حمص أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن شيركوه على سرح الفرنج بأراضي طرابلس فاستاق منهم شيئا كثيرا من الخيول والأبقار والأغنام وظفر اليزك بخلق كثير من الفرنج فقتلوهم ولم يقتل من المسلمين سوى طواشي صغير عثر به فرسه وفي ثاني عشر ربيع الأول وصل الملك فليب ، ملك إفرنسيس ، وهو من أشرف ملوكهم نسبا ، وإن كان ملكه ليس بالكثير وكان وصوله إليها ثاني عشر ربيع الأول ، ولم يكن في الكثرة التي ظنوها ، وإنما كان معه ست بطس كبار عظام ، ملعونة مشحونة بعبدة الصليب وحين وصل إليهم وقدم عليهم لم يبق لأحد من ملوكهم معه كلام ولا حكم لعظمته عندهم وقدم معه باز عظيم أبيض وهو الباز الأشهب الهائل فطار من يده فسقط على سور عكا فأمسكه أهلها وبعثوا به إلى السلطان فبذل الفرنج فيه ألف دينار فلم يجابوا وقويت به نفوس من كان على عكا منهم ولجوا في قتال المسلمين الذين فيها .

            وكان صلاح الدين على شفرعم ، فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال عن مزاحفة البلد وأرسل إلى الأمير أسامة ، مستحفظ بيروت ، يأمره بتجهيز ما عنده من الشواني والمراكب وتشحينها بالمقاتلة ، وتسييرها في البحر ليمنع الفرنج من الخروج إلى عكا ، ففعل ذلك .

            وسير الشواني في البحر ، فصادفت خمسة مراكب مملوءة رجالا من أصحاب ملك إنكلتار الفرنج ، كان قد سيرهم بين يديه ، وتأخر هو بجزيرة قبرس ، ليملكها ، فأقبلت شواني المسلمين مع مراكب الفرنج ، فاستظهر المسلمون عليهم ، وأخذوهم ، وغنموا ما معهم من قوت ومتاع ومال وأسروا الرجال .

            وكتب أيضا صلاح الدين إلى من بالقرب من النواب له يأمرهم بمثل ذلك ففعلوا .

            وأما الفرنج الذين على عكا ، فإنهم لازموا قتال من بها ونصبوا عليها سبعة مجانيق رابع جمادى الأولى ، [ فلما رأى صلاح الدين ذلك تحول من شفرعم ، ونزل عليهم لئلا يتعب كل العسكر كل يوم في المجيء إليهم والعود عنهم ، فقرب منهم . وكانوا كلما تحركوا للقتال ركب وقاتلهم من وراء خندقهم ، فكانوا يشتغلون بقتالهم ، فيخف القتال عمن بالبلد .

            ثم وصل ملك إنكلتار ثالث عشر جمادى الأولى ] . وكان قد استولى في طريقه على جزيرة قبرس ، وأخذها من الروم ، فإنه لما وصل إليها غدر بصاحبها وملكها جميعا : فكان ذلك زيادة في ملكه وقوة للفرنج ، فلما فرغ منها سار عنها إلى من على عكا من الفرنج فوصل إليهم في خمس وعشرين قطعة كبارا مملوءة رجالا وأموالا فعظم به شر الفرنج ، واشتدت نكايتهم في المسلمين .

            وكان رجل زمانه شجاعة ومكرا وجلدا وصبرا وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها .

            ولما وردت الأخبار بوصوله أمر صلاح الدين بتجهيز بطسة كبيرة مملوءة من الرجال والعدة والقوت ، فجهزت وسيرت من بيروت ، وفيها سبعمائة مقاتل ، فلقيها ملك إنكلتار مصادفة ، فقاتلها ، وصبر من فيها على قتالها فلما أيسوا من الخلاص نزل مقدم من بها إلى أسفلها ، وهو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية ، يعرف بغلام ابن شقتين ، فخرقها خرقا واسعا لئلا يظفر الفرنج بمن فيها وما معهم من الذخائر ، فغرق جميع ما فيها .

            وكانت عكا محتاجة إلى رجال لما ذكرناه من سبب نقصهم ، ثم إن الفرنج عملوا دبابات وزحفوا بها [ فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها ، ثم عملوا كباشا وزحفوا بها ] فخرج المسلمون وقاتلوهم بظاهر البلد وأخذوا تلك الكباش .

            فلما رأى الفرنج أن ذلك جميعه لا ينفعهم عملوا تلا كبيرا من التراب مستطيلا . وما زالوا يقربونه إلى البلد ويقاتلون من ورائه لا ينالهم من البلد أذى . حتى صار على نصف علوه ، فكانوا يستظلون به ، ويقاتلون من خلفه فلم يكن للمسلمين فيه حيلة لا بالنار ولا بغيرها

            فحينئذ عظمت المصيبة على من بعكا من المسلمين ، فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه حالهم ، فلم يقدر لهم على نفع . قال العماد : وقد كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام الفرنج فيسرقون حتى إنهم يسرقون الرجال فاتفق أن بعضهم أخذ صبيا رضيعا من مهده ابن ثلاثة أشهر فوجدت عليه أمه وجدا عظيما ، واشتكت إلى ملوكهم فقالوا لها : إن سلطان المسلمين رحيم القلب ، وقد أذنا لك أن تذهبي إليه فتشتكي أمرك إليه . قال العماد : فجاءت إلى السلطان وأنا واقف معه فبكت بكاء شديدا وجعلت تمرغ وجهها على الأرض فسألها عن أمرها . فأنهت إليه حالها فرق لها رقة شديدة حتى دمعت عينه ، فأمر بإحضار ولدها فإذا هو قد بيع في السوق ، فرسم بدفع ثمنه إلى المشتري ولم يزل واقفا حتى جيء بالغلام ، فأخذته أمه وأرضعته ساعة وهي تبكي من شدة فرحها وشوقها إليه ، ثم أمر بحملها إلى قومها على فرس مكرمة رحمه الله تعالى وبل بالرأفة ثراه .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية