وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم، وقد يجيء بعد ضمير المخاطب كبك الله نرجو الفضل، وقيل : هؤلاء تأكيد لغوي لأنتم، فهو إما بدل منه، أو عطف بيان عليه، وجعله من التأكيد اللفظي بالمرادف توهم، والكلام على هذا خال عن تلك النكتة، وقيل : هؤلاء بمعنى الذين، والجملة صلته، والمجموع هو الخبر، وهذا مبني على مذهب الكوفيين، حيث جوزوا كون جميع أسماء الإشارة موصولة، سواء كانت بعد (ما) أو لا، والبصريون يخصونه إذا وقعت بعد (ما) الاستفهامية، وهو المصحح على أن الكلام يصير حينئذ من قبيل:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
وهو ضعيف كما قاله ، وقرأ الشهاب (تقتلون) على التكثير، وفي تفسير المهدوي أنها قراءة أبي نهيك، الحسن وتخرجون فريقا منكم من ديارهم عطف على ما قبله، وضمير ديارهم للفريق، وإيثار الغيبة مع جواز دياركم كما في الأول للاحتراز عن توهم كون المراد إخراجهم من ديار المخاطبين، من حيث ديارهم لا ديار المخرجين، تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان حال من فاعل تخرجون أو من مفعوله، قيل : أو من كليهما، لأنه لاشتماله على ضمير هما يبين هيئتهما، والمعنى على الأول تخرجون متظاهرين عليهم، وعلى الثاني تخرجون فريقا متظاهرا عليهم، وعلى الثالث تخرجون واقعا التظاهر منهم عليهم، والتظاهر التعاون، وأصله من الظهر كأن المتعاونين يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه، والإثم الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم واللوم، وقيل : ما تنفر منه النفس، ولا يطمئن إليه القلب، وفي الحديث: وهو متعلق بتظاهرون حال من فاعله، أي متلبسين بالإثم، وكونه هنا مجازا عما يوجبه من إطلاق المسبب على سببه كما سميت الخمر إثما في قوله : (الإثم ما حاك في صدرك)
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول
مما يدعو إليه داع، والعدوان تجاوز الحد في الظلم، وقرأ عاصم وحمزة (تظاهرون) بتخفيف الظاء وأصله بتاءين حذفت ثانيتهما عند والكسائي أبي حيان، وأولاهما عند هاشم، وقرأ باقي السبعة بالتشديد، على إدغام التاء في الظاء، وأبو حيوة (تظاهرون) بضم التاء، وكسر الهاء، ومجاهد باختلاف عنهما (تظهرون) بفتح التاء والظاء والهاء مشددتين، دون ألف، ورويت عن وقتادة أيضا، وبعضهم (تتظاهرون) على الأصل. أبي عمرووإن يأتوكم أسارى تفادوهم أي تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء، وقرأ ، ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة (تفدوهم) وعليه حمل بعض قراءة الباقين، إذ لا مفاعلة، وفرق جمع بين فادى وفدى، بأن معنى الأول بادل أسيرا بأسير، والثاني جمع الفداء، ويعكر عليه قول وابن عامر رضي الله تعالى عنه (فاديت نفسي، وفاديت العباس عقيلا) إذ من المعلوم إنه ما بادل أسيرا بأسير، وقيل : تفادوهم بالعنف، وتفدوهم بالصلح، وقيل : تفادوهم تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم، ومنه قوله :
قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك لا أرى لهم احتفالا
وهو محرم عليكم إخراجهم حال من فاعل " تخرجون فريقا منكم " أو مفعوله بعد اعتبار التقييد بالحال السابقة، وقوله تعالى : وإن يأتوكم اعتراض بينهما لا معطوف على تظاهرون لأن الإتيان لم يكن مقارنا للإخراج، وقيد الإخراج بهذه الحال لإفادة أنه لم يكن عن استحقاق ومعصية موجبة له، وتخصيصه بالتقييد دون القتل للاهتمام بشأنه لكونه أشد منه، والفتنة أشد من القتل وقيل : لا بل لكونه أقل خطرا بالنسبة إلى القتل ، فكان مظنة التساهل، ولأن مساق الكلام لذمهم، وتوبيخهم على جناياتهم، وتناقض أفعالهم، وذلك مختص بصورة الإخراج إذ لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية، أو قصاص، وهو السر في تخصيص التظاهر فيما سبق، وقيل : النكتة في إعادة تحريم الإخراج، وقد أفاده ولا تخرجون أنفسكم بأبلغ وجه، وفي تخصيص تحريم الإخراج بالإعادة دون القتل أنهم امتثلوا حكما في باب المخرج، وهو الفداء، وخالفوا حكما، وهو الإخراج، فجمع مع الفداء حرمة الإخراج ليتصل به، أفتؤمنون إلخ أشد اتصال، ويتضح كفرهم بالبعض، وإيمانهم بالبعض كمال اتضاح، حيث وقع في حق شخص واحد، والضمير للشأن، والجملة بعده خبره، وقيل : خبره (محرم)، وإخراجهم نائب فاعل، وهو مذهب الكوفيين، وتبعهم المهدوي، وإنما ارتكبوه لأن الخبر المتحمل ضميرا مرفوعا لا يجوز تقديمه على المبتدإ، فلا يجيزون (قائم زيد) على أن يكون قائم خبرا مقدما، والبصريون يجوزون ذلك، ويجيزون هذا الوجه لأن ضمير الشأن لا يخبر عنه عندهم إلا بجملة مصرح بجزأيها، وقيل : إنه ضمير مبهم مبتدأ أيضا، (ومحرم) خبره، (وإخراجهم) بدل منه مفسر له، وهذا بناء على جواز إبدال الظاهر من الضمير الذي لم يسبق ما يعود إليه، ومنهم من منعه، وأجازه الكسائي وقيل : راجع إلى الإخراج المفهوم من تخرجون (وإخراجهم) عطف بيان له، أو بدل منه، أو من ضمير (محرم)، وضعف بأنه بعد عوده إلى الإخراج لا وجه لإبداله منه، ومن الغريب ما نقل عن الكوفيين أنه يحتمل أن يكون هو ضمير فصل، وقد تقدم مع الخبر، والتقدير: وإخراجهم هو محرم عليكم، فلما قدم خبر المبتدإ عليه قدم هو معه، ولا يجوزه البصريون، لأن وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لتقارب المعرفة لا يجوز عندهم، وتوسطه بين المبتدإ والخبر أو بين ما هما أصله شرط عندهم أيضا، ولابن عطية في هذا الضمير كلام يجب إضماره، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض عطف على تقتلون أو على محذوف، أي أتفعلون ما ذكر فتؤمنون إلخ، والاستفهام للتهديد والتوبيخ على التفريق بين أحكام الله تعالى، إذ العهد كان بثلاثة أشياء، ترك القتل، وترك الإخراج، ومفاداة الأسارى، فقتلوا، وأخرجوا على خلاف العهد، وفدوا بمقتضاه، وقيل : المواثيق أربعة، فزيد ترك المظاهرة، وقد أخرج عن ابن جرير أن أبي العالية مر على رأس [ ص: 314 ] الجالوت عبد الله بن سلام بالكوفة ، وهو يفادي من النساء ما لم يقع عليه العرب ، ولا يفادي من وقع عليه العرب ، فقال له : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن فادوهن كلهن، وروى عبد الله بن سلام محيي السنة عن أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا، ويخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه فأعتقوه، ولعل كفرهم بما ارتكبوا لاعتقادهم عدم الحرمة مع دلالة صريح التوراة عليها، لكن ما في الكشاف من أنه قيل لهم : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟! فقالوا : أمرنا بالفداء، وحرم علينا القتال، لكنا نستحي من حلفائنا يدل على أنهم لا ينكرون حرمة القتال، فإطلاق الكفر حينئذ على فعل ما حرم إما لأنه كان في شرعهم كفرا، أو أنه للتغليظ كما أطلق على ترك الصلاة ونحوه ذلك في شرعنا، والقول بأن المعنى أتستعملون البعض وتتركون البعض، فالكلام محمول على المجاز بهذا الاعتبار لا اعتبار به، كالقول بأن المراد بالبعض المؤمن به نبوة السدي موسى عليه السلام، والبعض الآخر نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم.
فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض، أو إلى ما فعلوه من القتل والإجلاء مع مفاداة الأسارى، والجزاء المقابلة، ويطلق في الخير والشر، والخزي الهوان، والماضي خزي بالكسر، وقال ابن السكيت : معنى خزي وقع في بلية، وخزي الرجل خزاية إذا استحى، وهو خزيان، وقوم خزايا، وبه هنا الفضيحة والعقوبة، أو ضرب الجزية غابر الدهر، أو غلبة العدو، أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحاء وأذرعات.
وقد روي عن رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ابن عباس بني قريظة القتل، وعادة بني النضير الإخراج، فلما غلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أجلى بني النضير، وقتل رجال قريظة، وأسر نساءهم وأطفالهم)، وتنكير الخزي للإيذان بفظاعة شأنه، وأنه بلغ مبلغا لا يكنه كنهه، ومن هنا لم يخصه بعضهم ببعض الوجوه، وادعى أن الأظهر ذلك، وجعل الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض أي بعض كان، ولذلك أفردها، وحينئذ يتناول الكفرة بنبوة (كان عادة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ونظيره من يفعل جميع ذلك، والدنيا مأخوذة من دنا يدنو، وياؤها منقلبة عن واو، ولا يحذف منها الألف واللام إلا قليلا، وخصه في الشعر، (وما) نافية، (ومن) إن جعلت موصولة فلا محل (ليفعل) من الإعراب، وإن جعلت موصوفة فمحله الجر على أنه صفتها، (ومنكم) حال من فاعل (يفعل)، (وإلا خزي) استثناء مفرغ، وقع خبرا للمبتدإ، ولا يجوز النصب في مثل ذلك على المشهور، ونقل عن يونس إجازته في الخبر بعد (إلا) كائنا ما كان، وقال بعضهم: إن كان ما بعد (إلا) هو الأول في المعنى، أو منزل منزلته لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور، وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلا منزلة الأول، وإن كان وصفا أجاز فيه أبو حيان النصب، ومنعه البصريون، وحكي عنهم أنهم لا يجوزون النصب في غير المصادر، إلا أن يعرف المعنى، فيضمر ناصب حينئذ، وتحقيقه في محله. الفراء
ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب أي يصيرون إليه، فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشد العذاب، وقد يراد بالرد الرجوع إلى ما كانوا فيه، كما في قوله تعالى: فرددناه إلى أمه وكأنهم كانوا في الدنيا أو في القبور في أشد العذاب أيضا، فردوا إليه، والمراد به الخلود في النار، وأشديته من حيث إنه لا انقضاء له، أو المراد أشد [ ص: 315 ] جميع أنواع العذاب، ولكن بالنسبة إلى عذاب من لم يفعل هذا العصيان لأن عصيانهم أشد من عصيان هؤلاء، وجزاء سيئة سيئة مثلها، ويدل على ما قررناه قوله تعالى : من يفعل ذلك منكم فلا يرد ما أورده الإمام أنه كيف يكون عذاب اليهود أشد من الدهرية المنكرين للصانع، ولا يفيد ما قيل، لأنهم كفروا بعد معرفتهم إنه كتاب الله تعالى، وإقرارهم، وشهادتهم، إذ الكافر الموحد كيف يقال إنه أشد عذابا من المشرك أو النافي للصانع؟! وإن كان كفره عن علم ومعرفة، وضمير (يردون) راجع إلى (من) وأوثر صيغة الجمع نظرا إلى معناها بعد ما أوثر الإفراد نظرا إلى لفظها، لما أن الرد إنما يكون بالاجتماع، وغير السبك، حيث لم يقل مثلا: وأشد العذاب يوم القيامة، للإيذان بكمال التنافي بين جزاءي النشأتين، وتقديم اليوم على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطب وتفظيع الحال من أول الأمر، وقرأ الرازي الحسن باختلاف عنهما، وابن هرمز في رواية وعاصم المفضل (تردون) على الخطاب، والجمهور على الغيبة، ووجه ذلك أن (يردون) راجع إلى من يفعل، فمن قرأ بصيغة الغيبة نظر إلى صيغة (من)، ومن قرأ بصيغة الخطاب نظر إلى دخوله في (منكم) لا أن الضمير حينئذ راجع إلى (كم)، كما وهم، وما الله بغافل عما تعملون اعتراض وتذييل لتأكيد الوعيد المستفاد مما قبله، أي إنه بالمرصاد، لا يغفل عما تعملون من القبائح التي من جملتها هذا المنكر، والمخاطب به من كان مخاطبا بالآية قبل، وروي عن رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم تعنون بهذا يا أمة عمر محمد ، وبما يجري مجراه، وقرأ نافع ، وابن كثير (يعملون) بالياء على أن الضمير (لمن)، والباقون بالتاء من فوق، وأبو بكر