الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فأقول: الاسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين، وهي عندهم أسماء مترادفة، كما نقله الإمام أبو بكر بن فورك، في كتابه الكبير في الأسماء والصفات، والأستاذ أبو القاسم السهيلي في شرح الإرشاد، وهما ممن يعض عليه بالنواجذ، ومنه قوله تعالى : سبح اسم ربك إذ التسبيح في المعروف إنما يتوجه إلى الذات الأقدس، وحمله على تنزيه اللفظ كحمله على المجاز والكناية مما لا يليق، إذ بعد الثبوت لا يحتاج إليه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ويؤيده قوله تعالى : ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها حيث أطلق الأسماء وأراد الذوات، لأن الكفار إنما عبدوا حقيقة ذوات الأصنام دون ألفاظها، وإن استقام على بعد، وقال سيبويه وهو إمام الصناعة وشيخ الجماعة : والفعل أمثلة أحدثت، من لفظ أحدث الأسماء، ومن المعلوم أن الألفاظ لا إحداث لها، فليس المراد إلا الذوات، وهو بهذا المعنى عين المسمى، ولا ينافيه أخذ الاسم من السمو، لأن سمو المعلوم في الحقيقة إنما هو بوجوده إن كان موجودا، حيث ارتفع عن نقص العدم، وبمعقوليته عن الالتباس بمعلوم آخر، إن لم يكن، ولو كنا نرى الموجودات كلها، ونعلم المعلومات بأسرها لم نحتج إلى مسمياتها، لكن لما صحت غيبتها عنا لمانع في أبصارنا وبصائرنا احتجنا إلى ما يدلنا عليها في التخاطب والإخبار عنها، فمن الله تعالى بهذه الأوضاع لطفا بنا، وحكمة من حكيم عليم، فلما سمت المعلومات بمعقوليتها عن الالتباس وبوجود ما كان موجودا منها عن العدم، قيل لها أسماء، ولما دلت الألفاظ عليها قيل لها ذلك أيضا تسمية للشيء باسم ما، هو دليل عليه، ويطلق الاسم أيضا على الدال، وهو قسمان قديم وهو ما سمى الله تعالى به نفسه في كلامه القديم، والقول فيه كالقول في كلامه الذي هو صفة له من أنه لا عين ولا غير وحادث، وهو ما سمى به تعالى شأنه في غير ذلك، وهو غير، فالمعتزلة لا يثبتون إلا القسم الثاني من هذا الإطلاق لعدم ثبوت الأول عندهم، ولنفيهم الكلام القديم، وأهل السنة لما رأوا أن نزاعهم لهم في القسم الأول من الإطلاق الثاني يعود إلى النزاع في منشئه تركوه، واكتفوا بالنزاع في المنشإ عنه حتى برهنوا فيه على مدعاهم، ونوروا بالبينات القطعية دعواهم، وقد تقدم ذلك لك في المقدمات، ونازعوهم في الإطلاق الأول، وأثبتوه بظواهر الآيات، ونقل الثقات وقالوا ضد قولهم، إن الاسم عين المسمى، فكأنه ترقى صورة من نفي الغيرية وإثبات لا، ولا إلى القول بالعينية التي أنكروها، ولعدم فهم المراد من ذلك اعترض بأنه لو كان الاسم هو المسمى لتكثر المسمى عند تكثر الأسماء، وأيضا الأسماء تتبدل والمسمى لا يتبدل، والاسم يطرأ بعد وجود المسمى، والشيء لا يتقدم على نفسه، ولا يتأخر، فليس هو هو، والكل غير وارد إلا على تقدير القول بالعينية، بناء على القسم الثاني من الإطلاق الثاني، وليس فليس، فاتضح من هذا أن قول المعتزلة بالغيرية ناشئ عن ضلالة في الاعتقاد ، ومن يضلل الله فما له من هاد . والاسم في البسملة عند بعض بالمعنى الأول، لأن الاستعانة بالألفاظ مجردها مما لا معنى لها، وليس من التسعة والتسعين ما لفظه اسم، فلا يحسن إلا أن يراد به الذات، وأمر الإضافة هين، وفيه أنه فرق بين الاستعانة المتعدية بنفسها والاستعانة المتعدية بالباء المتعلقة بغير [ ص: 54 ] ذوي العلم نحو: استعينوا بالصبر والصلاة وقال غير واحد: سلمنا أن الاستعانة لا تكون إلا بالذات إلا أن التبرك لا يكون بها، وقد قالوا به، ولهذا أو للفرق بين اليمين والتيمن، أو لئلا يختص التبرك باسم دون اسم، أو ليكون أشد وفاقا لحديث الابتداء على ما قيل، قال: بسم الله، ولم يقل: بالله، ولم تكتب همزة الوصل، مع أن الأصل في كل كلمة أن ترسم باعتبار ما يتلفظ بها في الوقف وفي الابتداء، بل حذفت تبعا لحذفها في التلفظ للكثرة، وقيل: لأنها دخلت للابتداء بالسين الساكنة، فلما نابت الباء عنها سقطت في الخط بخلاف: اقرأ باسم ربك إذ الباء لا تنوب منابها فيه، إذ يمكن حذفها مع بقاء المعنى، فيقال: اقرإ اسم ربك، وظاهره أن الذي منع من الإسقاط في الآية إمكان حذف الباء فقط، وهو مخالف لما ذكره الدماميني من أنه لا بد للحذف من أمرين: عدم ذكر المتعلق، وإضافة لفظ اسم للجلالة، وكلاهما منتف في الآية، وهل يشترط تمام البسملة فيه؟ فيه تردد، وظاهر كلام التسهيل اشتراطه، وقيل: لا حذف فيه، والباء داخلة على اسم أحد اللغات السابقة، ثم سكنت السين هربا من توالي كسرتين، أو انتقاله من كسرة لضمة، وهو مع غرابته بعيد، وعندي أن هذا رسم عثماني، وهو مما لا يكاد يعرف السر فيه أرباب الرسوم، والكثير من عللهم غير مطردة، وبذلك اعتذر البعض عن عدم حذف ألف الله مع كثرة استعماله، واستغنى به عن الجواب بشدة الامتزاج، وبأنها عوض وبأنه يلزم الإجحاف لو حذفت، أو الالتباس بقولنا لله مجرورا، فالرأي إبداء سر ذوقي لذلك، وقد حرره الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات بما لا مزيد عليه، ولست ممن يفهمه، والقريب من الفهم أن الهمزة إنما حذفت في الخط ليكون اتصال السين بالباء المشير إلى ما تقدم أتم، وتلقي الفيض أقوى، من يطع الرسول فقد أطاع الله ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة وفيه إشارة من أول الأمر إلى عموم الرحمة، وشمول البعثة، لأن السين لما كان ساكنا، وتوصل إلى النطق به بالألف أشبه حال المعدوم الذي ظهر بالله، وحيث كان ذلك عاما إذ ما من معدوم يطلب الظهور إلا يكون ظهوره بالله سبحانه وتعالى، أعطي ذلك الحكم لما قام مقامه، واتصل اتصاله، وأدى في اللفظ مؤداه، فإن كان عبارة عن صفات الجمال ظهر عموم الرحمة: ورحمتي وسعت كل شيء وإن كان عبارة عن الحقيقة المحمدية ظهر شمول البعثة: ليكون للعالمين نذيرا بل والرحمة أيضا: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وتناسبت أجزاء البسملة إشارة وعبارة، وإنما طولت الباء للإشارة إلى أن الظهور تام أو إلى أنها وإن انخفضت لكنها إذا اتصلت هذا الاتصال ارتفعت، واستعلت، وفيه رمز إلى أن (من تواضع لله رفعه الله)، (وأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي)، وقال الرسميون: طولت لتدل على الألف المحذوفة، ولتكون عوضا عنها، وليكون افتتاح كتاب الله تعالى بحرف مفخم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم لمعاوية فيما روي: (ألق الدواة، وحرف القلم، وانصب الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن، وجود الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى، فإنه أذكر لك)، ولعل منه أخذ عمر بن عبد العزيز قوله لكاتبه: (طول الباء وأظهر السينات ودور الميم)، ولبعضهم في التعليل ما ادعى أنه ليس من عمل الأفهام، بل مبذولات الإلهام، وهو في التحقيق من مبتذلات الأوهام، وليس له في التحقيق أدنى إلمام، على أن في تعليلهم السابق خفاء بالنظر إلى مشربهم أيضا، فافهم ذلك كله، (والله) أصله الإعلالي إله، كما في الصحاح، أو الإله كما في الكشاف، ولكل وجهة، فحذفت الهمزة اعتباطا على الأظهر، وعوض عنها [ ص: 55 ] الألف واللام، ولذلك قيل: يا ألله، بالقطع في الأكثر لتمحض الحرف للعوضية فيه احترازا عن اجتماع أداتي تعريف، وأما في غيره فيجري الحرف على أصله، وذكر الرضي أن القطع لاجتماع شيئين لزوم الهمزة الكلمة إلا نادرا، كما في: (لاهه الكبار)، وكونها بدل همزة إله، وقال السعد : قد يقال فيه إنه نوى الوقف على حرف النداء تفخيما للاسم الشريف، واختلفوا في الفرق بين الإله والله، فقال السيد السند : هما علم لذاته إلا أنه قبل الحذف قد يطلق على غيره تعالى، وبعده لا يطلق على غيره سبحانه أصلا، وقال العلامة السعد : إن الإله اسم لمفهوم كلي هو المعبود بحق، والله علم لذاته تعالى، وقال الرضي : هما قبل الإدغام وبعده مختصان بذاته تعالى، لا يطلقان على غيره أصلا، إلا أنه قبل الإدغام من الأعلام الغالبة، وبعده من الأعلام الخاصة، وادعى ابن مالك أن الله من الأعلام التي قارن وضعها أل، وليس أصله الإله، ثم قال: ولو لم يرد على من قال ذلك إلا أنه ادعى ما لا دليل عليه لكان ذلك كافيا، لأن الله والإله مختلفان لفظا ومعنى، أما لفظا فلأن أحدهما معتل العين، والثاني مهموز الفاء صحيح العين واللام، فهما من مادتين، فردهما إلى أصل واحد تحكم من سوء التصريف، وأما معنى فلأن الله خاص به تعالى جاهلية وإسلاما، والإله ليس كذلك، لأنه اسم لكل معبود، ومن قال: أصله الإله لا يخلو حاله من أمرين، لأنه إما أن يقول: إن الهمزة حذفت ابتداء، ثم أدغمت اللام، أو يقول: إنها نقلت حركتها إلى اللام قبلها وحذفت على القياس، وهو باطل، أما الأول، فلأنه ادعى حذف الفاء بلا سبب، ولا مشابهة ذي سبب من ثلاثي، فلا يقاس (بيد)، لأن الآخر وكذا ما يتصل به محل التغيير، ولا (بعدة) مصدر (يعد) لحمله على الفعل، فحذف للتشاكل، ولا برقة بمعنى ورق لشبهه بعدة وزنا وإعلالا، ولولا أنه بمعناه لتعين إلحاقه بالثنائي المحذوف اللام كلثة، وأما ناس وأناس فمن نوس وأنس على أن الحمل عليه على تقدير تسليم الأخذ زيادة في الشذوذ، وكثرة مخالفة الأصل بلا سبب يلجئ لذلك، (وأما الثاني)، فلأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجوه، أحدها نقل حركة بين كلمتين على سبيل اللزوم، ولا نظير له، والثاني نقل حركة همزة إلى مثل ما بعدها، وهو يوجب اجتماع مثلين متحركين، وهو أثقل من تحقيق الهمزة بعد ساكن، الثالث من مخالفة الأصل تسكين المنقول إليه الحركة، فيوجب كونه عملا كلا عمل، وهو بمنزلة من نقل في بئس ولا يخفى ما فيه من القبح مع كونه في كلمة، فما هو في كلمتين أمكن في الاستقباح وأحق بالاطراح، الرابع إدغام المنقول إليه فيما بعد الهمزة، وهو بمعزل عن القياس، لأن الهمزة المنقولة الحركة في تقدير الثبوت، فإدغام ما قبلها فيما بعدها كإدغام أحد المنفصلين، وقد اعتبر أبو عمرو في الإدغام الكبير الفصل بواجب الحذف نحو يبتغ غير فلم يدغم، فاعتبار غير واجب الحذف أولى، ومن زعم أن أصله إله، يقول: إن الألف واللام عوض من الهمزة، ولو كان كذلك لم يحذفا في لاه أبوك، أي لله أبوك، إذ لا يحذف عوض ومعوض في حالة واحدة، وقالوا: لهي أبوك أيضا، فحذفوا لام الجر والألف واللام، وقدموا الهاء وسكنوها، فصارت الألف ياء، وعلم بذلك أن الألف كانت منقلبة لتحركها وانفتاح ما قبلها، فلما وليت ساكنا عادت إلى أصلها، وفتحتها فتحة بناء، وسبب البناء تضمن معنى التعريف عند أبي علي، ومعنى حرف التعجب إذ لم يقع في غيره، وإن لم يوضع له حرف [ ص: 56 ] عندي وهو مع بنائه في موضع جر باللام المحذوفة، واللام ومجرورها في موضع رفع خبر أبوك ا.هـ، ملخصا، قالناظر الجيش : إنه لا مزيد عليه في الحسن، وأنا أقول: لا بأس به، لولا قوله: إن الإله اسم لكل معبود، فقد بالغ البلقيني في رده وادعى أنه لا يقع إلا على المعبود بالحق جل شأنه، ومن أطلقه على غيره حكم الله تعالى بكفره، وأرسل الرسل لدعائه، وكان نظير إطلاق النصارى الله على عيسى، على أن فيه ما يمكن الجواب عنه كما لا يخفى، واشتقاقه من أله كعبد، إلاهة كعبادة، وألوهة كعبودة، وألوهية كعبودية، فأله صفة مشبهة بمعنى مألوه، ككتاب بمعنى مكتوب، وكونه مصدرا كما ذهب إليه المرزوقي، وصاحب المدارك خلاف المشهور، أو من أله كفرح إذا تحير، لتحير العقول في كنه ذاته وصفاته، وفيه أن الأصل في الاشتقاق أن يكون لمعنى قائم بالمشتق، والحيرة قائمة بالخلق لا بالحق، أو من ألهت إلى فلان، إذا سكنت إليه ألا بذكر الله تطمئن القلوب أو من له إذا فزع، والله مفزوع إليه، وهو يجير ولا يجار عليه، أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، والعباد مولعون بالتضرع إليه في الشدائد، وقيل: هو من وله الواوي بمعنى تحير أيضا، وأصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها فهو كإعاء وإشاح في وعاء ووشاح، ويرده الجمع على آلهة دون أولهة، وقلب الواو ألفا إذا لم تتحرك مخالف للقياس، وتوهم أصالة الهمزة لعدم ولاه خلاف الظاهر، ولعلك لا تعبأ بذلك هنا، فالشأن عجيب، وزعم بعضهم أن أصله لاه مصدر لاه يليه، أو لاه يلوه ليها ولاها، إذا ارتفع واحتجب، وهو المحتجب بسرادقات الجلال، والمرتفع عن إدراك الخيال، وقد قرئ شاذا، (وهو الذي في السماء لاه)، وقول ميمون بن قيس الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      كحلفة من أبي رباح يشهدها لاهه الكبار

                                                                                                                                                                                                                                      ووجه قطع الهمزة في حال النداء حينئذ بعض ما تقدم من الوجوه، وقيل: أصله الكناية، لأنها للغائب، وهو سبحانه الغائب عن أن تدركه الأبصار، أو تحيط به الأفكار، وأيضا الهاء يخرج مع الأنفاس، فهو المذكور، وإن لم تشعر الحواس، ومتى انقطع خروجه انقطعت الحياة، وحل بالحي الممات، فبه وباسمه قوام الأرواح والأبدان، واستقامة كل متنفس من الحيوان، فزيد عليها لام الملك ثم، مد بها الصوت تعظيما، ثم ألزم اللام، وأستأنس لهذا أن الاسم الكريم إذا حذفت منه الهمزة بقي (لله)، ولله جنود السماوات والأرض وإذا تركت اللام بقي على صورة (له) " وله ما في السماوات وما في الأرض " وإن تركت اللام الباقية بقي (الهاء) المضمومة من (هو) " لا إله إلا هو " والواو زائدة بدليل سقوطها في هما، وهم، فالأصل (هو)، إذ لا يبقى سواه، وأنت إذا أمعنت النظر يظهر لك مناسبات أخر، ولهذا مال كثير من الصوفية إلى هذا القول، وهو إلى المشرب قريب، وزعم البلخي أنه ليس بعربي، بل هو عبراني، أو سرياني معرب لاها، ومعناه ذو القدرة، ولا دليل عليه، فلا يصار إليه، واستعمال اليهود والنصارى لا يقوم دليلا، إذ احتمال توافق اللغات قائم، مع أن قولهم: تأله وأله يأباه، على أن التصرف فيه كما قيل بحذف [ ص: 57 ] المدة وإدخال أل عليه، وجعله بهذه الصفة دليل على أنه لم يكن علما في غير العربية، إذ اشترطوا في منع الصرف للعجمة كون الأعجمي علما في اللغة الأعجمية، والتصرف مضعف لها، فهذا الزعم ساقط عن درجة الاعتبار لا يساعده عقل ولا نقل، والذي عليه أكابر المعتبرين كالشافعي ، ومحمد بن الحسن، والأشعري ، وغالب أصحابه، والخطابي، وإمام الحرمين والغزالي، والفخر الرازي، وأكثر الأصوليين، والفقهاء، ونقل عن اختيار الخليل، وسيبويه ، والمازني، وابن كيسان أنه عربي وعلم، من أصله لذاته تعالى المخصوصة، أما أنه عربي، فلا يكاد يحتاج إلى برهان، وأما أنه علم كذلك، فقد استدل عليه بوجوه، (الأول): أنه يوصف ويوصف به، وقراءة: (صراط العزيز الحميد الله) بالجر، محمولة على البيان، وتجويز الزمخشري في سورة (فاطر) كون الاسم الكريم صفة اسم الإشارة من باب قياس العلم على الجوامد في وقوعها صفة لاسم الإشارة على خلاف القياس، إذ المنظور فيها رفع الإبهام فقط، وقد تفرد به، (الثاني): أنه لا بد له من اسم يجري عليه صفاته، فإن كل شيء تتوجه إليه الأذهان، ويحتاج إلى التعبير عنه قد وضع له اسم توقيفي أو اصطلاحي، فكيف يهمل خالق الأشياء، ومبدعها، ولم يوضع له اسم يجري عليه ما يعزى إليه، ولا يصطلح له مما يطلق عليه سواه، وكونه اسم جنس معرف مما لا يليق، لأنه غير خاص وضعا، وكونه علما منقولا من الوصفية يستدعي أن لا يكون في الأصل ما تجري عليه الصفات، وهو كما ترى، (الثالث) أنه لو كان وصفا لم تكن الكلمة توحيدا مثل: لا إله إلا الرحمن، إذ لا منع من الشركة، وكذا لو كان اسم جنس، والإجماع منعقد على إفادتها له دون الثاني، والسر أنه لو كان صفة كان مدلوله المعنى، لا الذات المعينة، فلا يمنع من الشركة، وإن اختص استعمالا بذاته تعالى بخلاف ما إذا كان علما، فإن مدلوله حينئذ الذات المعينة، وإن تعقل بوجه كلي، إذ كليته لا تستلزم كلية المعلوم، وقد اعترفوا بعموم الوضع، وخصوص الموضوع له، وقد انحل بهذا عصام قربة من قال: إنه لو كفى في التوحيد الاختصاص في الواقع فلا إله إلا الرحمن أيضا توحيد، وإن لم يكف، واقتضى ما يعين بحيث لا تجوز فيه الشركة لم يكن: لا إله إلا الله كذلك، إذ لا تحضر ذاته تعالى لنا على وجه التشخص، ولا حاجة إلى ما ذكره من الجواب، أخطأ فيه أم أصاب، ولا يرد قل هو الله أحد معارضا، فإنه لو دل على التوحيد لم يكن للوصف فائدة، لما سيأتي إن شاء الله تعالى من تفسيره لعدم قبول التعدد بوجه، وهو ليس من لوازم العلمية، ولا يغير هذه الوجوه المسفرة ما قيل أنها لا تستلزم المدعي، إذ الاختلاف إنما وقع بعد تسليم الاختصاص في كونه صفة، فيكون كالرحمن، أو اسما، فيكون علما، وهذا القدر يكفي بعد ذلك في المقصود، كما لا يخفى على من لم يركب مطية الجحود، والإمام البيضاوي مع أن له اليد البيضاء في التحقيق، لم يتبلج له صبح هذا القول، وهو لا يحتاج إلى النظر الدقيق، فاختار أنه وصف في أصله، لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره، وصار له كالعلم مثل الثريا، والصعق أجري مجراه في إجراء الوصف عليه، وامتناع الوصف به، وعدم تطرق احتمال الشركة إليه، لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي، أو غيره غير معقول للبشر، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوص لما أفاد ظاهر قوله تعالى: وهو الله في السماوات معنى صحيحا، ولأن معنى الاشتقاق كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب، وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة، هذا كلامه، وقد أبطل فيه الأدلة الثلاث، وحيث لم يلزم من إبطال الدليل إبطال [ ص: 58 ] المدلول، أبطله بوجهين، ونظم في سلكهما ثالثا يدل على الوصفية، وفيه أن الوجه الأول قد اعترضه هو نفسه، حيث قال في تعليقاته: وفيه نظر، إذ يكفي في وضع العلم تعقله بوجه يمتاز به عن غيره من غير أن يعتبر ما به الامتياز في المسمى، فيمكن وضع العلم لمجرد الذات المعقولة في ضمن بعض الصفات، وقد تقرر في الكلام أنه يمكن أن يخلق الله تعالى العلم بكنه ذاته في البشر، ولأنه إنما يتمشى إذا لم يكن الواضع هو الله تعالى، والتحقيق أن تصوير الموضوع له بوجه ما كاف في وضع العلم، وكذا في فهم السامع عند استعماله انتهى، والمرء مؤاخذ بإقراره، وهذا اكتفاء بأقل اللازم، وإلا فالمحققون قد أبطلوا هذا الدليل بما لا مزيد عليه، وأما الثاني ففيه: إن لم نقل أن الآية من المتشابه أن العلم قد يلاحظ معه معنى به يصلح لتعلق الظرف، كقولك أنت عندي حاتم، وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      أسد علي وفي الحروب نعامة     فتخاء تنفر من صفير الصافر

                                                                                                                                                                                                                                      فليلاحظ هنا المعبود بالحق لاشتهاره سبحانه بذلك في ضمن هذا الاسم المقدس، على أنه يحتمل التعلق بــيعلم في قوله تعالى: يعلم سركم الآية، والجملة خبر ثان، أو هي الخبر، ولفظ الله بدل، والظاهر أن قوله ظاهر لهذا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية