الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأما الوجه الثاني، فلتعليم العباد إذا بدءوا بأمر كيف يبدءون به، ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة ، وأخرجه الحافظ عبد القادر الرهاوي : (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر)، والبال الحال والشأن، فمعنى ذي بال: شريف، يحتفل به، ويهتم، كأنه شغل القلب،وملكه حتى صار صاحبه، وقيل: شبه الأمر العظيم بذي قلب على سبيل الاستعارة المكنية والتخييلية، وفي هذا الوصف فائدتان: إحداهما رعاية تعظيم اسم الله تعالى، لأن يبتدأ به في الأمور المعتد بها، والأخرى التيسير على الناس في محقرات الأمور، كذا قالوه، وعندي أن الأظهر جعل الوصف للتعميم كما في قوله تعالى : ولا طائر يطير بجناحيه أي كل أمر يخطر بالبال جليلا كان أو حقيرا لا يبدأ به إلخ، وفي هذا غاية لعظمة الله تعالى، وحث على التبري عن الحول والقوة إلا بالله، وإشارة إلى أن قدر العباد غير مستقلة في الأفعال، فحمل تبنة كحمل جبل، إن لم يعن الله الملك المتعال، وقد أمر سبحانه وتعالى بالإكثار من ذكره، فقال تعالى : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا [ ص: 67 ] وحيث لم يجب ذلك كما هو معلوم يحصل للناس تيسير، وقد سن صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعض الأشياء، ونفي الحرج ينفي وجوبها في قوله عليه الصلاة والسلام: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شثع نعله)، وما روي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: (يا موسى ، سلني حتى ملح قدرك، وشراك نعلك)، ما يدفع عنك توهم عدم رعاية التعظيم في ذكره تعالى عند محقرات الأمور، وأي فرق عند المنصف بين ذكره سبحانه عندها، وطلبها منه، على أن العارف الجليل لا يقع بصره على شيء حقير: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير نعم التسمية على الحرام والمكروه مما لا ينبغي، بل هي حرام في الحرام، لا كفر على الصحيح، مكروهة في المكروه، وقيل: مكروهة فيهما، إن لم يقصد استخفافا، وإن قصده، والعياذ بالله تعالى كفر مطلقا، وهذا لا يضر فيما قلناه كما لا يخفى، وقد اضطرب الحديث هنا، فوقع في بعض الروايات: (لا يبدأ فيه بالحمد لله)، وفي بعضها: (بحمد الله)، وفي البعض: (أجذم)، وفي أخرى: (أقطع)، وفي خبر: (كل كلام)، وفي أثر: (يبدأ)، وفي آخر: (يفتتح)، وفي موضع وضع الذكر بدل الحمد إلى غير ذلك، مما لا يخفى على المتتبع، حتى قيل: إنه مضطرب سندا ومتنا، ولولا أنه في فضائل الأعمال ما اغتفر فيه ذلك، على أنه تقوى بالمتابعة معنى أيضا، والشهرة في دفع التعارض بين الروايات تغني عن التعرض للاستيفاء، واستحسن فيه أن روايتي البسملة والحمدلة تعارضتا، فسقط قيداهما، كما في مسألة التسبيع في الغسلات عند الشافعي ، ورجع للمعنى الأعم، وهو إطلاق الذكر المراد منه إظهار صفة الكمال، وقيل: إن المراد في كل رواية الابتداء بأحدهما، أو بما يقوم مقامه، ولو ذكرا آخر بقرينة تعبيره تارة بالبسملة، وأخرى بالحمدلة، وطورا بغيرهما، ولا يرد على كل أنا نرى كثيرا من الأمور يبدأ فيه بما ورد في الحديث، مع أنه لا يتم، ونرى كثيرا منها بالعكس، لأنا نقول: المراد من الحديث أن لا يكون معتبرا في الشرع، فهو غير تام معنى، وإن كان تاما حسا، فباسم الله تتم معاني الأشياء، ومن مشكاة بسم الله الرحمن الرحيم تشرق على صفحات الأكوان أنوار البهاء.


                                                                                                                                                                                                                                      ولو جليت سرا على أكمه غدا بصيرا ومن راووقها تسمع الصم     ولو أن ركبا يمموا ترب أرضها
                                                                                                                                                                                                                                      وفي الركب ملسوع لما ضره السم     ولو رسم الراقي حروف اسمها على
                                                                                                                                                                                                                                      جبين مصاب جن أبرأه الرسم     وفوق لواء الجيش لو رقم اسمها
                                                                                                                                                                                                                                      لأسكر من تحت اللوا ذلك الرقم

                                                                                                                                                                                                                                      ولما افتتح سبحانه وتعالى كتابه بالبسملة، وهي نوع من الحمد ناسب أن يردفها بالحمد الكلي الجامع لجميع أفراده البالغ أقصى درجات الكمال، فقال جل شأنه : الحمد لله رب العالمين وهو أول الفاتحة، وآخر الدعوات الخاتمة، كما قال تعالى: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين


                                                                                                                                                                                                                                      كان الحب دائرة بقلبي     فأوله وآخره سواء

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قيل للجنيد قدس سره: ما النهاية؟ فقال: الرجوع إلى البداية، وفيه أسرار شتى، والحمد على المشهور هو الثناء باللسان على الجميل سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل، قالوا: ولا بد لتحققه من خمسة أمور: محمود به، ومحمود عليه، وحامد ومحمود، وما يدل على اتصاف المحمود بصفة، فالأول صفة تظهر اتصاف الشيء بها على وجه مخصوص، ويجب كونه صفة كمال، ولو ادعاء، إذ المناط التعظيم، ولا فرق عند الإمام الرازي قدس سره بين كونه ثبوتيا أو سلبيا متعديا، أو غير متعد، بل ولا بين كونه صادرا عن المحمود باختياره، أو لا، كما قرره العلامة الدواني، وصدر الأفاضل في حواشي التجريد [ ص: 68 ] والمطالع، وجزم به المحقق الملا خسرو، وادعى أنه الأشهر، إلا أن العلامة في شرح التهذيب نقل عن البعض وجوب كونه اختياريا، واختاره كما في المحمود عليه، فكما لم يسمع الحمد على رشاقة القد، وصباحة الخد لم يسمع الحمد بهما، وعدم حمد اللؤلؤة، كما يمكن كونه من جهة حال المحمود عليه، يمكن كونه من جهة المحمود، فجعله دليلا على أحدهما فقط تحكم، الثاني ما يقع الثناء بإزائه ويقابله بمعنى أن المثنى عليه لما اتصف به أظهر كماله، ولولاه لم يتحقق ذلك، فهو كالعلة الباعثة، وقد يكون الشيء الواحد محمودا به، وعليه معا، كأن رأى من ينعم أو يصلي، فأظهر اتصافه بذلك، فهناك يتحقق الأمران لحيثيتين، ويجب أن يكون كمالا على نحو ما سبق، وظاهر كلام الجمهور أنه أعم من كونه فعلا صادرا من المحمود، أو كيفية قائمة به، ويفهم كلام الإمام اختيار الأول، واشترط أن يكون حصوله من المحمود باختياره، واستشكل الحمد على صفاته تعالى الذاتية، سواء جعلت عين ذاته أو زائدة عليها، وأجيب بأن الحمد عليها بتنزيلها منزلة الاختياري لكون ذاته كافية فيها، أو بأن المراد بالفعل الاختياري المنسوب إلى الفاعل المختار سواء كان مختارا فيه، أو لا، وقيل: إنها صادرة بالاختيار بمعنى إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل، لا بمعنى صحة الفعل والترك، أو بمعناه، والصفات صادرة بالاختيار، وسبقه عليها ذاتي، فلا يلزم حدوثها، وقيل: إنه بالنظر إلى حمد البشر فالمراد ما جنسه اختياري، كما قيل في قيد اللسان، وأورد على الأول مع ما فيه أنه إنما يحسن إذا كان المعتاد في الأفعال الاختيارية كون فاعلها مستقلا في إيجادها من غير احتياج إلى شيء آخر من آلة وغيرها، ليظهر استقامة التنزيل، وليس كذلك، فإن العمل الاختياري يحتاج إلى العلم والقدرة، والكثير إلى آلة وأسباب، وعلى الثاني أنه خلاف المتبادر، وعلى الثالث أن هذا المعنى ادعاه الحكماء، حين قالوا بقدم العالم، للإيجاب، فلزمهم أن لا يكون لموجده إرادة، وقالوا: إن صدق الشرطية لا يقتضي وجود مقدمها، ولا عدمه، فمقدم الأولى بالنسبة إلى وجود العالم دائم الوقوع، ومقدم الثانية دائم اللاوقوع، ولهذا أطلق عليه الصانع، وهو من له الإرادة، وهو صرح ممرد من قوارير، لأن ما بالإرادة يصح وجوده بالنظر إلى ذات الفاعل، فإن أريد بالدوام الدوام مع صحة وقوع النقيض فهو مخالف لما صرحوا به من إيجاب العالم، بحيث لا يصح عدم وقوعه منه، وإن أريد مع امتناع الوقوع فليس هناك من الإرادة إلا لفظها ومتعلقها، لا محيص عن حدوثه، والعالم عندهم قديم، واختيار الشق الأول، ثم القول بأن الصادر عن الموجب بالذات ليس واجبا كذلك، بل ممكن بذاته، والقدم زماني لا ذاتي، وصحة وقوع النقيض لا يقتضي الوقوع إذا أحجم القلم عنه، إنما يظهر في العالم، ويبقى ما نحن فيه من الصفات، ولا أقدم على إطلاق القول بإمكانها لاحتياجها للذات واستنادها إليها، وعلى الرابع أن اتصاف الصفات بالصدور لو انشرحت لتوجيهه الصدور، يبقى الإشكال في صفة القدرة، ولا قدرة لدعوى صدورها بالاختيار، وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه، فلا حسم، وعلى الخامس أن هاتيك الصفات مقدسة عن أن تشرك مع صفة البشر في جنس، وأين الأزلي من الزائل ! على أنه على ما فيه خلاف المنساق إلى الذهن، ولكثرة المقال والقيل لم يشترط بعضهم في المحمود عليه أن يكون اختياريا، لأنه الباعث على الحمد، وأي مانع من أن لا يكون كذلك، ومن ذلك: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وعند الصباح يحمد القوم السرى، وجاورته فما حمدت جواره.


                                                                                                                                                                                                                                      والصبر يحمد في المواطن كلها     إلا عليك فإنه مذموم

                                                                                                                                                                                                                                      والحق الحقيقي بالاتباع أن الحمد اللغوي لا يكون إلا على الأفعال الاختيارية، والحمد على الصفات الذاتية إما لغوي راجع لما يترتب عليها من الآثار الاختيارية أو عرفي، ولا ضرر في تعلقه بها، وما ذكر من الأمثلة ونحوها، فالحمد فيها مجاز عن الرضا، ويقال في الآية زيادة عليه أن محمودا حال من الضمير المنصوب، أو نعت لمقاما، والمعنى محمودا فيه [ ص: 69 ] النبي لشفاعته، أو لله تعالى لتفضله عليه بالإذن، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، (والثالث) وهو من يتحقق منه الحمد، وشرطه أن يكون معظما بثنائه للمحمود ظاهرا وباطنا، كما حققه الصدر، نعم، لا يلزم اعتقاد اتصاف المحمود بالجميل عند المحققين، بل الشرط عدم اقترانه ثبوت تحقير، فيدخل الوصف بما قطع بانتفائه، ولا يناقضه كما قال الدواني: توجيه الشريف اشتراط التعظيمين بأنه إذا عري عن مطابقة الاعتقاد لم يكن حمدا، بل سخرية، لأنه أراد بالاعتقاد لازمه، وهو إنشاء التعظيم لا معناه الحقيقي، فإن الحمد قد يكون إنشائيا، ولا معنى لمطابقة الاعتقاد فيه، لأن ما لا يتعلق به الاعتقاد لا يوصف حقيقة بمطابقته، إذ المتبادر منها الاتحاد في الإيجاب والسلب، أو ما يستلزمه، أو يؤول إليه، ولذا لا يوجد إلا في القضايا، ولذا لا تسمع أحدا يقول: إن التصور يطابقه، بل لو قال قائل: إن مفهوم اضرب يطابق الاعتقاد ضرب عنه صفحا، وربما نسب لما يكره، وحمل المطابقة على هذا أقرب من التزام اتصاف التصورات بالمطابقة، واللامطابقة، إذ ليس فيه سوى ذكر الملزوم، وإرادة اللازم، مع أن أهل العرف العام قد يطلقون الاعتقاد بهذا المعنى، فيقولون: فلان له اعتقاد في فلان، ويريدون ما أردنا، ولا بعد فيه، لأن الناس يعدون الوصف بالجميل المعلوم الانتفاء إذا كان كذلك مدحا، وحمدا، كما في كثير من القصائد، (وأما الجواب) بأن الواصف يعتقد الاتصاف وبأن المراد معان مجازية، واتصاف المنعوت بها معتقد، فيرده أن الأول خلاف البديهة، والثاني خلاف الواقع، والجواب عن الأول بأنه لو كان خلاف البديهة لم يقصد العقلاء إفادته، ولم يكن اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي، وعن الثاني بأنه لو كان خلاف الواقع لما كان مستعملا في معناه المجازي، فيلزم أن لا يكون ذلك الكلام حقيقة، ولا مجازا، كلام نشأ من ضيق الصدر، إذ لا يلزم من عدم اعتقاد المدلول أن لا يكون الكلام مستعملا فيه، فالأخبار الغير المعتقدة كقول السني الخفي حاله : العبد خالق لأفعاله، مستعمل في حقيقته غير معتقد، بل جميع الأكاذيب التي يعتمدها أهلها كذلك، ثم إن المجيب حمل أن الأول خلاف البديهة على أن مضمون تلك الأخبار خلافها، وفرع عليه أنه يلزم أن لا يقصد العقلاء إفادته، ويرد عليه المنع، فإن الأكاذيب التي يعتمدها العاقل قد تخالف البديهة مع قصد إفادتها لغرض ما، كالتغليظ، أو التنكيت، أو الامتحان، أو للتخيل، كما في كثير من القضايا، حتى قال بعض المحققين : لا يلزم أن يكون ذلك الكلام حقيقة ولا مجازا، وفيه تأمل، (الرابع) المحمود، وقد علمت ما يشترط فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      (الخامس) وهو ذكر ما يدل على اتصاف المحمود بالمحمودية، وقد اشتهر تقييده باللسان، وأريد به جارحة النطق، ولما كان الواقع كون آلة التكلم في الغالب هي تلك الجارحة خصوه بها، فلو فقد إنسان لسانه فأثنى بحروفه الشفوية، أو خلق النطق في بعض جوارحه، فأثنى به كما شوهد في مقطوع جميع اللسان، فهو حمد، وقضية التقييد أن لا يكون الصادر عمن لا جارحة له حمدا، وقد قال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده وأما حمد الله تعالى نفسه نفسه مثلا، فذهب الأكثر إلى أنه إخبار باستحقاق الحمد، وأمر به، أو مقول على ألسنة العباد، أو مجاز عن إظهار الصفات الكمالية الذي هو الغاية القصوى من الحمد، ومال السيد إلى الأخير، وقال الدواني: كون الحمد في حقه سبحانه مجازا بعيد عن قاعدة أهل الحق من إثبات الكلام له حقيقة، والقول مساوق للكلام، فالأظهر أن الحصر في اللسان إضافي لمقابلة الجنان والأركان، والمراد الأمر الذي مصدره اللسان غالبا، أو هو قيد غالبي يسوغ الاستعمال فيه، واللفظ قد يكون موضوعا في أصل اللغة لعام، ويشتهر في بعض مخصوص، بحيث يصير فيه حقيقة عرفية، وسبب الاشتهار إما كثرة تداول ذلك الفرد كما في الدابة، وإما عدم الاطلاع على فرد آخر، فيستعمله أهل اللسان في ذلك الفرد حتى إذا استمر، ولم يطلع على إطلاقه على فرد آخر ظن أنه موضوع لخصوصه، كما في الميزان، فإنه في الأصل موضوع لآلة الوزن، ثم من لم يطلع إلا على ما له لسان [ ص: 70 ] وعمود، ربما يجزم بأنه موضوع له فقط، ولا يدري أن وراء ذلك موازين، ومثل هذا يجري في كثير من الألفاظ، والأمر في المشتقات لا يكاد يخفى على من له أدنى فطنة، لظهوره بالرجوع إلى قاعدة الاشتقاق، وفي غيرها ربما يشتبه على الجماهير، وبذلك يفوت كثير من حقائق الكتاب والسنة، فإن أكثرهما وارد على أصل اللغة، وعلى ذلك فقس الحمد، فإن حقيقته عندهم إظهار صفات الكمال، ولما كان الإظهار القولي أظهر أفراده وأشهرها عند العامة، شاع استعمال لفظ الحمد فيه، حتى صار كأنه مجاز في غيره، مع أنه بحسب الأصل أعم، بل الإظهار الفعلي أقوى وأتم، فهو بهذا الاسم أليق وأولى، كما هو شأن القول بالتشكيك، وفرقوا بين الحمد والمدح بأمور.

                                                                                                                                                                                                                                      (أحدها) أن الحمد يختص بالثناء على الفعل الاختياري لذوي العلم، والمدح يكون في الاختياري وغيره ولذوي العلم وغيرهم، كما يقال: مدحت اللؤلؤة على صفتها، (وثانيها وثالثها) أن الحمد يشترط صدوره عن علم لا ظن، وأن تكون الصفات المحمودة صفات كمال، والمدح قد يكون عن ظن، وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما.

                                                                                                                                                                                                                                      (ورابعها) أن في الحمد من التعظيم والفخامة ما ليس في المدح، وهو أخص بالعقلاء، والعظماء، وأكثر إطلاقا على الله تعالى، (وخامسها) أن الحمد إخبار عن محاسن الغير مع المحبة والإجلال، والمدح إخبار عن المحاسن، ولذا كان الحمد إخبارا يتضمن إنشاء، والمدح خبرا محضا، (وسادسها) أن الحمد مأمور به مطلقا ففي الأثر: (من لم يحمد الناس لم يحمد الله)، والمدح ليس كذلك، (احثوا في وجوه المداحين التراب)، ويشعر كلام الزمخشري في الكشاف والفائق بترادفهما، ففي الأول: أنهما أخوان، وجعل فيه نقيض المدح أعني الذم نقيضا للحمد، وفي الثاني: الحمد المدح والوصف بالجميل، فالمدح عنده مخصوص بالاختياري، وتأول المدح بالجمال، وصباحة الوجه، واحتمال أن يراد من الأخوين ما يكون بينهما اشتقاق كبير بأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب، كجبذ وجذب، وأن الأدباء يجوزون التعريف بالأعم، والنقيض هناك بالمعنى اللغوي، ويجوز أن يكون شيء واحد نقيضا لشيئين بينهما عموم وخصوص بهذا المعنى، لا بنفي ما قلناه، بل إذا أنصفت تكاد تجزم بأن الزمخشري قائل بالترادف، ولا تستفزك هذه الاحتمالات لأنها كسراب بقيعة، نعم، هذا القول بعيد منه، وهو شيخ العربية، وفتاها، فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن المدح يكون على غير الاختياري، وكأنه لذلك لم يقل عز شأنه: المدح لله، كما قالوا إظهارا، لأن الله تعالى فاعل مختار، وفي ذلك من الترغيب والترهيب المناسبين لمقام البعثة والتبليغ ما لا يخفى، وأما الشكر فهو أيضا مغاير للحمد، إلا أن بعضهم خصه بالعمل، والحمد بالقول، وبعض جعله على النعم الظاهرة، والآخر على النعم الباطنة، وادعى آخرون اختصاصه بفعل اللسان كالحمد في المشهور، إلا أنه على النعمة، وإليه يشير كلام الراغب، والمعروف أنه ما كان في مقابلتها قولا باللسان، وعملا وخدمة بالأركان، واعتقادا ومحبة بالجنان، وقول الطيبي: إن هذا عرف أهل الأصول، فإنهم يقولون: شكر المنعم واجب، ويريدون منه وجوب العبادة، وهي لا تتم إلا بهذه الثلاثة، وإلا فالشكر اللغوي ليس إلا باللسان، غير طيب، فإن ظاهر الكتاب والسنة إطلاق الشكر على غير اللسان، قال تعالى: اعملوا آل داود شكرا وروى الطبراني عن النواس بن سمعان أن ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجدعاء سرقت، فقال: (لئن ردها الله تعالى علي لأشكرن ربي) فلما ردت قال: (الحمد لله)، فانتظروا هل يحدث صوما أو صلاة، فظنوا أنه نسي فقالوا له : فقال: (ألم [ ص: 71 ] أقل: الحمد لله؟!) فلو لم يفهموا رضي الله تعالى عنهم إطلاق الشكر على العمل لم ينتظروه، وزاد بعضهم في أقسام الشكر رابعا، وهو شكر الله تعالى بالله، فلا يشكره حق شكره إلا هو، ذكره صاحب التجريد، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      وشكري ذوي الإحسان بالقلب تارة     وبالقول أخرى ثم بالعمل الأثنى
                                                                                                                                                                                                                                      وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي     ولا بلساني بل به شكرنا عنا

                                                                                                                                                                                                                                      والذي أطبق عليه الناس التثليث، وعلى كل حال بينه وبين الحمد عموم وخصوص من وجه، والحمد أقوى شعبة، لأن حقيقته إشاعة النعمة والكشف عنها، كما أن كفرانها إخفاؤها وسترها، وتلك بالقول أتم، لأن الاعتقاد أمر خفي في نفسه، وعمل الجوارح وإن كان ظاهرا، إلا أنه يحتمل خلاف ما قصد به، وكم فرق بين حمدت الله، وشكرته، ومجدته، وعظمته، وبين أفعال العبادة، وهي كلها موافقة للعادة، ولسان الحال أنطق من لسان المقال، أمر ادعائي كما هو المعروف في أمثاله، ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (الحمد رأس الشكر ما شكر الله تعالى عبد لا يحمده)، وهو وإن كان فيه انقطاع إلا أن له شاهدا يتقوى به، وإن كان مثله، فحيث كان النطق يجلي كل مشتبه، وكان الحمد أظهر الأنواع وأشهرها حتى إذا فقد، كان ما عداه بمنزلة العدم، شبهه صلى الله تعالى عليه وسلم بالرأس الذي هو أظهر الأعضاء وأعلاها، والأصل لها والعمدة في بقائها، وكأنه لهذا أتى به الرب سبحانه ليكون الرأس للرئيس، ويفتتح النفيس بالنفيس، أو لأنه لو قال جل شأنه: الشكر لله، كان ثناء عليه تعالى، بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل، والحمد لله ليس كذلك، فهو أعلى كعبا، وأظهر عبودية، ويمكن أن يقال: إن الشكر على الإعطاء، وهو متناه، والحمد يكون على المنع، وهو غير متناه، فالابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له على جانب من الحسن لا نهاية له، ودفع الضر أهم من جلب النفع، فتقديمه أحرى، وأيضا مورد الحمد في المشهور خاص، ومتعلقه عام، والشكر بالعكس موردا ومتعلقا، ففي إيراده دونه إشارة قدسية، ونكتة على ذوي الكثرة خفية، وإلى الله ترجع الأمور، وكأنه لمراعاة هذه الإشارة لم يأت بالتسبيح مع أنه مقدم على التحميد، إذ يقال: سبحان الله والحمد لله، على أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس، فإن الأول يدل على كونه سبحانه وتعالى مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص، والثاني يشير إلى كونه محسنا إلى العباد، ولا يكون محسنا إليهم إلا إذا كان عالما قادرا غنيا، ليعلم مواقع الحاجات، فيقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه، ولا يشغله حاجة نفسه عن حاجة غيره - وإن أبيت ولا أظن – قلنا: كل تسبيح حمد، وليس كل حمد تسبيحا، لأن التسبيح يكون بالصفات السلبية فحسب، والحمد بها وبالثبوتية على ما سلف، فهو أعم منه بذلك الاعتبار، فافتتح به، لأنه لجمعيته وشموله أوفق بحال القرآن، وتقديم التسبيح هناك لغرض آخر، ولكل مقام مقال، والتعريف هنا للجنس، ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو مثله في قول لبيد يصف العير وأتنه :


                                                                                                                                                                                                                                      وأرسلها العراك ولم يذدها     ولم يشفق على نفض الدخال

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 72 ] وعليه جمع منهم الزمخشري ، حتى قال: والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم، وقد صار هذا معترك الأفهام، ومزدحم أفكار العلماء الأعلام فقيل : إنه مبني على مسألة خلق الأعمال، فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة ، كانت المحامد عليها راجعة إليهم، فلا يصح تخصيص المحامد كلها به تعالى، ورد بأن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص أفراده أيضا، إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه، وصح هذا عندهم، لأن الأفعال الحسنة التي يستحق بها الحمد إنما هي بأقدار الله تعالى وتمكينه، فبهذا الاعتبار يرجع الأمر إليه كله، وأما حمد غيره فاعتداد بأن النعمة جرت على يده، وقيل: إنه جعل الجنس في المقام الخطابي منصرفا إلى الكامل، كأنه كل الحقيقة، ورد بأنه يجوز في الاستغراق أيضا بأن يجعل ما عدا محامده كالعدم، فلا فرق بين اختصاص الجنس والاستغراق في منافاتهما ظاهرا لمذهبه، ودفعهما بالعناية، وقيل: مبناه على أن المصادر نائبة مناب الأفعال، وهي لا تعدو دلالتها عن الحقيقة إلى الاستغراق، ورد بأن ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة القرائن، وقيل: إنما اختاره بناء على أنه المتبادر الشائع لا سيما في المصادر، وعند خفاء القرائن، ورد بأن المحلى بلام الجنس في المقامات الخطابية يتبادر منه الاستغراق، وهو الشائع هناك مطلقا، وأي مقام أولى بملاحظة الشمول والاستغراق من مقام تخصيص الحمد به سبحانه تعظيما، فقرينة الاستغراق كنار على علم، فالحق أن سبب الاختيار هو أن اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام، ومستلزم لاختصاص جميع الأفراد، فلا حاجة في تأدية المقصود من إثبات الحمد له تعالى، وانتفائه عن غيره إلى أن يلاحظ بمعونة الأمور الخارجية، بل نقول على ما اختاره يكون اختصاص الأفراد بطريق برهاني، فيكون أقوى من إثباته ابتداء، وفيه أن فهم اختصاص الجنس من جوهر الكلام يدل على سرعته، وهو معنى التبادر، وقد رده، وأيضا إذا كان الاختصاص بطريق برهاني فلا شبهة في خفائه، فأين النار، وأين العلم؟! وقيل غير ذلك، ولا يبعد أن يقال: إن اختيار الزمخشري كون التعريف للجنس، وكون القول بالاستغراق وهم، لا يبعد أن يكون رعاية لنزغة اعتزالية، وأن يكون لنكتة عربية، لأنه جعل أصل المعنى نحمد الله حمد،ا وزعم أن إياك نعبد وإياك نستعين بيان لحمدهم، كأنه قيل: كيف تحمدوني؟ فقيل: إياك نعبد ثم سئل وأجاب فقيل في توجيه ذلك: إنه لما كان معناه: نحمد الله حمدا، كان إخبارا عن ثبوت حمد غير معين من المتكلم له تعالى، على أن المصدر للعدد، فاتجه أن يقال: كيف تحمدونه، أي بينوا كيفية حمدكم، فإنها غير معلومة، فبين بقوله تعالى: إياك نعبد إلخ، أي نقول هذه الكلمات ونحمده بهذا الحمد، فورد السؤال عن التعريف، لأن المناسب للإبهام، ثم البيان التنكير، وأجاب أنه لتعريف الجنس من حيث وجوده في فرد غير معين، ولذا بين، وقيل : لما كان المعنى نحمد حمدا، كان المصدر للتأكيد، فيكون دالا على الحقيقة من غير دلالة على الفردية، والسؤال المقدر عن كيفية صدور تلك الحقيقة والجواب: أنا نحمد حمدا مقارنا لفعل الجوارح، وفعل القلب ولا نقتصر على مجرد القول، ثم أورد بأنه لإفادة هذا المصدر المنكر، فما فائدة التعريف؟ فأجاب بأنه تعريف للجنس للإشارة إلى الماهية المعلومة للمخاطب من حيث هي، وعلى هذين التوجيهين يكون اختياره الجنس، ومنعه الاستغراق لرعاية مذهبه، والاختصاص على الأول اختصاص الفرد، وعلى الثاني اختصاص الجنس باعتبار الكمال ولا يخفى سقوط اعتراض السعد حينئذ بأن الاختصاصين متلازمان، وكل منهما مخالف لمذهبه ظاهرا، موافق له تأويلا، فلا يكون رعاية المذهب موجبا لاختيار الجنس دون الاستغراق ولا يرد ما أورد السيد على الثاني من أنه كما يجوز الحمل على الجنس باعتبار الكمال على مذهبه يجوز الحمل على الاستغراق باعتبار تنزيل محامد غيره منزلة العدم، لأن فيه تطويل المسافة، والالتجاء إلى معونة المقام من غير حاجة، وقيل: حاصل الجواب عن كيفية صدور تلك [ ص: 73 ] الحقيقة بتخصيص العبادة المشتملة على الحمد وغيره، لأن انضمام غيره معه نوع بيان لكيفيته، أي حال حمدنا أنا نجمعه بسائر عبادات الجوارح، والاستعانة في المهمات، ونخص مجموعها بك، وتقدير السؤال والجواب بحاله، وحينئذ لا يصح أن يكون الاختيار للرعاية، لأن الاختصاصين متلازمان، بل لأن الحمد مصدر سد مسد الفعل، وهو لا يدل إلا على الحقيقة، فكذا ما ينوب منابه، وإن كان معرفة ليصح بيانه بإياك نعبد، والحمل على الاستغراق يبطل النيابة، إذ يصير الكلام مسوقا لبيان العموم، ولا يصح البيان، وهذا الاختيار مستفاد من جعل إياك نعبد بيانا لحمدهم، ولعل الذي دعاه إليه ترك العاطف، فظن أنه لذلك لا يكون إلا بيانا، وهو من التعكيس، لأن جعل الصدر متبوعا للعجز أولى من العكس، فالمحققون المحقون على تعميم الحمد، وأن الفصل، لأن الكلام الأول جار على المدح للغائب بسبب استحقاقه كل الحمد، والثاني جار على الحكاية عن نفس الحامد، وبيان أحواله بين يدي الباطن الظاهر، والأول الآخر، فترك العطف للتفرقة بين الحالتين لا للبيان، ويدل على ذلك أن أحسن الالتفات أن يكون النقل من إحدى الصيغتين إلى الأخرى في سياق واحد، لمعلوم واحد، ولا بيان له على البيان، على أن جعل إياك نعبد بيانا ربما يناقض ما ادعاه من أن الشكر بالقلب والجوارح واللسان، والحمد بالأخير، لأن العبادة تكون بها كلها، فيلزم أن يكون الحمد كذلك، وأيضا الذهاب إلى فسحة الالتفات والقول بأن قوله الحمد إلخ، وارد على الشكر اللساني، و إياك نعبد مشعر بالشكر بالجوارح، وإياك نستعين مؤذن بالشكر القلبي أولى من الفرار إلى مضيق القول بالبيان، وأيضا في تعقيب هذه الصفات للحمد إشعار بأن استحقاقه له لاتصافه بها، وقد تقرر أن في اقتران الوصف المناسب بالحكم إشعارا بالعلية، وههنا الصفات بأسرها تضمنت العموم، فينبغي أن يكون العموم في الحمد أيضا، لأن الشكر يقتضي المنعم، والمنعم عليه، والنعمة، فالمنعم هو الله تعالى، والاسم الأعظم جامع لمعاني الأسماء الحسنى ما علم منها وما لم يعلم، والمنعم عليه العالمون، وقد اشتمل على كل جنس مما سمى به، وموجب النعم الرحمن الرحيم، وقد استوعب ما استوعب، فإذن لا يستدعي تخصيص الحكم بالبعض سوى التحكم، أو التوهم، هذا وأنا لو خليت وطبعي لا أمنع أن تكون أل للحقيقة من حيث هي كما في قولهم: الرجل خير من المرأة، أو لها من حيث وجودها في فرد غير معين، كما في: ادخل السوق أو لها، في جميع الأفراد، وهو الاستغراق كما في إن الإنسان لفي خسر والقول بأن هذا المقام آب عن الاستغراق لأن اختصاص حقيقة الحمد به تعالى أبلغ من اختصاص أفرادها جمعا وفرادى لاستلزام الأول الثاني، وسلوك طريقة البرهان أقضى لحق البلاغة، وأيضا أصل الكلام: نحمد الله تعالى حمدا، وحمدنا بعض لا كل، وفي اختصاص الجنس إشعار بأن حمد كل حامد لكل محمود حمد لله تعالى على الحقيقة، لأنه إنما حمده على الصفات الكمالية المفاضة عليه من الفياض الحق جل وعلا، فهو فعله على الحقيقة، والحمد على الفعل الجميل، والمعتزلي وإن قال بالاستقلال لا يمنع أن الأقدار والتمكين منه تعالى، فيمكنه من هذا الوجه أن يعمم عند المقتضي له، وقد صرح بهذا الزمخشري أول التغابن فقال في قوله تعالى : له الملك وله الحمد قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى، ثم قال: وأما حمد غيره فاعتداد بأن نعمة الله تعالى جرت على يده، وقد يقال أيضا على أصله إن الحمد المستغرق لا يجوز أن يختص، بل الحمد الحقيقي الكامل الذي يقتضيه إجراء هذه الصفات، فاللام للحقيقة، ويراد أكمل أنواعها، فهو من باب ذلك الكتاب، وحاتم الجود، لأنه الذي يحق أن يطلق عليه الحقيقة، حتى كأنه كلها، لا لأنها للاستغراق في المقام الخطابي، وتنزيل غير ذلك منزلة العدم، فإنه تطويل للمسافة مع قصرها كلام لا أقبله، وإن جل قائله، ويعرف الرجال بالحق، لا الحق [ ص: 74 ] بالرجال، كيف ومن سنة الله تعالى التي لا تبديل لها إجراء الكلام على سبيل الخطابة، وإن كان برهانيا، فهي أكثر تأثيرا في النفوس، وأنفع لعوام الناس، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فالتحرز عن الاستغراق احترازا عن المقام الخطابي ذهول عن مقرئ كلام الله تعالى، ثم لما كان المقام مقتضيا لدقائق النعم وروافدها، لم يكن تنزيل الحمد الغير الكامل منزلة العدم من مقتضيات المقام، وتصريح الزمخشري في التغابن بالتعميم ممنوع للتفرقة بين استغراق أفراد الحمد الخارجية والذهنية الحقيقية والمجازية الكاملة وغير الكاملة، وبين اختصاص حقيقة الحمد كما يشعر به قوله، وذلك لأن الملك على الحقيقة له، وكذلك الحمد فكما أنه لا ينفي الملك عن غيره مطلقا، فكذلك لا ينفي الحمد عنه كذلك، فإن من أصل المعتزلة أن نعمة الله تعالى جارية على يد العبد، لكنه موجد لانعمامه فله حمد يليق بإيجاده، ولله تعالى حمد يليق بتمكينه وإفاضته، وهو الحمد الكامل المختص به عز شأنه، لا ذاك، وفي الكشاف ما يؤيد ما قلناه لمن أمعن النظر، وأما حديث: إن اختصاص حقيقة الحمد أبلغ من اختصاص الأفراد لاستلزام الأول الثاني، فيجاب عنه بأن اختصاص الأفراد الخارجية والذهنية كما قررنا مستلزم لاختصاص الحقيقة أيضا، إذ لم يبق لها فرد غير مختص، فأين توجد؟ فالاستلزام متعاكس، على أن حقيقة الحمد يصدق عليها الحمد، فهي فرد من أفراده، كما قال الدامغاني : فإذا خصص جميع أفراد الحمد به اختص حقيقته أيضا، وكون الأصل: نحمد الله تعالى حمدا، ليس بقاطع احتمال الاستغراق الآن، فقد تغير الحال، وأنت إذا تأملت بعد، يرتفع عنك سجاف الإشكال، ولست أقول: إن الحمد أينما وقع يفيد ذلك، بل إذا دعا المقام إليه أجبناه، ولهذا فرقوا بين هذا الحمد، وحمد الإنعام، إذ عموم الربوبية وشمول الرحمة واستمرار الملك هنا تقتضي استغراق الأفراد توفية لحق هذه السورة، وحرصا على التئام نظمها، بخلاف ما في تلك السورة، فإن المعلومات مفقودة فيها، ومن الغريب أن بعضهم جعلها للعهد، قال الفاكهي : سمعت شيخنا أبا العباس المرسي يقول لابن النحاس: ما تقول في الألف واللام في الحمد، أجنسية هي أم عهدية؟ فقال: يا سيدي، قالوا: إنها جنسية، فقلت له الذي أقول: إنها عهدية، وذلك أن الله تعالى لما علم عجز خلقه عن كنه حمده حمد نفسه بنفسه في أزله نيابة عن خلقه، قبل أن نحمده، فقال: أشهدك أنها للعهد، واستأنس له بما صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من قوله: (اللهم لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، وأغرب من هذا ما ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، وليس بالغريب عندهم أن الحمد لله على حد الكبرياء لله، و ألا له الخلق والأمر فهو الحامد والمحمود، والجميع شئونه، ولهم كلام غير هذا، والكل يسقى بماء واحد، وعن إمامنا الماتريدي روح الله تعالى روحه أنه جعل هذا حمدا من الله تعالى لنفسه، قال: وإنما حمد نفسه ليعلم الخلق، ولا ضير في ذلك، لأنه سبحانه هو المستحق لذاته، والحقيق بما هنالك، إذ لا عيب يمسه، ولا آفة تحل به، ثم أن الحمد فيما تواتر مرفوع، وهو مبتدأ خبره لله، وقرأ الحسن البصري ، وزيد بن علي (الحمد لله) بإتباع الدال اللام، وإبراهيم بن عبلة وأهل البادية بالعكس، وجاز ذلك استعمالا مع أن الإتباع إنما يكون في كلمة واحدة لتنزيلهما، لكثرة استعمالهما مقترنين منزلة الكلمة الواحدة، واختلف في الترجيح مع الإجماع على الشذوذ، فقيل: قراءة إبراهيم أسهل لأمرين: أحدهما أن إتباع الثاني للأول أيسر من العكس، وإن ورد كما في مد وشد، وأقبل وأدخل، لأنه جار مجرى السبب، والمسبب، وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب، وثانيهما أن ضمة الدال إعراب، وكسرة اللام بناء، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، [ ص: 75 ] والمطرد غلبة الأقوى الأضعف، وقيل: إن قراءة الحسن أحسن لأن الأكثر جعل الثاني متبوعا، لأن ما مضى فات، ولأن جعل غير اللازم تابعا للازم أولى، والاستقامة عين الكرامة، وكأنه لتعارض الترجيح قال الزمخشري : وأشف القراءتين قراءة إبراهيم، فعبر بأشف، وهو من الأضداد، وقرأ هارون بن موسى : (الحمد لله) بالنصب، وعامة بني تميم، وكثير من العرب ينصبون المصادر بالألف واللام، وهو بفعل محذوف قدروه: نحمد بنون الجماعة، لأنه مقول على ألسنة العباد، ومناسب لـــنعبد، ونستعين، لا بنون العظمة لعدم مناسبته لمقام العبادة المقتضي لغاية التذلل والخضوع، ويجوز أن يكون من باب:


                                                                                                                                                                                                                                      وإن حدثوا عنها فكلي مسامع     وكلي إذا حدثتهم ألسن تتلو



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية