ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين الود محبة الشيء، وتمني كونه، ويذكر ويراد كل واحد منهما قصدا، والآخر تبعا، والفارق كون مفعوله جملة إذا استعمل في التمني، ومفردا إذا استعمل في المحبة، فتقول على الأول : وددت لو تفعل كذا، وعلى الثاني: وددت الرجل، ونفيه كناية عن الكراهة، وأتى (بما) للإشارة [ ص: 350 ] إلى أن أولئك متلبسون بها، (ومن) للتبيين، وقيل : للتبعيض، وفي إيقاع الكفر صلة للموصول وبيانه بما بين وإقامة المظهر موضع المضمر إشعار بأن كتابهم يدعوهم إلى متابعة الحق، إلا أن كفرهم يمنعهم، وإن الكفر شر كله، لأنه الذي يورث الحسد، ويحمل صاحبه على أن يبغض الخير، ولا يحبه كما أن الإيمان خير كله، لأنه يحمل صاحبه على تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى، (ولا) صلة لتأكيد النفي، وزيدت له هنا دون قوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين لما أن مبنى النفي الحسد، واليهود بهذا الداء أشهر لا سيما وقد تقدم ما يفيد ابتلاءهم به، فلم يلزم من نفي ودادتهم هذه نفي ودادة المشركين لها، ولم يكن ذلك في (لم يكن)، وسبب نزول الآية أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمد ، فقالوا : وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه، فأكذبهم الله تعالى بذلك، وقيل : نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين، ويزعمون أنهم يودون لهم الخير، وفصلت عما قبل، وإن اشتركا في بيان قبائح اليهود مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين لاختلاف الغرضين، فإن الأول لتأديب المؤمنين، وهذا لتكذيب أولئك الكافرين، ولأجل هذا الاختلاف فصل السابق عن سابقه، ومما ذكرنا يعلم وجه تعلق الآية بما قبلها، والقول بأن ذلك من حيث إن القول المنهي عنه كثيرا ما كان يقع عند تنزيل الوحي المعبر عنه بالخير فيها، فكأنه أشير إلى أن سبب تحريفهم له، إلى ما حكي عنهم لوقوعه في أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل الخير، مساق على سبيل الترجي، وأظنه إلى التمني أقرب، وقرئ (ولا المشركون) بالرفع عطفا على (الذين كفروا)، أن ينزل عليكم في موضع النصب على أنه مفعول (يود)، وبناء الفعل للمفعول للثقة بتعيين الفاعل وللتصريح به فيما بعد، وذكر التنزيل دون الإنزال رعاية للمناسبة بما هو الواقع من تنزيل الخيرات على التعاقب، وتجددها لا سيما إذا أريد من خير في قوله تعالى : (من خير) الوحي، وهو قائم مقام الفاعل، (ومن) صلة، وزيادة خير، والنفي الأول منسحب عليها، ولذا ساغت زيادتها عند الجمهور، ولا حاجة إلى ما قيل : إن التقدير يود أن لا ينزل خير، وذهب قوم إلى أنها للتبعيض، وعليه يكون (عليكم) قائما ذلك المقام، والمراد من الخير إما الوحي أو القرآن أو النصرة، أو ما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزايا أو عام في أنواع الخير كلها، لأن المذكورين لا يودون تنزيل جميع ذلك على المؤمنين عداوة وحسدا وخوفا من فوات الدراسة، وزوال الرياسة، وأظهر الأقوال كما في البحر الأخير، ولا يأباه ما سيأتي لما سيأتي.
من ربكم في موضع الصفة للخير، (ومن) ابتدائية، والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية التنزيل، والإضافة إلى ضمير المخاطبين لتشريفهم، والله يختص برحمته من يشاء جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له، والمراد من الرحمة ذلك الخير إلا أنه عبر عنه بها اعتناء به، وتعظيما لشأنه، ومعنى اختصاص ذلك على القول الأول ظاهر، ولذا اختاره من اختاره، وعلى الأخير انفراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بمجموعه، وعدم شركة أولئك الكارهين فيه، وعروهم عن ترتب آثاره، وقيل : المراد من الآية دفع الاعتراض الذي يشير إليه الحسد بأن من له أن يخص لا يعترض عليه، إذا عم، وفي إقامة لفظ الله مقام ضمير ربكم تنبيه على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض يلائم الألوهية، كما أن إنزال الخير على العموم يناسب الربوبية، والباء داخلة على المقصور، أي يؤتي رحمته، (ومن) مفعول، وقيل : الفعل لازم، (ومن) فاعل، وعلى التقديرين، العائد محذوف، والله ذو الفضل العظيم تذييل لما سبق [ ص: 351 ] وفيه تذكير للكارهين الحاسدين بما ينبغي أن يكون مانعا لهم، لأن المعنى على أنه سبحانه المتفضل بأنواع التفضلات على سائر عباده، فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا، ويود عدم إصابة خير له، والكل غريق في بحار فضله الواسع الغزير كذا قيل، وإذا جعل الفضل عاما، وقيل بإدخال النبوة فيه دخولا أوليا، لأن الكلام فيها على أحد الأقوال كان هناك إشعار بأن النبوة من الفضل، لا كما يقوله الحكماء من أنها بتصفية الباطن، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته، وما عرف فيه من حكمته، وتصدير هذه الجملة بالاسم الكريم لمناسبة العظيم