إن ابني من أهلي بقوله سبحانه : قال يا نوح إنه ليس من أهلك إلى قوله تبارك وتعالى : إني أعظك أن تكون من الجاهلين ومن ذلك يعلم الفرق وهو لعمري غير خفي بين مقام الحبيب ورتبة الصفي ، وقد قيل : إن المحب يعتذر عن حبيبه ولا ينقصه عنده كلام معيبه ، وأنشد :
ما حطك الواشون عن رتبة كلا وما ضرك مغتاب كأنهم أثنوا ولم يعلموا
عليك عندي بالذي عابوا
في وجهه شافع يمحو إساءته عن القلوب ويأتي بالمعاذير
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
[ ص: 141 ] وقوله سبحانه : لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر فيه إشارة إلى أن المؤمن إذا سمع بخبر خير طار إليه وأتاه ولو مشيا على رأسه ويديه ولا يفتح فيه فاه بالاستئذان ، وهل يستأذن في شرب الماء ظمآن؟ وقال الواسطي : إن المؤمن الكامل مأذون في سائر أحواله إن قام قام بإذن وإن قعد قعد بإذن، وإن لله سبحانه عبادا به يقومون وبه يقعدون ، ومن شأن المحبة امتثال أمر المحبوب كيفما كان :
لو قال تيها قف على جمر الغضى لوقفت ممتثلا ولم أتوقف
إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر إلخ أي إنما يستأذنك المنافقون رجاء أن لا تأذن لهم بالخروج فيستريحوا من نصب الجهاد ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة فقد قيل :
لو صح منك الهوى أرشدت للحيل
( ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم ) إشارة إلى خذلانهم لسوء استعدادهم وإن جهنم لمحيطة بالكافرين لأن الأخلاق السيئة والأعمال القبيحة محيطة بهم وهي النار بعينها، غاية الأمر أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة الأخلاق والأعمال، وستظهر في النشأة الأخرى بالصورة الأخرى ، وقوله تعالى : ( ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ) فيه إشارة إلى حرمانهم لذة طعم العبودية واحتجابهم عن مشاهدة جمال معبودهم وأنهم لم يعلموا أن المصلي يناجي ربه وأن الصلاة معراج العبد إلى مولاه ، ومن هنا قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " " . وقال وجعلت قرة عيني في الصلاة محمد بن الفضل : من لم يعرف الآمر قام إلى الأمر على حد الكسل، ومن عرف الآمر قام إلى الأمر على حد الاستغنام والاسترواح ، ولذا لبلال : أرحنا يا بلال، وقوله تعالى : كان عليه الصلاة والسلام يقول فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فيه تحذير للمؤمنين أن يستحسنوا ما مع أهل الدنيا من الأموال والزينة فيحتجبوا بذلك عن عمل الآخرة ورؤيتها ، وقد ذكروا أن الناظر إلى الدنيا بعين الاستحسان من حيث الشهوة والنفس والهوى يسقط في ساعته عن مشاهدة أسرار الملكوت وأنوار الجبروت ، وقوله سبحانه : ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله إلخ فيه إرشاد إلى آداب الصادقين والعارفين والمريدين ، وعلامة الراضي النشاط بما استقبله من الله تعالى والتلذذ بالبلاء ، فكل ما فعل المحبوب محبوب .
رؤى أعمى أقطع مطروح على التراب يحمد الله تعالى ويشكره ، فقيل له في ذلك فقال : وعزته وجلاله لو قطعني إربا إربا ما ازددت له إلا حبا ، ولله تعالى در من قال :
أنا راض بالذي ترضونه لكم المنة عفوا وانتقاما
ثم إنه سبحانه قسم جوائز فضله على ثمانية أصناف من عباده فقال سبحانه : إنما الصدقات للفقراء إلخ ، والفقراء في قول المتجردون بقلوبهم وأبدانهم عن الكونين ( والمساكين ) هم الذين سكنوا إلى جمال الأنس ونور القدس حاضرين في العبودية بنفوسهم غائبين في أنوار الربوبية بقلوبهم فمن رآهم ظنهم بلا قلوب ولم يدر أنها تسرح في رياض جمال المحبوب ، وأنشد :
مساكين أهل العشق ضاعت قلوبهم فهم أنفس عاشوا بغير قلوب
( والعاملين ) هم أهل التمكين من العارفين وأهل الاستقامة من الموحدين الذين وقعوا في نور البقاء فأورثهم البسط والانبساط ، فيأخذون منه سبحانه ويعطون له ، وهم خزان خزائن جوده المنفقون على أوليائه ، قلوبهم معلقة بالله سبحانه لا بغيره من العرش إلى الثرى ( والمؤلفة قلوبهم ) هم المريدون السالكون طريق محبته تعالى برقة قلوبهم وصفاء نياتهم وبذلوا مهجهم في سوق شوقه وهم عند الأقوياء ضعفاء الأحوال وفي الرقاب [ ص: 142 ] هم الذين رهنت قلوبهم بلذة محبة الله تعالى وبقيت نفوسهم في المجاهدة في طريقه سبحانه لم يبلغوا بالكلية إلى الشهود، فتارة تراهم في لجج بحر الإرادة ، وأخرى في سواحل بحر القرب ، وطورا هدف سهام القهر ، ومرة مشرق أنوار اللطف ولا يصلون إلى الحقيقة ما دام عليهم بقية من المجاهدة، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم والأحرار ما وراء ذلك، وقليل ما هم :
أتمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاي طلعة حر
وإذا الكريم أتيته بخديعة فرأيته فيما تروم يسارع
فاعلم بأنك لم تخادع جاهلا إن الكريم لفضله متخادع
أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم إذا غبتم عنها ونحن حضور
إذا كنت عني يا منى القلب راضيا أرى كل من في الكون لي يتبسم