فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين 29 على عدم الارتضاء لا على عدم الشعور لأن عدم شعور الملائكة بعبادتهم غير ظاهر بل لو قيل بوجوب هذا الحمل على القول بأن المراد المسيح عليه السلام أيضا لم يبعد لأن عدم شعوره بعبادتهم مع أنه سينزل ويكسر الصليب كذلك ولا يكاد يصح الحمل على الظاهر إلا إذا كان المراد الأصنام فإن عدم شعورهم بذلك ظاهر وتعقب بأنه لا دليل على شعور الملائكة عليهم السلام بعبادتهم ليصرف له اللفظ عن حقيقته وليس هؤلاء المعبودون هم الحفظة أو الكتبة بل ملائكة آخرون ولعلهم مشغلون بأداء ما أمروا به عن الالتفات إلى ما في هذا العالم ونحن لا ندعي في الملائكة عليهم السلام ما يدعيه الفلاسفة فإنهم الذين قالوا يوم استنبئوا عن الأسماء: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا وهذا جبريل عليه السلام من أجلهم قدرا كان كثيرا ما يسأله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أشياء فيقول: لا أعلم، وسوف أسأل ربي . وكذا لا دليل على شعور المسيح عليه السلام بعبادة هؤلاء المخاطبين عند إيقاعها وكونه سينزل ويكسر الصليب لا يستدعي الشعور بها كذلك كما لا يخفى وقد يستأنس لعدم شعوره بما حكى الله تعالى عنه في الجواب عن سؤاله له عليه السلام من قوله: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد واعترض على القول الأخير بأنه لا يصح مع هذا القول [ ص: 109 ] مطلقا لأن الشياطين هم الذين زينوا لهم هذه الشنيعة الشنعاء وأغروهم عليها فكيف يتأتى القول بأنهم غافلون حقيقة عنها أو أنهم غير مرتضين لها ولعل من ذهب إلى ذلك يلتزم الكذب ويقول بجواز وقوعه يوم القيامة
وقيل: إن القول الأول لا يصح مع هذا القول أيضا مطلقا لأن الأوثان لا تتصف بالغفلة حقيقة لأنها كما يفهم من القاموس اسم لترك الشيء وذهاب القلب عنه إلى غيره وهذا شأن ذوي القلوب والأوثان ليست من ذلك وكذا لا تتصف بها مجازا عن عدم الارتضاء إذ الظاهر أن مرادهم من عدم الارتضاء السخط والكراهة وظاهر أن الأوثان لا تتصف بسخط ولا ارتضاء إذ هما تابعان للإدراك ولا إدراك لها ومن أثبته للجمادات حسب عالمها فالأمر عنده سهل ومن لا يثبته يقول: إنها مجاز عن عدم الشعور وقد يقال: إن المراد بغفلتهم عن عبادة المشركين عدم طلبهم الاستعدادي لها ويرجع ذلك بالآخرة إلى نفي استحقاق العبادة عن أنفسهم وإثبات الظلم لعابديهم
وحينئذ فالأظهر أن يراد بالشركاء جميع ما عبد من دون الله تعالى من ذوي العقول وغيرهم والكل صادق في قوله ذلك وقد يراد من عدم الطلب ما يشمل عدم الطلب الحالي والقالي إذا اعتبر كون القائل ممن يصح نسبة ذلك له كالملائكة عليهم السلام وهذا الوجه لا يتوقف على شعور الشركاء بعبادتهم ولا على عدمه فيجوز أن يكون لهم شعور بذلك ويجوز أن لا يكون لهم شعور والظاهر أن تفسير الغفلة بعدم الارتضاء المراد منهم على ما قيل السخط والكراهة يستدعي الشعور إذ كراهة الشيء مع عدم الشعور به مما لا يكاد يعقل وإثباته لجميع الشركاء ولو إجمالا في وقت من الأوقات الدنيوية غير مسلم ولعل التعبير بالغفلة أكثر تهجينا للمخاطبين ولعبادتهم من التعبير بعدم الطلب مثلا فتأمل والباء في بالله صلة و شهيدا تمييز و إن مخففة من أن واللام هي الفارقة بين المخففة والنافية والظرف متعلق بغافلين والتقديم لرعاية الفاصلة أي كفى الله شهيدا فإنه العليم الخبير المطلع على كنه الحال إنا كنا غافلين عن عبادتكم والظاهر من كلام بعض المحققين أن فكفى إلخ استشهاد على النفي السابق لا على الإثبات اللاحق