(الخامس) أنها مطلوبة لله تعالى من العبادة، والاستعانة مطلوبهم منه سبحانه، فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه، السادس أن العبادة واجبة حتما لا مناص للعباد عن الإتيان بها، حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن، فكانت أحق بالتقديم، السابع أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء، والاستعانة أقوى التئاما بطلب الهداية، الثامن أن مبدأ الإسلام التخصيص بالعبادة، والخلوص من الشرك، والتخصيص بالاستعانة بعد الرسوخ، التاسع أن في تأخير فعل الاستعانة توافق رؤوس الآي، العاشر أن أحدهما إذا كان مرتبطا بالآخر لم يختلف التقديم والتأخير كما يقال: قضيت حقي، فأحسنت إلي، وأحسنت إلي فقضيت حقي.
(الحادي عشر) أن مقام السالكين ينتهي عند قوله: إياك نعبد وبعده يطلب التمكين، وذلك أن الحمد مبادي حركة المريد، فإن نفس السالك إذا تزكت ومرآة قلبه إذا انجلت فلاحت فيها أنوار العناية الموجبة للولاية تجردت النفس الزكية للطلب فرأت آثار نعم الله تعالى عليها سابغة، وألطافه غير متناهية، فحمدت على ذلك، وأخذت في الذكر، فكشف لها الحجاب من وراء أستار العزة عن معنى رب العالمين، فشاهدت ما سوى الله سبحانه على شرف الفناء مفتقرا إلى المبقي محتاجا إلى التربية، فترقت لطلب الخلاص من وحشة الإدبار وظلمة السكون إلى الأغيار فهبت لها من نفحات جناب القدس نسائم ألطاف الرحمن الرحيم، فعرجت للمعات بوارق الجلال من وراء سجاف الجمال إلى الملك الحقيقي، فنادت بلسان الاضطرار في مقام لمن الملك اليوم لله الواحد القهار أسلمت نفسي إليك، وأقبلت بكليتي عليك، وهناك خاضت لجة الوصول، وانتهت إلى مقام العين، فحققت نسبة العبودية، فقال إياك نعبد وهنا انتهاء مقام السالك. [ ص: 89 ] ألا يرى إلى سيد الخلق وحبيب الحق كيف عبر عن مقامه هذا بقوله : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا فطلب التمكين بقوله : وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم واستعاذ عن التلوين بقوله: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فصعد مستكملا، ورجع مكملا، وكأنه لهذا سميت الصلاة معراج المؤمنين، البحث الرابع في سر الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وقد ازدحمت فيه أذهان العلماء بعد بيان نكتته العامة، وهي التفنن في الكلام، والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له، وتنشيطا للسامع، فقيل: لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات، وتعلق العلم بمعلوم معين، خوطب بذلك ليكون أدل على الاختصاص والترقي من البرهان إلى العيان، والانتقال من الغيبة إلى الشهود، وكأن المعلوم صار عيانا، والمعقول مشاهدا، والغيب حضورا، وقيل: لما شرح الله تعالى صدر عبده، وأفاض على قلبه، وقالبه نور الإيمان والإسلام من عنده، ترقى بذريعة الحمد المستجاب لمزيد النعم إلى رتبة الإحسان، وهو تعبد الله تعالى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك)، وأيضا (أن وقالبه الإسلام، ومعناه وروحه الإيمان، ونوره ونوره الإحسان، وفي (نعبد) والالتفات تتم الأمور الثلاثة، وأيضا لما تبين أنه ملك في الأزل ما في أحايين الأبد علم أن الشاهد والغائب والماضي والمستقبل بالنسبة إليه على حد سواء، فلذلك عدل عن الغيبة إلى الخطاب، ويحتمل أن يكون السر أن الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء، والثناء في الغيبة أولى، ومن هنا إلى الآخر دعاء، وهو في الحضور أولى، والله تعالى حي كريم، وقيل: إنه لما كان الحمد لا يتفاوت غيبة وحضورا بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل وأتم، وكانت العبادة إنما يستحقها الحاضر الذي لا يغيب كما حكى سبحانه عن حقيقة العبادة انقياد النفس الأمارة لأحكام الله تعالى وصورته، إبراهيم عليه السلام فلما أفل قال لا أحب الآفلين لا جرم عبر سبحانه وتعالى عن الحمد بطريق الغيبة، وعنها بطريق الخطاب إعطاء لكل منهما ما يليق من النسق المستطاب، وأيضا من تشبه بقوم فهو منهم، فالعابد لما رام ذلك سلك مسلك القوم في الذكر، ومزج عبادته بعبادتهم، وتكلم بلسانهم، وساق كلامه على طبق مساقهم عسى أن يصير محسوبا في عدادهم، مندرجا في سياقهم.
إن لم تكونوا منهم فتشبهوا إن التشبه بالكرام فلاح
وأيضا فيه إشارة إلى أن من لزم جادة الأدب، والانكسار، ورأى نفسه بعيدا عن ساحة القرب لكمال الاحتقار فهو حقيق أن تدركه رحمة إلهية، وتلحقه عناية أزلية، تجذبه إلى حظائر القدس، وتطلعه على سرائر الأنس، فيصير واطئا على بساط الاقتراب، فائزا بعز الحضور، وسعادة الخطاب، وأيضا أنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة، فإن خطبها عظيم، ومن أدب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب، قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره، ليأتي بها العابد خالية عن الكلال عارية عن الفتور والملال، مقرونة بكمال النشاط، موجبة لتمام الانبساط.حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي فأنت بمرأى من سعاد ومسمع