والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما، فإذا استعمل في الأول توفر له حظ الأصل فيقال: ركبت الفرس وعليه قوله تعالى: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال: ركبت في السفينة وعليه الآية الكريمة، وقوله سبحانه: فإذا ركبوا في الفلك و حتى إذا ركبا في السفينة خرقها انتهى، وظاهره أن الركوب ههنا حقيقي وصرح بعضهم أنه ليس به.
وقال الركوب في الأصل كون الإنسان على ظهر حيوان، وقد يستعمل في السفينة وفيه تأكيد لما صرح به البعض (بسم الله) حال من فاعل الراغب: اركبوا والباء للملابسة ولما كانت ملابسة اسم الله عز اسمه بذكره قالوا: المعنى اركبوا مسمين الله وجوزوا أن تكون الحال محذوفة وهذا معمول لها ساد مسدها ولذلك سموه حالا، والأصل اركبوا قائلين بسم الله مجراها ومرساها نصب على الظرفية أي وقت إجرائها وإرسائها على أنهما اسما زمان أو مصدران ميميان بمعنى الإجراء والإرساء، ويقدر مضاف محذوف وهو وقت كما في قولك: أتيتك خفوق النجم، فإن التقدير وقت خفوقه إلا أنه لما حذف المضاف سد المضاف إليه مسده وانتصب انتصابه وهو كثير في المصادر، ويجوز أن يكونا اسمي مكان وانتصابهما بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور أو بقائلين، ولا يجوز أن يكون –باركبوا- إذ ليس المعنى على اركبوا في وقت الإجراء والإرساء، أو في مكانهما، وإنما المعنى متبركين أو قائلين فيهما، وتعقب القول بانتصابهما مطلقا بأنهما محدودان ومحدود المكان لا بد له من في وبعضهم يجوز النصب في مثل ذلك بما فيه من الإبهام، وجوز رفعهما فاعلين بالظرف لاعتماده على ذي الحال أو على أنهما مبتدأ ومعطوف عليه؛ وبسم الله خبر أو الخبر محذوف تقديره متحققان ونحوه وهو صلة لهما، والجملة إما مقتضية منقطعة عما قبلها لاختلافهما خبرا وطلبا على أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب في السفينة ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم الله تعالى، أو بأن إجراءها وإرساءها باسمه تعالى متحققان لا يشك فيهما، وفي ذلك حث على الركوب وإزالة لما عسى يختلج في قلوبهم من خوف الغرق ونحوه، ويروى عن أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجريها يقول بسم الله فتجري وإذا أراد [ ص: 57 ] أن يرسيها قال: بسم الله فترسو، وإما في موضع الحال من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم الله وهي حال مقدرة إذ لا إجراء ولا إرساء وقت الركوب كذا قيل، وتعقبه في التقريب بأن الحال إنما تكون مقدرة إذا كانت مفردة كمجراة، أما إذا كانت جملة فلا لأن معنى اركبوا وإجراؤها (بسم الله) وهذا واقع حال الركوب انتهى، وأجاب عنه في الكشف بأنه لا فرق بين قوله تعالى: (ادخلوها خالدين) وقول القائل: ادخلوها وأنتم مخلدون في عدم المقارنة والرجوع إلى الحال المقدرة، فكذلك ما نحن فيه، واعترض على المجيب بأن مراد ذلك القائل إجراؤها مجرى المفرد على نحو كلمته فوه إلى في بأنه تكلف لا حاجة إليه، وهو غير مسلم في المستشهد به أيضا، وإنما ذلك في قول القائل كلمته فاه إلى في انتهى، وكأنه لم ينكشف له مراد صاحب التقريب فإنهم ذكروا أن الفرق بين الحال إذا كانت مفردة وإذا كانت جملة أن الثانية تقتضي التحقق في نفسها والتلبس بها، وربما أشعرت بوقوعها قبل العامل واستمرارها معه كما إذا قلت: جاءني وهو راكب فإنه يقتضي تلبسه بالركوب واستمراره عليه، وهذا ينافي كونها منتظرة ولا أقل من أن لا يحسن الحمل عليه حيث تيسر الإفراد فافهم، وجوز أن تكون حالا مقدرة أيضا من فاعل اركبوا، واعترض بأنه لا عائد على ذي الحال، وضمير بسم الله للمبتدأ وتقديره أي فإجراؤها معكم أو بكم كائن بسم الله تكلف، والقول بأن الرضي قد ذكر أن الجملة الحالية إذا كانت اسمية قد تخلو من الرابطين عند ظهور الملابسة نحو خرجت زيد على الباب ليس بشيء لضعف ما ذكر في العربية فلا ينبغي التخريج عليه نعم كون الاسمية لا بد فيها من الواو، والقول بأن الحال المقدرة لا تكون جملة مطلقا كل منهما في حيز المنع كما لا يخفى، وجوز أن يكون الاسم مقحما كما في قول لبيد: الضحاك
فقوما وقولا بالذي قد عرفتما ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وقرأ -مجراها ومرساها- بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين على أنهما من جرى ورسا الثلاثيين وقرأ -مجريها ومرسيها- بصيغة اسم الفاعل، وخرج ذلك مجاهد على أنهما صفتان للاسم الجليل، وقيل عليه: إن إضافة اسم الفاعل إذا كان بمعنى المستقبل لفظية فهو نكرة لا يصح توصيف المعرفة به فالحق البدلية، والقول بأن مراد المعرب الصفة المعنوية لا النعت النحوي فلا ينافي البدلية بعيد لكن عن الخليل إن ما كانت إضافته غير محضة قد يصح أن تجعل محضة فتعرف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرف، والرسو الثبوت والاستقرار، ومنه قول الشاعر: أبو البقاء
فصبرت نفسا عند ذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع