ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات السابقة إلى هنا، وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات أي بمراتب الروحانيات كالقلب، والسر، والروح، والخفاء، والوحدة، والأحوال، والمقامات التي يعبر بها على تلك المراتب كالتسليم، والتوكل، والرضا، وعلومها، فأتمهن بالسلوك إلى الله تعالى، وفي الله تعالى، حتى الفناء فيه، قال إني جاعلك للناس إماما بالبقاء بعد الفناء والرجوع إلى الخلق من الحق تؤمهم وتهديهم سلوك سبيلي، ويقتدون بك فيهتدون، قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين فلا يكونون خلفائي مع ظلمهم، وظلمتهم برؤية الأغيار ومجاوزة الحدود، وإذ جعلنا بيت القلب مرجعا للناس، ومحل أمن وسلامة لهم إذا وصلوا إليه، وسكنوا فيه، من شر غوائل صفات النفس، وفتك قتال القوى الطبيعية، وإفسادها، وتخييل شياطين الوهم والخيال، وإغوائهم، واتخذوا من مقام إبراهيم الذي هو مقام الروح والخلة موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة والخلة الذوقية، وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس، ونجاسات وساوس الشيطان، وأرجاس دواعي الهوى، وأدناس صفات القوى للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم، والواصلين إلى مقامه بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال والخاضعين الذين بلغوا إلى مقام تجلي الصفات، وكمال مرتبة الرضا الغائبين في الوحدة الفانين فيها، وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا الصدر الذي هو حريم القلب بلدا آمنا من استيلاء صفات النفس، واغتيال العدو اللعين وتخطف جن القوى البدنية وارزق أهله من ثمرات معارف الروح من وحد الله تعالى منهم وعلم المعاد إليه، قال ومن احتجب أيضا من الذين يسكنون الصدر ولا يجاوزون حده بالترقي إلى مقام [ ص: 393 ] العين لاحتجاجهم بالعلم الذي وعاؤه الصدر فأمتعه قليلا من المعاني العقلية، والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالم الروح على حسب استعدادهم، ثم أضطره إلى عذاب نار الحرمان والحجاب، وبئس المصير مصيرهم لتعذيبهم بنقصانهم، وعدم تكميل نشأتهم، وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت على الكيفية التي ذكرناها قبل، وإسماعيل كذلك قائلين ربنا تقبل منا مجاهداتنا ومساعينا في السلوك إليك بإمداد التوفيق إنك أنت السميع لهواجس خواطرنا فيك، العليم بنياتنا وأسرارنا، ربنا واجعلنا مسلمين لك لا تكلنا إلى أنفسنا، ومن ذريتنا المنتمين إلينا أمة مسلمة لك وأرنا طرق الوصول إلى نفي ما سواك، وتب علينا لنفنى فيك عن أنفسنا وفنائنا، إنك أنت التواب الموفق للرجوع إليك الرحيم بمن عول دون السوى عليك، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم وهو الحقيقة المحمدية، يتلو عليهم آياتك الدالة عليك، ويعلمهم كتاب العقل الجامع لصفاتك والحكمة الدالة على نفي غيرك، ويزكيهم ويطهرهم عن دنس الشرك، إنك أنت العزيز الغالب فأنى يظهر سواك، المحكم لما ظهرت فيه، فلا يرى إلا إياك، ومن يرغب عن ملة إبراهيم وهي التوحيد الصرف إلا من احتجب عن نور العقل بالكلية، وبقي في ظلمة نفسه، ولقد اصطفيناه فكان من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية في عالم الملك، وأنه في عالم الملكوت من أهل الاستقامة الصالح لتدبير النظام، وتكميل النوع، إذ قال له ربه أسلم أي وحد، وأسلم لله تعالى ذاتك قال أسلمت لرب العالمين وفنيت فيه، ووصى بكلمة التوحيد إبراهيم بنيه السالكين على يده، وكذلك يعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم دينه الذي لا دين غيره عنده، فلا تموتن بالموت الطبيعي وموت الجهل بل كونوا ميتين بأنفسكم أحياء بالله أبدا، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة، تلك أمة قد خلت فلا تكونوا مقيدين بالتقليد البحت لهم، فليس لأحد إلا ما كسب من العلم والعمل، والاعتقاد والسيرة، فكونوا على بصيرة في أمركم، واطلبوا ما طلبوا لتنالوا ما نالوا، والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ومن دق باب الكريم ولج ولج.