قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أمر بالتوحيد على وجه أكيد، ولما كان ملاك الأمر قدمه على النهي عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعارض وإيصال الحقوق لأصحابها بقوله: ولا تنقصوا المكيال والميزان قيل: أي لا تنقصوا الناس من المكيال والميزان يعني مما يكال ويوزن على ذكر المحل وإرادة الحال، واستظهر أن المراد لا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود وكذا الصنجات، وقد تقدم في الأعراف الكيل بدل المكيال فتذكر وتأمل، إني أراكم بخير أي ملتبسين بثروة واسعة تغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما أنتم عليه بأن تتفضلوا على الناس شكرا عليها، فإن أجل شكر النعم الإحسان والتفضل على عباد الله تعالى أو أراكم بخير وغنى فلا تزيلوه بما تأتونه من الشر، وعلى كل حال الجملة في موضع التعليل للنهي، وعقب بعلة أخرى أعني قوله تعالى: وإني أخاف عليكم إن لم تنتهوا عن ذلك عذاب يوم محيط .
وجوز أن يكون تعليلا للأمر والنهي جميعا، وفسر المحيط بما لا يشذ منه أحد منهم وفسره الزمخشري بالمهلك أخذا من قوله تعالى: [ ص: 115 ] وأحيط بثمره وأصله من إحاطة العدو، وادعى أن يصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه يعني أن اليوم لما كان زمانا مشتملا على الحوادث الكائنة فيه عذابا أو غيره، فإذا أحاط بالمعذب ملتبسا بعذابه لأنه حادثة فقد اجتمع للمعذب الأمر الذي يشتمل عليه اليوم وهو العذاب كما إذا أحاط ملتبسا بنعيمه.
والحاصل أن إحاطة اليوم تدل على إحاطة كل ما فيه من العذاب، وأما إحاطة العذاب على قوم فقد يكون بأن يصيب كل فرد منهم فردا من أفراد العذاب، وأما فيما نحن فيه فيدل على إحاطة أنواع العذاب المشتمل عليها اليوم بكل فرد، ولا شك في أبلغية هذا كذا في الكشف، وتمام الكلام فيه، وقال بعض المحققين في بيان الأبلغية: إن اليوم زمان لجميع الحوادث فيوم العذاب زمان جميع أنواع العذاب الواقعة فيه، فإذا كان محيطا بالمعذب فقد اجتمع أنواع العذاب له وهذا كقوله:
إن المروءة والسماحة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
فإن وقوع العذاب في اليوم كوجود الأوصاف في القبة، وجعل اليوم محيطا بالمعذب كضرب القبة على الممدوح، فكما أن هذا كناية عن ثبوت تلك الأوصاف له كذلك ذاك كناية عن ثبوت أنواع العذاب للمعذب، وأما وصف العذاب بالإحاطة ففيه استعارة إحاطته لاشتماله على المعذب، فكما أن المحيط لا يفوته شيء من أجزاء المحاط لا يفوت العذاب شيء من أجزاء المعذب، وهذه الاستعارة تفيد أن العذاب لكل المعذب وتلك الكناية تفيد أن كل العذاب له، ولا يخفى ما بينهما من التفاوت في الأبلغية، وجوز أن يكون (محيط) نعتا لعذاب وجر للجوار، وقيل: هو نعت ليوم جار على غير من هو له والتقدير عذاب يوم محيط عذابه وليس بشيء كما لا يخفى، وأيا ما كان، فالمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال في الدنيا، وأخرج ابن جرير عن وأبو الشيخ رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الخير برخص السعر والعذاب بغلائه. ابن عباس