ويا قوم أوفوا المكيال والميزان أي أتموهما، وفائدة التصريح بذلك مع أن الانتهاء المطلوب من النهي السابق لا يتحقق بدون الإتمام فيكون مطلوبا تبعا، وهذا مسلم على المذاهب جعل النهي عن الشيء عين الأمر بالضد أو مستلزما له تضمنا أو التزاما؛ لأن الخلاف في مقتضى اللفظ لا أن التحريم أو الوجوب ينفك عن مقابلة الضد غير واحدة النعي بما كانوا عليه من القبيح وهو النقض مبالغة في الكف، ثم الأمر بالضد مبالغة في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الإشعار بتبعية الكف عكسا وتقييده بقوله سبحانه: بالقسط أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان ثم إدماج أن المطلوب من الإتمام العدل ولهذا قد يكون الفضل محرما كما في الربويات، وإلى هذا يشير كلام وظاهره حمل المكيال والميزان على ما يكال ويوزن وحملهما بعضهم في الموضعين على الآيتين المعروفتين وفسر القسط بما ذكرنا ثم قال: إن الزيادة في الكيل والوزن وإن كانت تفضلا مندوبا إليه لكنها في الآلة محظورة كالنقص، فلعل الزائد للاستعمال عند الاكتيال والناقص للاستعمال عند الكيل. الزمخشري،
وفائدة الأمر بتسوية الآلتين وتعديلهما بعد النهي عن نقصهما المبالغة في الحمل على الإيفاء والمنع والبخس، والتنبيه على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معيارا [ ص: 116 ] لظلمهم وقانونا لعدوانهم وفيه حمل اللفظ على المتبادر منه، فإن الحمل على المعنى الآخر مجاز كما أشرنا إليه، وادعى الفاضل الجلبي أن هذا الأمر بعد النهي السابق ليس من باب التكرار في شيء فقال: إن النهي قد كان عن نقص حجم المكيال وصنجات الميزان، والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال والميزان للمعهود فلا تكرار كيف ولو كان تكريرا للتأكيد والمبالغة لم يكن موضع الواو لكمال الاتصال بين الجملتين انتهى.
وتعقب بأن حمل هذين اللفظين وقد تكررا في أحد الموضعين على أحد معنيين متغايرين خلاف الظاهر، وأن في التكرار من الفوائد ما جعله أقوى من التأسيس فلا ينبغي الهرب منه، وأما العطف فلأن اختلاف المقاصد في ذينك المتعاطفين جعلهما كالمتغايرين فحسن لذلك، وقد صرح به أهل المعاني في قوله سبحانه: يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم انتهى.
وفي ورود ما تعقب به أولا تأمل فتأمل، وقوله تعالى: ولا تبخسوا الناس أشياءهم يحتمل أن يكون تعميما بعد تخصيص فإنه يشمل الجودة والرداءة وغير المكيل والموزون أيضا، فهو تذييل وتتميم لما تقدم وكذا قوله سبحانه: ولا تعثوا في الأرض مفسدين .
فإن العثي يعم تنقيض الحقوق وغيره لأنه عبارة عن مطلق الفساد وفعله من باب رمى وسعى ورضي وجاء واويا ويائيا، ويحتمل أن يكون نهيا عن بخس المكيل والموزون بعد النهي عن نقص المعيار، والأمر بإيفائه أي لا تنقصوا الناس بسبب نقص المكيال والميزان وعدم اعتدالهما أشياءهم التي يشترونها بهما، والتصريح بهذا النهي بعد ما علم في نفس النهي الأمرين السابقين للاهتمام بشأنه والترغيب في إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها، وإلى كل من الاحتمالين ذهب بعض وهو مبني على ما علمت من الاختلاف السابق في تفسير ما سبق، وقيل: المراد بالبخس المكس كأخذ العشور على نحو ما يفعل اليوم، العثي السرقة وقطع الطريق والغارة و ( مفسدين ) حال من ضمير ( تعثوا ) وفائدة ذلك إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعل الخضر عليه السلام من قتل الغلام وخرق السفينة فهو حال مؤسسة، وقيل: ليس الفائدة الإخراج المذكور، فإن المعنى لا تعثوا في الأرض بتنقيص الحقوق مثلا مفسدين مصالح دينكم وأمر آخرتكم، ومآل ذلك على ما قيل: إلى تعليل النهي كأنه قيل: لا تفسدوا في الأرض فإنه مفسد لدينكم وآخرتكم .