وزعم ابن السراج أنه اسم جمع، وعلى كل فتأنيثه غير حقيقي ولا التفات إلى كون ذلك المفرد مؤنثا حقيقيا لأنه مع طرو ما عارض ذلك ليس كسائر المفردات ولذا لم يؤنث فعله، وفي نونه لغتان: الكسر وهي المشهورة والضم وبه قرأ المفضل والأعمش والسلمي كما قال فلا عبرة بمن أنكر ذلك، وهو إذ ذاك اسم جمع بلا خلاف، ويكسر للكثرة على نساء ونسوان، وكن فيما روي عن مقاتل خمسا: امرأة الخباز وامرأة الساقي وامرأة البواب وامرأة السجان وامرأة صاحب الدواب. القرطبي
وروى أنهن كن أربعا بإسقاط امرأة البواب الكلبي في المدينة أريد بها مصر، والجار والمجرور في موضع الصفة –لنسوة- على ما استظهره بعضهم، ووصفن بذلك لأن إغاظة كلامهن بهذا الاعتبار لاتصافهن بما يقوي جانب الصدق أكثر فإن كلام البدويات لبعدهن عن مظان الاجتماع والاطلاع على حقيقة أحوال الحضريات القصريات لا يلتفت إلى كلامهن فلا يغيظ تلك الإغاظة، والكثير على اختيار تعلقه –بقال- ومعنى كون قولهن في المدينة إشاعته وإفشاؤه فيها، وتعقب بأن ذلك خلاف الظاهر امرأت العزيز هو في الأصل الذي يقهر ولا يقهر كأنه مأخوذ من عز أي حصل في عزاز وهي الأرض الصلبة التي يصعب وطؤها [ ص: 226 ] ويطلق على الملك، ولعلهم كانوا يطلقونه إذ ذاك فيما بينهم على كل من ولاه الملك على بعض مخصوص من الولايات التي لها شأن فكان من خواصه ذوي القدر الرفيع والمحل المنيع، وهو بهذا المعنى مراد هنا لأنه أريد به قطفير، وهو في المشهور كما علمت إنما كان على خزائن الملك -وكان الملك الريان بن الوليد- وقيل: المراد به الملك، وكان قطفير ملك مصر وإسكندرية، وإضافتهن لها إليه بهذا العنوان دون أن يصرحن باسمها أو اسمه ليظهر كونها من ذوات الأخطار فيكون عونا على إشاعة الخبر بحكم أن النفوس إلى سماع أخبار ذوي الأخطار أميل، وقيل -وهو الأولى- إن ذاك لقصد المبالغة في لومها بقولهن تراود فتاها عن نفسه أي تطلب مواقعته إياها وتتمحل في ذلك، وإيثارهن صيغة المضارع للدلالة على دوام المراودة كأنها صارت سجية لها، والفتى من الناس الطري من الشبان، وأصله فتي بالياء لقولهم في التثنية -وهي ترد الأشياء إلى أصولها- فتيان، فالفتوة على هذا شاذ، وجمعه فتية وفتيان، وقيل: إنه يائي وواوي ككنوت وكنيت، وله نظائر كثيرة، ويطلق على المملوك والخادم لما أن جل الخدمة شبان.
وفي الحديث "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي". وأطلق على يوسف عليه السلام هنا لأنه كان يخدمها، وقيل: لأن زوجها وهبه لها فهو مملوكها بزعم النسوة، وتعبيرهن عنه عليه السلام بذلك مضافا إليها لا إلى العزيز لإبانة ما بينهما من التباين البين الناشئ عن الخادمية والمخدومية أو المالكية والمملوكية؛ وكل ذلك لتربية ما مر من المبالغة في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوج دنيء قد تعذر في مراودة الأخدان لا سيما إذا كان فيهم علو الجناب، وأما التي لها زوج وأي زوج فمراودتها لغيره لا سيما لمن لم يكن بينها وبينه كفاءة لها وتماديها في ذلك غاية الغي ونهاية الضلال قد شغفها حبا أي شق حبه شغاف قلبها وهو حجابه.
وقيل: هو جلدة رقيقة يقال لها: لسان القلب حتى وصل إلى فؤادها، وبهذا يحصل المبالغة في وصفها بالحب له، وقيل: الشغاف سويداء القلب، فالمبالغة حينئذ ظاهرة، وإلى هذا يرجع ما روي عن من أن الشغاف باطن القلب، وما حكي عن الحسن أبي علي من أنه وسطه والفعل مفتوح الغين المعجمة عند الجمهور.
وقرأ ثابت البناني بكسرها وهي لغة تميم، وقرأ كرم الله تعالى وجهه، علي وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر رضي الله تعالى عنهما والشعبي وعوف الأعرابي –شعفها- بفتح العين المهملة، وهي رواية عن قتادة وابن هرمز ، ومجاهد وحميد وروي عن والزهري، ثابت البناني أنه قرأ كذلك أيضا إلا أنه كسر العين، وهو من شعف البعير إذ هنأه فأحرقه بالقطران، فالمعنى وصل حبه إلى قلبها فكاد يحترق، ومن هذا قول الأعشى:
يعصي الوشاة وكان الحب آونة مما يزين للمشعوف ما صنعا
وذكر أنه من شعفة القلب وهي رأسه عند معلق النياط، ويقال: لأعلى الجبل شعفة أيضا، وأخرج الراغب ، ابن أبي حاتم عن وأبو الشيخ أن الشغف الحب القاتل، والشعف حب دون ذلك، وأخرجا عن ابن عباس أن الشغف الحب، والشعف الجنون، وأخرجا أيضا عن الشعبي أن الشغف في الحب، والشعف في البغض، وهذا المعنى ممتنع الإرادة هنا على هذه القراءة، وفي كتاب أسرار البلاغة في فصل ترتيب الحب [ ص: 227 ] أن أول مراتب الحب الهوى، ثم العلاقة وهي الحب اللازم للقلب ثم الكلف وهو شدة الحب، ثم العشق وهو اسم لما فضل عن المقدار المسمى بالحب، ثم الشعف بالمهملة وهو احتراق القلب مع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج، ثم الشغف بالمعجمة وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب، ثم الجوى وهو الهوى الباطن، ثم التيم وهو أن يستعبده الحب، ثم التبل وهو أن يسقمه الحب، ثم التدله وهو ذهاب العقل من الحب، ثم الهيوم وهو أن يذهب الرجل على وجهه لغلبة الهوى عليه، اهـ. ابن زيدورتب بعضهم ذلك على طرز آخر والله تعالى أعلم، وأيا ما كان فالجملة إما خبر ثان أو حال من فاعل (تراود) أو من مفعوله، والمقصود منها تكرير اللوم وتأكيد العذل ببيان اختلاف أحوالها القلبية كأحوالها القالبية، وجوز كونها استئنافية فهي حينئذ على ما قيل: في موضع التعليل لدوام المراودة، وليس بذاك لأنه إن اعتبر من حيث الإنية كان مصيره إلى الاستدلال بالأخفى على الأجلى، وإن اعتبر من حديث اللمية كان فيه ميل إلى تمهيد العذر من قبلها وليس المقام له، وانتصاب (حبا) على التمييز وهو محول عن الفاعل إذ الأصل قد شغفها حبه كما أشير إليه، وأدغم النحويان أبو البقاء وحمزة وهشام وابن محيصن دال (قد) في شين شغفها.
إنا لنراها أي نعلمها فالرؤية قلبية واستعمالها بمعنى العلم حقيقة كاستعمالها بمعنى الإحساس بالبصر، وإذا أريد منها البصرية ثم تجوز بها عن العلمية كان أبلغ في إفادة كونها فيما صنعت من المراودة والمحبة المفرطة مستقرة في ضلال عظيم عن طريق الرشد والصواب أو سنن العقل مبين واضح لا يخفى كونه ضلالا على أحد، أو مظهر لأمرها بين الناس، فالتنوين للتفخيم والجملة مقررة لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع، وتسجيل عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم، وإنما لم يقلن: إنها لفي ضلال مبين إشعارا كما قيل: بأن ذلك الحكم غير صادر منهن مجازفة، بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه، وصح اللوم على الشغف قيل: لأنه اختياري باعتبار مباديه كما يشير إليه قوله:
مازحته فعشقته والعشق أوله مزاح
يا لائمي في الهوى العذري معذرة مني إليك ولو أنصفت لم تلم
لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يسبيه لم يسبه