وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاص وابنه عبد الله وابن عمر ومعاوية والحسن وزيد بن علي وابن عامر وحمزة ( حامية ) بالياء أي حارة ، وأنكر هذه القراءة والكسائي رضي الله تعالى عنهما أول ما سمعها ، فقد أخرج ابن عباس عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر من طريق وابن أبي حاتم عثمان بن أبي حاضر أن ذكر له أن ابن عباس قرأ ( في عين حامية ) فقال له : ما نقرؤها إلا (حمئة) فسأل معاوية معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرأها؟
فقال : كما قرأتها فقلت : في بيتي نزل القرآن فأرسل إلى كعب فقال له : أين تجد الشمس تغرب في التوراة فقال كعب : سل أهل العزيمة فإنهم أعلم بها، وأما أنا فإني لم أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب ، قال ابن أبي حاضر : لو أني [ ص: 32 ] عندكما أيدتك بكلام تزاد به بصيرة في (حمئة) ، قال : وما هو؟ قلت : قول تبع فيما ذكر به ابن عباس ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه قد كان ذو القرنين إلى آخر الأبيات الثلاثة السابقة، ومحل الشاهد قوله :
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد
فقال : ما الخلب؟ قال ابن عباس ابن أبي حاضر الطين بكلامهم فقال : فما الثأط؟ قال : الحمأة فقال : فما الحرمد؟ قال : الأسود فدعا غلاما فقال : اكتب ما يقول هذا الرجل ولا يخفى أنه ليس بين القراءتين منافاة قطعية لجواز كون العين جامعة بين الوصفين بأن تكون ذات طين أسود وماؤها حار ولجواز كون القراءة بالياء أصلها من المهموز قلبت همزته ياء لانكسار ما قبلها وإن كان ذلك إنما يطرد إذا كانت الهمزة ساكنة كذا قيل : وتعقب بأنه يأباه ما جرى بين ابن عباس ابن عباس ومعاوية .
وأجيب بأنه إذا سلم صحته فمبناه السماع والتحكيم لترجيح إحدى القراءتين ، وظاهر ما سمعت ترجيح قراءة رضي الله تعالى عنهما ، وكأن رجوع ابن عباس لقراءة معاوية على ما ذكره ابن عباس كان لذلك . القرطبي
نعم ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وصححه والحاكم قال : كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حمار فرأى الشمس حين غربت فقال : أتدري حيث تغرب؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإنها تغرب في عين حامية غير مهموزة أبي ذر ، يوافق قراءة عن ويدل على أن معاوية في عين متعلق بتغرب كما هو الظاهر ، وقول بعض المتعسفين بأنه متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل (وجدها) مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وكأن الذي دعاه إلى القول بذلك لزوم إشكال على الظاهر فإن جرم الشمس أكبر من جسم الأرض بأضعاف مضاعفة، فكيف يمكن دخولها في عين ماء في الأرض ، وهو مدفوع بأن المراد وجدها في نظر العين كذلك إذ لم ير هناك إلا الماء لا أنها كذلك حقيقة وهذا كما أن راكب البحر يراها كأنها تطلع من البحر وتغيب فيه إذا لم ير الشط والذي في أرض ملساء واسعة يراها أيضا كأنها تطلع من الأرض وتغيب فيها ، ولا يرد على هذا أنه عبر بوجد والوجدان يدل على الوجود لما أن وجد يكون بمعنى رأى كما ذكره فليكن هنا بهذا المعنى ، ثم المراد بالعين الحمئة إما عين في البحر أو البحر نفسه وتسميته عينا مما لا بأس به خصوصا وهو بالنسبة لعظمة الله تعالى كقطرة وإن عظم عندنا . الراغب
وزعم بعض البغداديين أن (في) بمعنى عند أي تغرب عند عين ، ومن الناس من زعم أن الآية على ظاهرها ولا يعجز الله تعالى شيء ، ونحن نقر بعظم قدرة الله عز وجل ولا نلتفت إلى هذا القول ، ومثله ما نقله الطرطوشي من أنها يبلعها حوت بل هذا كلام لا يقبله إلا الصبيان ونحوهم فإنها قد تبقى طالعة في بعض الآفاق ستة أشهر وغاربة كذلك كما في أفق عرض تسعين وقد تغيب في مقدار ساعة ويظهر نورها من قبل المشرق في بعض العروض كما في بلغاريا في بعض أيام السنة فالشمس على ما هو الحق لم تزل سائرة طالعة على قوم غاربة على آخرين بحسب آفاقهم بل قال : لا خلاف في ذلك ، ويدل على ما ذكر ما أخرجه إمام الحرمين في تفسيره ابن أبي حاتم في العظمة عن وأبو الشيخ قال: الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فإذا غربت جرت الليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من شرقها وكذلك القمر ، وكذا ما أخرجه ابن عباس عن ابن عساكر أن الزهري خزيمة بن حكيم السلمي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سخونة الماء في الشتاء وبرده في الصيف فقال : إن الشمس إذا سقطت تحت الأرض سارت حتى تطلع من مكانها، فإذا طال الليل كثر لبثها في الأرض فيسخن [ ص: 33 ] الماء لذلك فإذا كان الصيف مرت مسرعة لا تلبث تحت الأرض لقصر الليل فثبت الماء على حاله باردا ، ولا يخفى أن هذا السير تحت الأرض تختلف فيه الشمس من حيث المسامتة بحسب الآفاق والأوقات فتسامت الأقدام تارة ولا تسامتها أخرى فما أخرجه عن أبو الشيخ قال : إذا غربت الشمس دارت في فلك السماء مما يلي دبر القبلة حتى ترجع إلى المشرق الذي تطلع منه وتجري منه في السماء من شرقها إلى غربها ثم ترجع إلى الأفق مما يلي دبر القبلة إلى شرقها كذلك هي مسخرة في فلكها وكذلك القمر لا يكاد يصح . ويشكل على ما ذكر ما أخرجه الحسن البخاري قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال : يا أبي ذر أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت الله ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فذلك قوله تعالى : أبا ذر والشمس تجري لمستقر لها . عن
وأجيب بأن المراد أنها تذهب تحت الأرض حتى تصل إلى غاية الانحطاط وهي عند وصولها دائرة نصف النهار في سمت القدم بالنسبة إلى أفق القوم الذين غربت عنهم، وذلك الوصول أشبه شيء بالسجود بل لا مانع أن تسجد هناك سجودا حقيقيا لائقا بها، فالمراد من تحت العرش مكانا مخصوصا مسامتا لبعض أجزاء العرش وإلا فهي في كل وقت تحت العرش وفي جوفه ، وهذا مبني على أنه جسم كري محيط بسائر الأفلاك والفلكيات وبه تحدد الجهات وهذا قول الفلاسفة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه ما يتعلق بذلك ، وعلى ما ذكر فالمراد بمستقرها محل انتهاء انحطاطها فهي تجري عند كل قوم لذلك المحل ثم تشرع في الارتفاع ، وقال الخطابي : يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش أنها تستقر تحته استقرارا لا نحيط به نحن وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق عن دورانها في سيرها انتهى ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك في سورة يس ، وبالجملة لا يلزم على هذا التأويل خروج الشمس عن فلكها الممثل، بل ولا عن خارج المركز وإن اختلف قربها وبعدها من العرش بالنسبة إلى حركتها في ذلك الخارج .
نعم ورد في بعض الآثار ما يدل على خروجها عن حيزها ، فعن رضي الله تعالى عنهما أن الشمس إذا غربت رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع ثم ينطلق بها ما بين السماء السابعة وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر حيال المشرق من سماء إلى سماء فإذا وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الصبح، فإذا وصلت إلى هذا الوجه من السماء فذلك حين تطلع الشمس وهو وإن لم تأباه قواعدنا من شمول قدرة الله تعالى سائر الممكنات وعدم امتناع الخرق والالتئام على الفلك مطلقا إلا أنه لا يتسنى مع تحقق غروبها عند قوم وطلوعها عند آخرين، وبقائها طالعة نحو ستة أشهر في بعض العروض إلى غير ذلك مما لا يخفى فلعل الخبر غير صحيح . ابن عباس
وقد نص الجلال السيوطي على أن أبا الشيخ رواه بسند واه ثم إن الظاهر على رواية ورواية البخاري ومن معه أن ابن أبي شيبة رضي الله تعالى عنه سئل مرتين إلا أنه رد العلم في الثانية إلى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم طلبا لزيادة الفائدة ومبالغة في الأدب مع الرسول عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم . أبا ذر
ووجد عندها أي : عند تلك العين على ساحل البحر (قوما) لباسهم على ما قيل : جلود السباع وطعامهم ما لفظه البحر ، قال : هم قوم يقال لهم : ناسك لا يحصيهم كثرة إلا الله تعالى . وهب بن منبه
وقال أبو زيد السهيلي : هم قوم من نسل ثمود كانوا يسكنون جابرسا وهي مدينة عظيمة لها اثنا عشر بابا [ ص: 34 ] ويقال لها بالسريانية : جرجيسا ، وروي نحو ذلك عن ، وزعم ابن جريج ابن السائب أنه كان فيهم مؤمنون وكافرون ، والذي عليه الجمهور أنهم كانوا كفارا فخيره الله تعالى بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى : قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب بالقتل من أول الأمر وإما أن تتخذ فيهم حسنا أي أمرا ذا حسن على حذف المضاف أو على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة وذلك بالدعوة إلى الحق والإرشاد إلى ما فيه الفوز بالدرجات، ومحل إن مع صلته إما الرفع على الابتداء أو على الخبر، وإما النصب على المفعولية، إما تعذيبك واقع أو إما أمرك تعذيبك أو إما تفعل أو توقع تعذيبك وهكذا الحال في الاتخاذ ، وقدم التعذيب لأنه الذي يستحقونه في الحال لكفرهم ، وفي التعبير- بإما أن تتخذ فيهم حسنا- دون إما أن تدعوهم مثلا إيماء إلى ترجيح الشق الثاني ، واستدل بالآية من قال بنبوته ، والقول عند بعضهم بواسطة ملك وعند آخرين كفاحا ومن لم يقل بنبوته قال : كان الخطاب بواسطة نبي في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاما لا وحيا بعد أن كان ذلك التخيير موافقا لشريعة ذلك النبي . وتعقب هذا بأن مثل هذا التخيير المتضمن لإزهاق النفوس لا يجوز أن يكون بالإلهام دون الإعلام وإن وافق شريعة ، ونقض ذلك بقصة إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه بالرؤيا وهي دون الإلهام ، وفيه أن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وإلهاماتهم وحي كما بين في محله ، والكلام هنا على تقدير عدم النبوة وهو ظاهر .
وقال علي بن عيسى : المعنى: قلنا يا محمد قالوا أي جنده الذين كانوا معه يا ذا القرنين فحذف القول اعتمادا على ظهور أنه ليس بنبي وهو من التكلف بمكان ، وقريب منه دعوى أن القائل العلماء الذين معه قالوه عن اجتهاد ومشاورة له بذلك، ونسبه الله تعالى إليه مجازا ، والحق أن الآية ظاهرة الدلالة في نبوته، ولعلها أظهر في ذلك من دلالة قوله تعالى : وما فعلته عن أمري على نبوة الخضر عليه السلام ، وكأن الداعي إلى صرفها عن الظاهر الأخبار الدالة على خلافها ، ولعل الأولى في تأويلها أن يقال : كان القول بواسطة نبي .